
من كرامات معركة الكرامة أنها كانت الكاشفة لمواطن الهشاشة فى منظومتنا الأمنية بعد ثبوت مشاركة بعض اللاجئين إلى جانب المليشيا المجرمة فى القتال كقنَّاصة وأطقم للمدفعية بعيدة المدى ، وفى تقتيلهم وتهجيرهم لأبناء هذا الوطن ونهب ممتلكاتهم وفى إنتهاك سيادتنا الوطنية مع صمتٍ مريب من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التى لم تُبدى إستنكاراً ولا استهجاناً أو حتى قَلَقَاً..!! الأمر الذى يستوجب من الدولة بما لديها من سلطان ومن منطلق مسئوليتها المتكاملة تجاه مواطنيها ممن جارت عليهم الأيام وألجأتهم إلى أثيوبيا وبعض دول الجوار ظنَّاً منهم بأن الزهرة الجديدة ستفوح عطراً لضيوفها ، وسترد على التحية بأحسن منها .. إلاَّ أنهم لم يجدوا منهم سوى العقوق مع السلب والقتل مع الصلب والإعتداء مع الطرد .. رغم أننا آويناهم حيناً من الدهر إمتد لعقود من الزمن ، وآثرناهم على أنفسنا رغم قلة الحيلة وقلة المؤونة وضعف الزاد .. فآثر الكرماء العودة إلى ديارهم حيث الكرم وموطن القُيم بعد أن هاموا على وجوههم طويلاً فى غابات ألالا وهم أكثر بؤساً وأشد حزناً ليس على ما أصابهم بل لضياع المروءة بين الدول .
وإزاء هذا الواقع الجديد الذى أوجدته الحرب لابد للدولة أن تغير من سياستها تجاه قضايا اللاجئين وإعادة صياغتها وفق المستجدات الحديثة ليس تنصلاً من إلتزاماتها القانونية تجاه الإتفاقيات الدولية والإقليمية التى تنظم أعمال اللجوء ، ولا تهرباً من مسئوليتها الأخلاقية التى دأبت عليها لعقود طويلة بلا مَنٍّ ولا أذى ..!! بل حفاظاً على أمنها المجتمعى وأمنها القومى ، فالسيادة الوطنية يجب أن تُقَدَّم على الحماية الدولية للاجئين ، ولابد للدولة أن تعمل على وضع رؤية وخطة إستراتيجية جديدة وواضحة كمرجعية للتعامل مع قضايا اللاجئين ومراجعة قانون تنظيم اللجوء لسنة ٢٠١٤م حتى تتفق الرؤية الإصلاحية المأمولة مع الواقع العالمى الجديد بعد وصول الرئيس الأمريكى ترامب إلى البيت الأبيض ، والذى لم يُعرف عنه إحتراماً للإتفاقيات والمواثيق الدولية أو إلتزاماً ، حيث تأثرت المنظمة الدولية بكل وكالاتها بسياساته الحمقاء وتعامله مع دول العالم ومنظماتها بعقلية التاجر المُرابى لا بعقلية رجل الدولة السياسى بإعتبار الولايات المتحدة هى المانح الأكبر والمساهم الأضخم لبرامج الأمم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها .. فقامت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بناءً على ذلك بتخفيض ٢٣ ٪ من طاقمها على مستوى العالم وتخفيض ميزانياتها للحد البعيد بل وإغلاق بعض مكاتبها المنتشرة فى أرجاء المعمورة ، وكذلك الحال لكل المنظمات والوكالات للدرجة التى كادت أن تُصبح فيها منظمة الصحة العالمية على سبيل المثال بدون دعم دولى حقيقى وبإمكانات صفرية .. !! والمتأمل للمشهد العام يجد أن النظام العالمى الذى أُنشئ بُعيد الحرب العالمية الثانية والمتمثل فى الأمم المتحدة قد تغيرت إهتماماته ، وأضحت المساعدات التى كانت تُقدَّم للدول الفقيرة وفق الإتفاقيات فى حدَّها الأدنى بل وفى طريقها للإنعدام بالكليَّة .
ومن الأشياء التى يجب إعادة النظر فيها فى إطار العملية الإصلاحية ضرورة مراجعة الإلتزامات والتعهدات الطوعية التى قدمها (بكل شلاقة ودون تفويض من الحكومة .!! ) وزير الداخلية الأسبق الذى لم يكن زول نصيحة ..!! فى المنتدى العالمى للاجئين الذى أُقيم بجنيف فى ديسمبر ٢٠١٩م إستناداً إلى الميثاق العالمى للاجئين الذى إعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى العام ٢٠١٨م كإدماج اللاجئين فى التعليم العام والنظام الصحى للدولة السودانية على نحو تدريجى وغيرها من التعهدات والإلتزامات المعيبة قانوناً والتى سَتُضِّرُ ببلادنا إن لم تتم معالجتها بل وإعادة صياغة سياستنا فيما يتعلق بالميثاق العالمى للاجئين ( فهى إلتزامات من لايملك لمن لايستحق ) ..!!
وقد يقول قائل تبريراً لما تعهد به معالى الوزير أن تلك التعهدات تعكس رؤية إستراتيجية للدولة السودانية وفهم عميق لقضايا اللجوء ليكون دعم اللاجئين من خلال شراكة ذكية وتمويل دولى فاعل يستمر بموجبه التدفق الفنى والإنسانى وليشمل المجتمعات المستضيفة ..!! وقد يقول آخر إن المسؤولية الدولية لاتُقاس بما تُجبر عليه الدول بل بما تلتزم به طوعاً من منطلق الإنسانية والمصلحة المتبادلة ، ومن هذا المنطلق كان تبنى السودان بما جاء فى الميثاق العالمى للاجئين رغم طابعه الطوعى والإختيارى الذى لا إلزام فيه ، وأن هذا التعهد الذى ألزم به نفسه يُعد رسالة سياسية وأخلاقية تؤكد أن العمل من أجل اللاجئين لايجب أن يكون قسراً بل أن يكون نابعاً من حِسٍّ إنسانى ومسؤولية مشتركة ..!!وأن تقديم تلك التعهدات لم تكن جهالةً بل إيماناً بما جاء فى الميثاق ، ويُمكن للحكومة السودانية أن تؤجِّل أو تُعدِّل تعهداتها وفق الإجراءات الإصلاحية المأمولة ..!!
