غادرت البروفسور سُعاد الفاتح البدوي دنيا الفناء إلى دار البقاء، فهي الآن عند مليكٍ مقتدرٍ، وذاكم في يوم الجمعة 23 ديسمبر (كانون الأول) 2022، بعد أن أمضت جُلَّ عمرها في العلم والبحث والتدريس والدعوة إلى الله -سياسةً واجتماعاً، فقهاً وأصولاً، وتفسيراً لكتاب الله وتأويلاً، في الجامعات والمنابر، والندوات الصفوية، واللقاءات الجماهيرية، طوال ما يزيد عن نصف قرنٍ من الزمان. فالموتُ لا محالة مُدركنا جميعاً، تصديقاً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”، وتأكيداً لِما أنشده الشاعر العربي كعب بن زهير بن أبي سُلمى أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كُلُ ابنِ أُنثى وإن طالت سَلامَتُهُ
يَوماً على ألةٍ حَدْبَاءَ مَحمُولُ
لقد رحلت البروفسور سُعاد الفاتح عن دنيانا الزائلة في يومٍ، هو خيرُ يومٍ طلعت عليه الشمس، ألا وهو يوم الجمعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا”.
وُلدت البروفسور الراحلة سُعاد الفاتح البدوي بمدينة الأبيض حاضرة كردفان، رغم أن أهليها من أم درمان، في مطلع ثلاثينات القرن الماضي، في بيت علمٍ وزُهدٍ. وكان جدها الشيخ البدوي، ممن يُزار، ويأتي إليه الناسُ من بلادٍ بعيدةٍ.
فلا غروَّ أن تلقت العلم في الخلوة، على الرغم من أن الخلوة في ذاكم الزمان لم يُسمح للبنات ارتيادها، ولكنها كانت في بيت جدها. وقد أظهرت نبوغاً مبكراً، وتفوقاً ملحوظاً في العلم والدراسة، إضافةً إلى رعاية جدها ووالدها، مما يسر لها مواصلة تعليمها في المراحل الدراسية الأولى. ولكنها لم تكتفِ بما حصلت عليه من حظٍ في العلم والتعلم، بتشجيعٍ مستمرٍ من جدها ووالدها، إلى أن تم قبولها مع ثلةٍ قليلةٍ من الطالبات في كلية الآداب بكلية غردون في عام 1952، حيثُ تخرجت في كلية الآداب بجامعة الخرطوم في عام 1956. وكانت واحدة من أربع طالباتٍ حصلن على بكالوريوس الآداب آنذاك. وعملت فور تخرجها لبضع سنواتٍ، معلمةً في التعليم الثانوي في عدد من المدارس الثانوية في العاصمة والأقاليم. وابتُعثت إلى بريطانيا لمواصلة دراستها في جامعة لندن، ومن ثم حصُلت على درجة الماجستير في الآداب عن دراسة في الإمام محمد أحمد المهدي، وذلك في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة لجامعة لندن في عام 1961.
وتسنمت البروفسور الراحلة سعاد الفاتح بعد عودتها من بريطانيا رئاسة قسم التاريخ في معهد المعلمين، ثم ما لبثت أن انتقلت للعمل مستشارة لتعليم البنات لدى منظمة اليونسكو في المملكة العربية السعودية في عام 1969. وعُينت عميدة لكلية البنات الجامعية في الرياض، وساهمت إسهاماً فاعلاً في إنشاء كلية التربية في الرياض. وعادت إلى السودان لإكمال دراستها للدكتوراه في اللغة العربية في جامعة الخرطوم. وبعد حصولها على الدكتوراه عملت نائب مستشارٍ في جامعة العين بالإمارات العربية المتحدة، ثم عادت إلى السودان، حيثُ عملت عميدة لكلية البنات بجامعة أم درمان الإسلامية، في عام 1983، لتصبح أول امرأة تشغل منصب عميد كلية في الجامعات السودانية، بعد أن عملت عميدة لكلية البنات الجامعية في السعودية.
