عيد أعياد المسرح العالمي يتزامن مع البقعة المُباركة وافتتاحها لسنوات العطاء والإبداع والشراكات المُستنيرة
عقدان من الزمان البهي والبقعة المهرجان والأنشطة والبرامج حاضرة في المشهد القطري والإقليمي والأممي
البقعة اكتشاف ابتكار الأعمال الخلاقة في التدريب وإعداد صُنّاع الفرجة والصور الغنية بالتراث والحكايات التقليدية والشعبية
عدت يا سادتي امشي أيامي الماضيات في مدينتي الاحب، الفجيرة، اعرفها ومناحيها، ولي فيها وعشقها حكاية وحكايات، منها ما ارتبط ودخولي الأول لها فرحاً بها وأهلها المبدعين، ودعوتهم ودعوتها الكريمة ، يوم جئتها اول مرة أشهد مع الفرح الغامر مهرجانها الدولي (للموندراما) ، وذاك التعبير في مطلع بدايات القرن الذي يمضي بقوة ، كان جمهور النظارة المحب للمسرح التقليدي – والتعبير ليس من عندي – يتعرّف عليها بتردُّد، وفي غير إعجاب كامل، خاصة وقد انتشرت عندها وبعدها اتجاهات في شكل العروض التمثيلية، جديدة بعضها، وهي الأهم عندي، لأنها ذهبت تبحث عن تأصيل للفكرة، وإحالتها للأقرب اليومي المعاش، مع ظروف المنطقة بالغة التعقيد قطريًا وإقليميًا ودوليًا. ولكنهم أصحاب المبادرة والتي بفضلها اجتمع ولأول مرة بعد غياب لعامين وأكثر بأسبابها الجائحة، المجلس التنفيذي للهيئة الدولية الدولية للمسرح ITI يونسكو، مرة أخرى ومرات فيها فجيرة النور.
ثم ذهبت أعود بساعة الزمن لأكثر من أربعة عقود تزيد ولا تنقص، انظر منها مناحي الزمن الممكن. وأقول لكم مرةً أخرى.
عدت يا سادتي لزمن بعيد في المكان أيضاً، عدت لأول طلة لي على مدينة النور (باريس) قبل خمسة وأربعين عاماً مضت، دخلت فيها الفضاء العالمي (مهرجان كان السينمائي الدولي)، احضر مشاركة الفيلم الأجمل (عرس الزين) للمخرج الكويتي خالد الصديق عن الرواية الأشهر لسيدي الطيب صالح عليهم الرحمة، وتلك حكاية أخرى.
وصلت مدينة (نيس) قادماً من (لندن) عبر رحلة طويلة من الخرطوم، والدنيا في رحابها (مايو)، والدولة احتفت يومها على مختلف المستويات بالفيلم، بدايةً في ايام الإنتاج، ورحم الودود رجل الأعمال الراحل الدكتور خليل عثمان، أتاح كل ما هو ممكن ليخرج الفيلم بذلك القدر من الجمال والجلال، ليطوف بعدها مهرجانات الدنيا ، ليحصد سبع جوائز عالمية، كنت الأسعد بإشارة لحُسن الأداء والتشخيص، ويومها عمري تجاوز العشرين بقليل. ويوم دخلت مبنى اليونسكو أقدم طلب انضمام السودان للهيئة الدولية للمسرح ITI يونسكو والمجلس الدولي للموسيقى I MC أحمل رسالة الراحل الشاعر الدكتور محمد عبد الحي وكان يومها مديرًا عاماً لمصلحة الثقافة وأخرى من الدكتور خالد المبارك عميد معهد الموسيقى والمسرح تلك السنوات من سبعينات القرن الماضي.