ورغم وجاهة تلك الأقوال إلاَّ أن واقع الحال يؤكد أن المفوضية السامية لا تحترم إلتزاماتها القانونية وواجباتها الإنسانية والأخلاقية فيما يتعلق بتقديم الخدمات للاجئين وللمجتمعات المستضيفة لما لمسته من ضعفٍ فى المتابعة والرقابة والمحاسبة من الحكومة فى جميع مستوياتها للمنظمات الدولية العاملة فى تقديم الخدمات للاجئين بعد أن إختارت حكومتنا الرشيدة بكل غباء الدنيا تقديم تلك الخدمات من غذاء وصحة وتعليم عبر المنظمات بدلاً من أن تقوم بهذا الواجب بنفسها عبر آليات وطنية فاعلة خاضعة لرقابة المفوضية .. فلا قامت بواجب تقديم الخدمات ولاقامت بالرقابة الفاعلة رغم أنه لم يجبرها أحد على هذا التخاذل الذى تم بدعوى عدم القدرة وبزعم ضعف الكادر البشرى المؤهل ، فالنظام الأساسى للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين ينص على أنَّ وجود المنظمات العاملة فى مجال الخدمات مرهونٌ بموافقة البلد المُضيف .. !!
ولكل ما تقدم نقول لدولة رئيس الوزراء فى موسم البحث عن الوزراء إياك ووزير الداخلية البائنة شلاقته ..!! ولا يَهَُّم بعد ذلك أيَّاً كانت طريقته المُثلى( برهانية أم كبّاشيَّة ) ..!! ونقول للوزير القادم غير الشليق ..!! إن أردت إصلاحاً وعملاً صالحاً فيما يتعلق بملف اللاجئين يُكتب لك فى صحيفتك وفى صفحات التأريخ عليك بالآتى :
- الإستفادة من دروس الحرب ومشاركة المئات بل الآلاف من اللاجئين للمليشيا فى حربها ضد الدولة السودانية التى آوتهم وآمنتهم من خوف وأطعمتهم من جوع لمراجعة كل التسامح والتهاون لوجودهم خارج المعسكرات وفى كل المدن التى يدخلون إليها دون أية ضوابط .
- مراجعة تلك الإلتزامات والتعهدات المعيبة التى تمت الإشارة إليها وتغيير سياسة السودان كُليَّةً تجاه قضايا اللجوء .
- الوقوف بقوة أمام ما تقوم به المفوضية السامية من تخفيضٍ مستمر للميزانية مما أدى إلى تسرب اللاجئين من المعسكرات وهروبهم إلى المدن الأمر الذى يُعد تهديداً للأمن الداخلى والأمن القومى على السواء .
- التخلى عن سياسة الباب المفتوح التى إنتهجتها الدولة السودانية منذ الستينات لأسباب تتعلق بعدم القدرة على السيطرة الكاملة على الحدود لإتساعها ولضعف إمكانية الرقابة والتأمين ، وللإمتدادات القبلية والإثنية مع كل دول الجوار شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً .
- سحب الخدمات التى تُقدّم للاجئين من المنظمات الدولية ليتم تقديمها عبر المعتمدية وفق آليات وطنية مسؤولة وإن بدا فى الأمر الكثير من التعقيدات .
- عدم الخضوع لرغبة المفوضية السامية وحرصها على إدماج اللاجئين فى المجتمع المحلى .
- عدم موافقة المفوضية على بند الإنقطاع الذى يقضى بإنهاء صفة اللجوء عند زوال الأسباب الجوهرية التى دفعت اللاجئين إلى طلب الحماية الدولية ، وربطه بتقارير مستقلة وموثوقة عبر آلياتها الدبلوماسية حول الوضع فى بلد الأصل وتعزيز مشاركة اللاجئين أنفسهم فى تقييم خيارات العودة .
- ترتيب البيت الداخلى المعتمدية الذى أضحى أوهن من بيت العنكبوت وحسم الفوضى الإدارية إلتى لم تشهد المعتمدية مثيلاً لها منذ بدء برنامج اللجوء فى السودان .
- إن لم يلتزم المانحين بما عليهم من إلتزامات تجاه الدولة السودانية التى يتواجد على أراضيها مئات الآلاف من اللاجئين وتُعد المانح الأكبر تأثراً بسياسة الإدارة الأمريكية الجديدة ، وتأثراً بالتغييرات الديناميكية التى إنتظمت النظام العالمى الجديد والتى ستؤثر قطعاً فى شكل المنظمة الدولية التى أقعدتها الشيخوخة .. فالسودان حينها فى حِلٍّ من كل إلتزام قانونى وإنسانى وأخلاقى .. فقد علمتنا الحرب أن أمننا القومى والداخلى فوق كل إعتبار ، وأن سيادتنا الوطنية مُقدمة على إلتزاماتنا الدولية التى أحطناها بهالة من القدسية المصنوعة وكُنا أشد حرصاً عليها من غيرنا رغم ما أصاب بلادنا من تلك المثالية .
حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .
✍🏼 لواء شرطة (م) :
د . إدريس عبدالله ليمان
الأربعاء ١٨ يونيو ٢٠٢٥م