ثلاثة أعوام ونصف انقضت على التغيير السياسي الكبير الذي شهده السودان في أبريل ٢٠١٩م، والذي أنهى حقبة حكم نظام الإنقاذ أو ما يُعرف بحكم الإسلاميين، وقد كان من المفترض أن تكون الفترة الإنتقالية في السودان قد شارفت على نهايتها الآن بموجب “الوثيقة الدستورية” التي تم توقيعها في ١٧ أغسطس من ذلك العام إذ لم يبق من تلك المدة إلا شهر واحد !!
النهاية المفترضة للفترة الإنتقالية كانت تعني أن مؤسساتها قد اكتملت قبل ثلاثة أعوام، وأن كل قضايا الإنتقال قد أُنجزت على النحو الذي تطلع إليه شعب السودان، وأن بلادنا الآن تنعم بالسلام والحرية والعدالة وأنها شهدت أنزه تجربة انتخابية و تحولت إلى واحة من الديمقراطية وسط محيط من الأنظمة الشمولية؛ لكن تلك الأحلام الجميلة تحولت في واقع الأمر إلى كوابيس، فشبح الحرب الأهلية أطل برأسه، والشمولية والجوع والخوف نصبوا خيامهم في مدن وأرياف بلادنا !!
(٢)
هذا الواقع المؤلم والمحزن لم يكن وليد صدفة. قد لا يكون تمّ التخطيط له ليكون كما هو ماثل، لكن أي عاقل يعرف إن المقدمات التي فرضتها القوى الدولية والإقليمية التي هيمنت على مشهد التغيير وما زالت، كان من الطبيعي أن تفضي إلى هذه النتيجة أو أية نتيجة أخرى مشابهة. وللتدليل على ذلك، دعونا نسترجع السياق الذي تمّت فيه الإطاحة بنظام الإنقاذ.
فمنذ أواخر العام ٢٠١٨ بدا واضحاً أن حكم الإنقاذ يمر بأخطر منعطفاته، بسبب الخلافات الداخلية بين أقطابه حول الوجهة التي ينبغي أن يتوجهها لإيجاد حلول لمشكلاته التي استطالت والتي سببها الخناق الإقتصادي والحصار الدبلوماسي الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها الغربية على النظام، واستمر لسبعةٍ وعشرين عاماً، وقد أمكن لتلك القوى الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والإقليمية بقيادة إسرائيل أن تنجح في إبقاء أوضاع البلاد في وضع متأزم، وإشعال الحروب الأهلية في الشرق والغرب من بعد الجنوب، وعرقلة أي حلول سياسية أو اقتصادية يقترب منها النظام.
وقد كان سقوط النظام في أبريل ٢٠١٩م بمثابة التتويج لتلك الجهود المتعاضدة والمستمرة، بيد أن الدوافع الأساسية وراء تعاضد تلك الجهود كانت هي الرغبة في التخلص من نظام يعتبرونه إسلامياً ويعرفون وشائج القربى بينه وبين الحركات والتيارات الإسلامية في المنطقة، وهي تيارات مصنفة خصماً لحلفاء أمريكا في المنطقة وعلى رأسهم إسرائيل.
(٣)
سقط النظام، وكان الظن الغالب عند القوى السياسية التي عُهد إليها بقيادة الحراك الشعبي في الشارع أنه بمجرد السقوط سيتسابق العالم نحو السودان جرياً وحبواً، فيتم رفع العقوبات وتطبيع العلاقات، وتتدفق المعونات والاستثمارات، وتتحول البلاد خلال سنوات معدودة إلى واحة للاستقرار والرخاء. وقد أفرطت تلك القوى السياسية في التفاؤل بسرعة حدوث ذلك إلى الدرجة التي كان شعارهم الأبرز “تسقط بس” ، ثمّ انتقلت تلك الحالة المفرطة في التفاؤل إلى القطاعات الشبابية التي تمت تعبئتها للخروج إلى الشارع، فتخيلوا أن القوى الدولية التي حاصرت النظام لثلاثة عقود وساندت ودعمت حراكهم، هي أحرص ما يكون على إنجاز الاستقرار والتحول الديمقراطي في السودان، وأنها ستفعل كل شئ لجعل هذا الأمر ممكناً وبأسرع وقت.