ورجعت يا سادتي لا بالموافقة فحسب، ولكن بعشق كبير يزداد كل مرة، وأضحت (باريس) بعدها مدخلي للفضاء العالمي، فيها قدمت عرضي التمثيلي الأول مكوناً للفرجة (سلمان الزغرات سيد سنار)، وقبلها مشخصاتي في واحد من أجمل شخوص رواية (دومة ود حامد) لسيدي الطيب صالح، أعدّها وأخرجها للمسرح الحبيب البروفيسور سعد يوسف عبيد، وفي اول إنتاج وعروض خارجية للمسرح الوطني. ثم رجعت باريس بعدها بسنوات يوم احتفت اليونسكو في دورة من اجتماعات سفراء النوايا الحسنة، بفن المسرح واختارتني لتقديم عمل إبداعي في فضائها التي تشتاق إليه عيون المبدعين وهي الوكالة الأهم بين وكالات الأمم المتحدة في مجالات العلوم والتربية والثقافة. فكانت فرجة (بوتقة سنار) جزءاً من ذاك البرنامج الكبير، وأحلنا قاعة المعارض الكبرى في المبنى الرئيس الى ساحة ومحفل للفرجة، وشاركت مدير عام اليونسكو وقتها الصديقة (ارينا بوكوفا) في ختام العرض مع أصحاب السعادة السفراء أصحاب النوايا الحسنة، وفناني اليونسكو للسلام في ختام المشهد بالرقص وقليل من الغناء الممكن.
تلك يا سادتي المشاهد وأطراف الحكايات في دهليز يصادف احتفال العالم باليوم العالمي للمسرح، يوم السابع والعشرين من مارس، ويتوافق كان وعلى مدى عشرين عاما فيها ولسنوات وذات اليوم، كان الوطن والعالم يحتفي به من منصة افتتاح مهرجان البقعة الدولي للمسرح، لم يغب إلا لدورتين وهذه الثالثة، وتأخرت لاعتبارات عديدة، لكن الأهم أن الهيئة المديرة للمهرجان، قررت رغم كل التعقيدات أن نعبرها لنحتفي مع الشركاء الأجلاء الذين عادوا أكثر حماساً منّا أهل البقعة المباركة، وسنشهد جميعًا الافتتاح في التاسع من مايو القادم إن شاء الودود، بحضور وطني كبير وإقليمي ودولي، افتتاح الدورة الواحد وعشرين للمهرجان، متأخرة عن موعدها المعلوم على مدى عقدين من الزمان، ظلت البقعة هي المفتاح في الكثير من ما تحقق لترقية فنون الأداء، فلم تكن هي فضاءً للعروض فقط، وطنية وغيرها، لكنها كانت ملتقىً للبحث والدراسات، فيها خيمة البقعة تُعقد جلسات الحوار عنها عروض المسابقة الرسمية، ثم الدولية، فكلفت إدارة المهرجان وقتها الناقد الدكتور عبد الحفيظ على اللَّه لاختيار الأحباب الباحثتين والنقاد للكتابة وتحليل العروض. وتحتفظ إدارة المهرجان بمئات الأوراق بالغة الأهمية عن عروض المهرجان، بأقلام الأساتذة الأجلاء، لهم في ذلك الثراء الفكري أدوار، عندما نعود في بداية هذا العقد من عمرها، ونرتب الآن لطباعة هذه الأوراق، كل دورة في كتيب يحفظ ذاك الجهد العلمي، نزين الكتب بالتصاوير الجميلة، فيحفظ التواريخ المجيدة للبقعة المباركة، كما فعلنا يوم نشرنا في عام ٢٠١٣ كتاب (البقعة سنوات الضوء والصوت لمسرح لعموم أهل السودان). سبق ذلك جهد الحبيب السر السيد، يوم أخرج قبلها كتابة القيم موثقاً لدورات البقعة منذ التأسيس وحتى الدورة الثانية عشرة، وكان له جهد كبير في التوثيق للحركة المسرحية عبر مهرجانات البقعة، ولروّادها يوم أخرج أكثر من كتاب عنهم، وجمع لأول مرة نصوص مسرحية لشباب المسرح السوداني وقتها، ثم حفظ واحد من أجمل وأهم التراث المسرحي الوطني مسرحية منها تنظر للبدايات، كيف كانت؟ للشاعر سيد عبد العزيز.
