رحم الله الشاعر الأديب الأريب محمد سعيد العباسي الذي تدثر شعره الجزل بأماديد العقل الراجح من تربيته الصوفية المترعة بالحكمة، ورحم الله الرئيس الراحل المشير جعفر محمد نميري الذي جعل قصيدة العباسي (يوم التعليم) ضمن منهج دراستنا في مراحلنا الدراسية في عهده الميمون ، فقد حوت هذه القصيدة الرائعة من المعاني والقيم التربوية الراقية والمهمة ما حوت، وهنا نستحضر بعض أبياتها الغنية العصية على النسيان والتي تُشَرِح بعين الحكمة حالنا الماثل، إذ يقول:
فلو درى القوم بالسودان أين هم** من الشعوب لقضوا حزنا وإشفاقا..
جهل وفقر و (أحزاب) تعيث به هدت قوى الصبر إرعادا وإبراقا.
إن التحزب سم فاجعلوا أبدا يا قوم منكم لهذا السم ترياقا..
لا تعجزوا أن تكونوا للهدى قبسا ** فكلكم قد زكا غرسا وأعراقا.
وها هي ذات الأحزاب التي حذرنا منها الشاعر الحكيم قبل عقود من الزمان تعيث في واقعنا السياسي وحياتنا وتفعل بنا الأفاعيل صباح مساء، وإن كانت في زمانك أيها العباسي ستة أحزاب فقط فقد تجاوزت الآن المئة و العشرين حزباً بانقساماتها الأميبية التي لم ينج منها حزب، فالحزبان الطائفيان خرج من صلبهما عشرات الأحزاب المتشاكسة المخاصمة لبعضها، والحزب البلشفي العجوز وشقيقه حزب البعث تناسلت منهما أحزاب يكايد بعضها بعضا ويلعن سابقها لاحقها، والتيار الإسلامي تمزق لحركات وأحزاب شتى يلعن بعضها بعضا ويُكفر بعضها الآخر، وخرجت من رحم البؤس والشتات أحزاب مناطقية وقبلية وحركات مسلحة تشظت هي الأخرى حتى بلغت ال (128) حركة مسلحة، ومن عجب أن حركة واحدة كانت تسمي نفسها (حركة تحرير السودان!) إنشطرت حتى أصبحت اليوم (56) حركة مسلحة بذات الإسم ملحوقاً باسم قائدها الجديد!!
لقد باءت كل محاولات رأب الصدع وتوحيد الرؤى داخل هذه الأحزاب المشتتة، وبالتالي باءت كل محاولات الجمع بينها وتوحيد رؤيتها تجاه قضايا الوطن عامة وتجاه قضايا الإنتقال في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البلاد، وظل سيد الموقف هو تشبث كل حزب بموقفه ورفضه للآخر، بل وصل أمر الشقاق أن بعضها أصبح يتخذ التخوين والتجريم سلاحاً ضد الآخرين ويرفض مجرد التفاوض أو الحوار مع الآخر، فإلا اين ستذهب بنا هذه الأحزاب!؟ وليت الذين يحسبون أن الأحزاب حتمية تاريخية ومقوم أساسي في (الديمقراطيات) يبحثون عن هذه الديموقراطية داخل هذه الأحزاب هل يجدونها!؟ وليتهم يدركون أن الديمقراطيات الكبرى في عالمنا لا تتجاوز عدد أحزابها أصابع اليد أو اليدين على الأكثر، وأنه لا مجال لديمقراطية حقيقية في ظل حالة إنعدام الرشد السياسي اللازم عند أحزابنا، وأن الله عز وجل قد سبق شاعرنا العباسي فحسم الجدال قائلاً: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون* فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ)، فإن سألوك عن الأحزاب فقل بلا وجلٍ هي الخراب