التحولات التي شهدتها الخارطة السياسية للدولة السودانية وآليات الحلول المطروحة للخروج من الأزمة السياسية.

منذ استقلال السودان في عام 1956، ظل المشهد السياسي يتسم بالتقلبات الحادة، نتيجة اختلالات بنيوية في تركيبة الدولة، وتراكمات تاريخية من التهميش والصراعات الأيديولوجية. وقد تجلت هذه الاختلالات في سلسلة من الانقلابات العسكرية، والحروب الأهلية، وانعدام الاستقرار السياسي، مما جعل السودان واحدًا من أكثر الدول هشاشة في المنطقة.
وجاءت الثورة السودانية في ديسمبر 2018 كمحاولة شعبية جريئة لإعادة تشكيل الخارطة السياسية، حيث تصدرت المكونات المدنية المشهد، مطالبة بإسقاط النظام الاستبدادي وبناء دولة مدنية ديمقراطية. لكن هذه الطموحات اصطدمت بواقع سياسي معقد، إذ افتقرت القوى المدنية إلى رؤية استراتيجية واضحة، وانقسمت إلى تكتلات متناحرة، مما أضعف قدرتها على إدارة المرحلة الانتقالية، وأدى إلى انهيار التوافق السياسي، وانفجار الحرب في أبريل 2023.
لقد كشفت هذه الحرب عن هشاشة البنية السياسية السودانية، وعن فشل النخب المدنية والعسكرية في بناء مشروع وطني جامع. فالمكونات المدنية، رغم دورها المحوري في إسقاط نظام الإنقاذ، لم تكن مهيأة لتولي زمام المبادرة، حيث غابت عنها البرامج السياسية المتماسكة، وانعدمت خارطة طريق واضحة لتحقيق أهداف الثورة. هذا الفراغ السياسي أتاح للمؤسسة العسكرية فرصة إعادة التموضع، مما أدى إلى تصاعد التوترات، وانهيار الترتيبات الانتقالية.
وفي هذا السياق، يرى عدد من الخبراء السياسيين، من بينهم إليس دي وال، أن الأزمة السودانية لا يمكن حلها عبر أدوات تقليدية، بل تتطلب إعادة تعريف الدولة نفسها، من خلال عملية سياسية شاملة تعالج جذور الأزمة، وتضع في الاعتبار تعقيدات الهوية، وتعدد الأقاليم، وتاريخ التهميش. ويؤكد دي وال على ضرورة صياغة عقد اجتماعي جديد، يضمن مشاركة كافة المكونات في السلطة، ويؤسس لنظام حكم لا مركزي يعكس التنوع الجغرافي والثقافي.
أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى آليات حلول تتجاوز منطق المحاصصة، وتقوم على أسس وطنية خالصة. من أبرز هذه الآليات، الدعوة إلى بناء الثقة بين القوى السياسية والمدنية، عبر إطلاق حوار سوداني شامل، غير مشروط، يهدف إلى تفكيك أسباب النزاع، وتحديد أولويات المرحلة الانتقالية. هذا الحوار يجب أن يكون سودانيًا خالصًا، بعيدًا عن التدخلات الخارجية التي غالبًا ما تعمق الانقسامات، مع ضرورة وجود ضمانات دولية لحماية مخرجاته.
ومن بين المطلوبات الوطنية الأساسية، ضرورة التعامل مع المؤسسات الأمنية والعسكرية وفقًا لبرنامج الإصلاح الوطني الشامل، الذي يقوده رئيس مجلس الوزراء. هذا البرنامج يهدف إلى إعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أسس الكفاءة والشفافية والحوكمة الرشيدة، ويشمل مراجعة هياكل الوزارات، محاربة الفساد، وتقييم الأداء المؤسسي، بالإضافة إلى اقتراح سياسات وتشريعات جديدة تضمن استقلالية المؤسسات عن التأثيرات الحزبية. ويُعد هذا البرنامج خطوة ضرورية لبناء مؤسسات فاعلة، قادرة على تقديم الخدمات، واستعادة ثقة المواطن.
لكن الإصلاح المؤسسي لا يمكن أن يحقق أهدافه دون إصلاح سياسي شامل يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويؤسس لنظام ديمقراطي حقيقي. وهذا يتطلب الجلوس على طاولة المفاوضات، لإجراء عملية تصالح داخلية، تقوم على أساس برنامج الحد الأدنى، وفقًا للأجندة الوطنية والمبادئ الأساسية لصناعة تحول ديمقراطي سوداني خالص. هذا البرنامج يجب أن يتضمن تفكيك الدولة العميقة، وإعادة بناء مؤسسات العدالة، وضمان حرية التعبير والتنظيم، بالإضافة إلى إعادة توزيع الثروة والسلطة بشكل عادل بين الأقاليم.
إن التحولات السياسية التي شهدها السودان، خاصة بعد حرب أبريل، تكشف عن أزمة عميقة في بنية الدولة، وفي طبيعة العلاقة بين المكونات السياسية والمدنية. فالثورة التي كانت من المفترض أن تؤسس لمرحلة جديدة، تحولت إلى صراع مفتوح، بسبب غياب الرؤية، وتفكك التحالفات، وتغول المؤسسة العسكرية. ومع ذلك، فإن الأزمة الحالية يمكن أن تكون فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، إذا ما توفرت الإرادة السياسية، وتم تبني برنامج وطني شامل، يضع مصلحة السودان فوق المصالح الحزبية والجهوية.
إن الخروج من الأزمة السياسية الراهنة يتطلب أكثر من مجرد تسويات مؤقتة؛ بل يحتاج إلى مشروع وطني جامع، يشارك فيه الجميع، ويقوم على مبادئ العدالة والمواطنة والمشاركة. هذا المشروع يجب أن يكون نتاجًا لحوار داخلي صادق، يضع حدًا لدورات العنف، ويؤسس لدولة مدنية ديمقراطية، تحترم التنوع، وتضمن الحقوق، وتحقق التنمية. فالسودان لا يحتاج إلى إعادة إنتاج الماضي، بل إلى رؤية استراتيجية جديدة، تعيد تعريف الدولة، وتؤسس لعقد اجتماعي جديد، يكون أساسًا لتحول سياسي حقيقي يعيد للسودان مكانته في الإقليم والعالم.
٣٠ اغسطس ٢٠٢٥ م