وحصلت البروفسور الراحلة سُعاد الفاتح على فرصة للدراسة لِما فوق الدكتوراه في جامعة أدنبرة بأسكتلندا في عام 1990. وحققت تميزاً ونجاحاً على الأكاديميات السودانيات، بحصولها على درجة الأستاذية، كأول إمرأة تحصل على هذا اللقب الأكاديمي الرفيع .
وفي رأيي الخاص، لم تكن البروفسور الراحلة سُعاد الفاتح، أكاديمية فذة، بل كانت ناشطة متفردة. ولجت عالم السياسة منذ عهدها الطالبي الباكر، فكانت أول العضوات في الحركة الإسلامية في عام 1952. وعُرفت بنشاطها وحماستها في القضايا السياسية، وقضايا حقوق المرأة، حيثُ عملت في مختلف التجمعات النسائية منذ عام 1950. وكانت من المؤسِسَات للاتحاد النسائي في عام 1952. وكانت عضواً في اللجنة التنفيذية لاتحاد المرأة السوداني عندما كان موحداً، ولكنها لما استشعرت أن الحزب الشيوعي يحاول بسط سيطرته على حركة المرأة السودانية، بعد ثورة أكتوبر، وفوز الراحلة فاطمة أحمد إبراهيم كأول نائبة برلمانية ممثلة للحزب الشيوعي، أنشأت مع أُخريات الجبهة النسائية الوطنية في الستينات.
لا ينكر أحدٌ إسهامها الفاعل في تأسيس
العديد من مؤسسات الحركة الإسلامية السودانية. وظلت ناشطة إسلامية فاعلة في الخارطة السياسية السودانية. ولم تغفل دور الإعلام في نشاطها السياسي والاجتماعي والدعوي، حيثُ أصبحت أول رئيسة تحرير في مجلة “المنار” في عام 1956. وركزت عملها الصحافي في الدعوة لحقوق المرأة والدفاع عنها، وذلكم من خلال مقالاتها في مجلة “المنار” وغيرها من الوسائط الصحافية والإعلامية.
وقد عُرفت البروفسور الراحل سُعاد الفاتح بقوة الشخصية، وشدة البأس في مناهضة الباطل والفساد. ولها مواقف مشهودة في تاريخ السياسة السودانية، منها موقفها القوي في مواجهة تطاول أحد الشيوعيين على البيت النبوي الشريف، في معهد المعلمين العالي، وموقفها عند تشييع الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري الذي تُوفي بالسجن في عام 1969.
أخلص إلى أن البروفسور الراحلة سُعاد الفاتح البدوي، كانت لا تخشى في الحق لومة لائم، حيثُ تقدم نُصحها إلى القيادة بشجاعةٍ وجسارةٍ، وكانت ذات هيبةٍ وحضورٍ طاغٍ في المحافل والمنابر، منافحة بشراسةٍ من أجل الدين والوطن والمرأة. وكانت تبذل جُهداً مقدراً في مجالات العمل النسوي، عربياً وأفريقياً، فهي من الرائدات القلائل اللائي عملن من أجل نهضة المرأة الأفريقية وتقدمها. وانتخبت عضواً في برلمان عموم أفريقيا عند تأسيسه في عام 2004. وعليه كرمتها النائبات في عموم أفريقيا واعتبروها، بحقٍ وحقيقةٍ أماً لأفريقيا، عرفاناً وتقديراً لجهودها، وتكريماً لسيرتها الحافلة والملهمة في مجالات العمل النسوي.
وفي خاتمة هذه العُجالة الرثائية، أسأل الله تعالى أن تكون مؤلَفاتها وأحاديثها في الوسائط الصحافية والإعلامية -التقليدية والحديثة- من العلم النافع والصدقة الجارية التي تنتفع بها يوم القيامة. ونسأله تعالى أن يتقبل العالمة الجليلة والمجاهدة الجسورة، البروفسور سُعاد الفاتح البدوي، قبولاً طيباً حسناً، ويُلهم آلها وذويها وأهليها جميعاً وصديقاتها وزميلاتها وزملاءها وتلاميذها وعارفي علمها وفضلها، الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الصدد قول الله تعالى: “ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.