في يوم المسرح العالمي السابع والعشرين من مارس، كان فضاء المسرح القومي في أم درمان الجميلة، ومنذ الظهيرة يتلون بالناس القيافة، وجمهور يأتي مبكراً ليشهد الاحتفاء بالمسرح وأهله، وتتحرك الزفة، الموكب، المسيرة، قل عناها ما تحب، لكن جموع الجمهور الكريم، وأهل المسرح والضيوف من أنحاء الدنيا يمشون في كرنفال الفرح جنوباً بجوار نهر النيل العظيم، في اتجاه الجنوب وفي (الطابية المقابلة النيل)، وفي تقليد جديد نفتتح المهرجان، وكانت تلك من أجمل مبادرات الحبيب المبدع معالي الأستاذ مجدي عبد العزيز، يوم كان معتمداً لمدينة أم درمان العاصمة الوطنية البقعة المباركة.
خمسة وأربعون عامًا مضت منذ أن مشيت أول مرة في دهاليز مبنى (اليونسكو في باريس) الأجمل، أحمل أوراقي، ولم تكن لي فيها إلا اكتشاف لهذه المؤسسة العالمية التي تدرجت في عملي فيها، منذ أن حضرت أول مؤتمر عام لها في العام ٢٠٠٠ في مدينة (مارسيليا). كنت وقتها نائباً لرئيس المكتب القطري، وتشرّفت بالعمل مع أستاذي المؤسس الفكي عبد الرحمن رئيساً، وضم المكتب وقتها الأساتذة الأجلاء مكي سنادة عادل الباز وكُلِّفنا يومها بالمشاركة ولأول مرة، وذهبت ولم يتمكّن الأساتذة من المشاركة، وكانت تلك الأولى ومن عندها تواصلت المشاركة والحضور وتحمُّل المسؤولية التنفيذية في أجهزة الهيئة.
يوم تطالع دهليزي تكون مسارح العالم كلها تواكب السابع والعشرين من مارس، يوم المسرح العالمي. كرّسته الأمم المتحدة للاحتفاء بالمسرح أبو الفنون، والمسرحيين، وتُفتح فيه أبواب المسارح مجانًا للجمهور.
وقبل مهرجانات البقعة، كان السودان يحتفي بهذا العيد بأشكال متقطعة غير منتظمة، لكن الاحتفاء الأهم في حياتي الإبداعية، وساهم بعدها في دفعي لمنصات الفنون العالمية، يوم نُظِّم بالمسرح القومي برنامج مشترك مع معهد الموسيقى والمسرح، احتفالًا باليوم العالمي للمسرح، قدمت فيه عملاً تمثيلياً صامتاً (بانتومايم)، وكان ذاك الأول في تاريخ فنون التمثيل الوطنية، وعلى خشبة المسرح القومي، وكنت يومها بين بين، طالب أدرس علوم التمثيل، وممثل يمارس المهنة بغير احتراف، وفي تلك الأمسية وعقب العرض، علمت بعدها منه عليه الرحمة للمخرج الكويتي خالد الصديق، إنه اختارني لأداء شخصية الزين في فيلم (عرس الزين)، وهو يُصادف يوم المسرح العالمي، ثم يصادف دخولي أول مرة مبنى (اليونسكو)، ثم يُصادف أنني أشهد لأيام مضت أول اجتماع للمجلس التنفيذي للهيئة الدولية للمسرح برئاسة الحبيب المهندس محمد سيف الأفخم بعد غياب دام عامين وأكثر.
وكل عام والمسرح في وطني الأجمل بخير، والعالم يحتفي بالسّلام والعيش المُشترك.
وكل عام وأنتم بألف خير،،،
دهليزي الثاني من هنا، منها فجيرة النور، غير بعيدٍ من البحر، إذ انظر ثم انظر مياهاً بلا حدود، وفضاءً خلفياً لجبال في جبال.
وما أجملها الفجيرة والإمارات وأهلها.