تسلمت القوى المدنية زمام السلطة في البلاد لحولين كاملين، لكنها لم تضع ولو لبنة واحدة في بنيان الاستقرار السياسي أو التحول الديمقراطي، بل على العكس من ذلك أخلفوا وعدهم بتعيين برلمان إنتقالي وألغوا وجود المحكمة الدستورية وأشهروا سيف الفصل والتشريد على رقاب العاملين في أجهزة القضاء والنيابة إمعاناً في الاستحواذ على السلطات الثلاث، وأغلقوا مؤسسات صحفية وإعلامية وشردوا مئات العاملين فيها، وشرعوا في خوض حرب ضروس ضد القيم الدينية والمجتمعية التي عرفها السودانيون وعاشوا بها آلاف السنين، وأشاعوا خطاب الكراهية والعنف والتحريض.
حدث هذا كله، وحدث غيره من الانتهاكات الصارخة للحقوق السياسية والمدنية، لكن القوى الدولية التي ناصبت النظام السابق العداء ودعمت ونظمت الحراك الشعبي ضده، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لم يفتح الله عليها ببيان أو تصريح تدين أو تستنكر أو حتى تعاتب فيه دعاة الحكم المدني الديمقراطي على سلوكهم المفارق للديمقراطية. والسبب في ذلك هو أنهم يعتقدون أن المستهدفين بتلك الإجراءات القمعية هم إما من حلفاء نظام الإنقاذ أو من الإسلاميين الذين هم أنصاره.
(٤)
أولوية أمريكا إذن لم تكن هي المساعدة في تمهيد الأوضاع لتحول ديمقراطي حقيقي في السودان، يمارس فيه السودانيون حقهم في اختيار مَن يحكمهم، وإنما كانت إعادة هندسة المجتمع السوداني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بحيث لا تتيح في المستقبل مجالاً لعودة الإسلاميين لحكمه، وتُنصّب عملاءها على رقابه، وقد نسيت أنها بذلك تضع نفسها في وضع مَن يريد تصفية حسابات سياسية مع مواطنين سودانيين لا حول لهم ولا قوة، وليس لهم ذنب جنوه سوى أن أمريكا لا تحب أن تراهم على مقاعد السلطة !!
والحقيقة أن طغيان الأجندة الأمريكية الضيقة ومفارقة سلوكها العملي لأقوالها ومزاعمها في دعم التحول الديمقراطي، لم يكن حصراً في الحالة السودانية؛ إذ أينما وطئت الأحذية الأمريكية أرضاً لشعب مسلم إلا وكان تبني الديمقراطية أو دعمها مجرد ادعاء عريض؛ وما حالة فوز حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية في ٢٠٠٦ وحالات فوز الإسلاميين في إنتخابات بلدان الربيع العربي ومآلات حكوماتهم المنتخبة، أو حتى حالات البلدان التي أسقطت أمريكا أنظمنتها واحتلتها وحكمتها ردحاً من الزمن، كما في مثالي أفغانستان والعراق، إلا نماذج محدودة للسلوك الأمريكي المخادع والمنافق.
(٥)
الآن يعيش السودانيون أطول فترة انتقالية في تاريخهم السياسي الوطني، ولا تكاد تلوح في الأفق نهاية سعيدة لها بحيث تشهد البلاد إنتخابات حرة ونزيهة وشفافة، والسبب في حرمان أهل السودان من هذا الحق والتطلع هو إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على تسليم السلطة في البلاد إلى مجموعة مدنية بعينها من دون إجراء انتخابات عامة، وتفصيل دستور بعينه تتحكم من خلاله هذه المجموعة في أوضاع الإنتقال وتهندس من خلال ذلك أوضاع السودان الحالية والمستقبلية على النحو الذي يروق لأمريكا.
لا ضير من أن يكون للولايات المتحدة الأمريكية أحباؤها أو عملاؤها في السودان، لكن الضير كل الضير أن تحجر على الشعب السوداني حقه في إنجاز تحول ديمقراطي كامل وحقيقي وتحول دون قيام الإنتخابات لمجرد كونها تريد أن تمكّن لعملائها أو لأنها تكره فئة من ذلك الشعب.
على أمريكا أن ترفع الفيتو عن الإنتخابات وسيتحمل الشعب السوداني حبها لفئة منه وكرهها للأغلبية، فلم نسمع أن شعباً مات من الأسى لأن أمريكا حرمته حبها، وتحضرني هنا قصة الرجل الذي قتل زيد بن الخطاب في حروب الردة وحينما قابل أمير المؤمنين ذات مرة قال له عمر أأنت قاتل زيد؟ قال نعم يا أمير المؤمنين، قال عمر والله لا أحبك أبداً، فقال الرجل أوتمنعني بذلك حقاً لي؟ قال عمر لا ، فقال الرجل إذن لا ضير يا أمير المؤمنين، إنما تأسى على الحب النساء!!