من حكايات عروض مسرح البقعة في عواصم الدنيا الجميلة من نيويورك إلى مانيلا وما بينهما
• الدبلوماسية السودانية الرسمية فتحت للفنون الوطنية المغاليق العصية وأسهمت في تحقيق الانتشار المُمكن وفي كل الأوقات
•نعم أن تكتب كلمة واحدة مقاصدها الخير، أفضل في موازين المعارف من غيرها الكذوب المتوحشة
عدت يا سادتي الى البقعة المباركة يومها، وكلي فرح غامر، طار بي تلك المسافات الطويلة بين قارات الدنيا، طار بي في ساعات طيران تُحسب بعدها، لأنها لو لم يكن سني ذاك في عمر الزهور وبعده قليلاً، لكانت مستحيلة. رجعت من (واشنطن) للبقعة المباركة لأيام، ومنها الى (موسكو) ثم منها إلى مدينة (شوسي) الجميلة، سكنت غير بعيد عن قصر وحديقة، كانت مصيفاً وراحة للزعيم (لينين) على البحر الأسود. انظر كيف قدرات الفنون على صناعة الأشياء المبهجة، والاحتفاء بالإشارات ذات التأثير على حياة المبدع.
لكنها الدنيا الجميلة تفتح لي تلك الأيام في الربع الأخير من سبعينات القرن الماضي متسارع الخطوة، يمشي ما بين كونه عصر التأسيس، وان فيه الإنجازات الأولى، ومنها انفتحت بيني وعواصم المعمور جسور تواصل كبرى، بقيت الى وقتنا هذا جسور ممكنة لعبور فنوننا نحوها الفضاءات الكبرى، بكل قدرة وترتيب، وحتى في الأوقات بالغة التعقيد . وواحدة من دوافع وأسباب أن نمضي بفنون الوطن لمحطات أبعد أو أقرب ولأنها كانت مستحيلة، وما كان كل ذلك الحضور ممكنا، من غير حضور واهتمام الدبلوماسية الوطنية الرسمية، هنا في الخرطوم، غير بعيد من شاطئية النيل الأزرق، وقلت الاثنين معاً، حتى لا تغير الخرطوم بحري منها العموم ست الاسم. ولأن تلك العروض في عواصم المعمورة، وقد كتبت عنها قبلاً، استطاعت أن تترك تأثيرها – بالقدر المُستطاع – على بعض من مناحي سياسات الدولة وعلاقتها، انظر كيف وقف فريق مسرح البقعة يقدم في تلك الأوقات والعلاقات السودانية الأمريكية أبعد ما تكون عن القُرب أو الحوار الممكن، والمشقة الكبرى، وتجليات النفور والتباعُد في الحصول عَلِى تأشيرات الدخول لها أمريكا، ناهيك عن تقديم عروضٍ مسرحية على مسارحها عاصمة الفنون العالمية (نيويورك)، غير بعيدٍ من شارع مسارحها الأشهر (بردوي). ثم كانت الحكايات الأوسع في أدوار وتناغم الدبلوماسية الرسمية مع جهد القطاع الخاص وكان مسرحي قد طاف بعروض حية على خشبات المسارح، أو في القاعات الفخيمة والميادين أو في الساحات، أو من خلال المُحاضرات أو الورش الفنية عبر وسائط العرض التقنية الأحدث في جامعات ومراكز بحث علمية، تدرس التجربة استخدامات الفنون الأدائية في تعزيز السلام وساعة أن أكتب فيها دهاليزي هذه بين يديك ، كانت للفيلم (عرس الزين) فرص عرض جديدة في بعض الجامعات، استعادوا فيه ذكرى مخرجه الراحل خالد الصديق وكاتب قصته الأشهر الطيب صالح عليهم الرحمة، ولا شك، وقد كتبت ورقة أطول من دهاليزي لمجلة العربي الكويتية، عنه وعنها أسباب ذاك الانتقال الأول نحو مدائن الفنون العالمية، الراحل المخرج الكويتي والعالمي خالد الصديق، يوم وقف ومعه أهل الصناعة والاقتصاد السوداني من المؤسسين، وخرج للعالم فيلم (عرس الزين) بهياً جميلاً فيه تعابير طيبة (الطيب صالح) عليه الرحمة، وصدق الراوي والرواية وشخوصها الأماجد، وكنت بينهم مشخصاتياً حديث العهد بها فنون الأداء كلها، ووقفت أمام قراءاتي للرواية قبل سيناريو الفيلم، ثم بعدها بعقود للنص المسرحي يوم وقفنا كلنا الفريق القومي المسرح السوداني، على مسرح السلام في القاهرة التي نحب ونعشق، نعرض رؤيتي أنا عن (عرس الزين) وكيف اصطفت باقات الورد أمام خشبة مسرح في تقليد تعرفة مسارح الكون في العرض الافتتاحي. ولأن فنون الوطن حُظيت بأدوار مغايرة هنا في الوطن أو في مسارح الكون من نيويورك إلى مانيلا وما بينهما أحببت أن تحتفي بتلك الأوقات ونحن نذهب للتحضير لجولة أخرى لنا في عواصم أوروبية نفتح بينها وفنوننا أبواب المُشاهدة، يعقبها الحوار البنّاء المفيد وهو عندي من أفضل وسائط العلاقات الدبلوماسية بين البلدان وفي أصعب الأوقات.
مرّت الأيام التي اقمنا فيها في نيويورك سريعاً كمشاهد الحياة فيها تعبر الشوارع ومن الازدحام وكأنك تعبرها أول مرة وأعود لصندوق تصاويري، ففيها كانت بوابتي الأولى لأمريكا والغرب والصور عنه بين صائب وغير ذلك زرتها وفي الخاطر حكايات عمي جمال محمد أحمد كما نحب أن نقول في حضوره عليه الرحمة وقد حفظت ما كتب في مشاهد مِن (هارفارد)، ثم كل ما كتب الراحل علي المك، ويوم كنت بينه والراحل صلاح أحمد إبراهيم في (باريس) مرسال صداقة، أحمل الكتب الأوراق، وبعضاً من (التسالي والفول وقليلاً من العرديب أو اللالوب).
تلك الحكايات عنها المدن الأحب، توحي بدهاليز عنها، وما دار فيها من حوارات أرجوها أن تستمر.
في نيويورك ذاك العام الأول لي فيها، كان سعادة السفير الراحل عثمان السمحوني يزورها، وعرفت منه ومعه المقاهي قبل المطاعم الأجمل، والشوارع الأهم، ومنها قطعا (بردوي)، ووقفنا امام المسارح، وحضرت عرضاً فخيماً وكبيراً باتساع فتحة المسرح الوسيعة تمشي العربات تجرها الخيول، وجمهور راقٍ مهندم، تصاوير كبيرة، اظنها دفعتني لمسرح في فضاء أوسع، أو تغيير كما فعلت لما أحلت مسرح (لماما) الى ساحة تحيط بها الرايات الخضراء والحمراء، والجمهور جالس وواقف وعلى الأرض يشارك المشخصاتية الرقص والتهليل والغناء.
ولما عرضت عَلى مخرجنا الإنجليزي الكبير (بيتر بروك) يوم زارني في مكتبي باليونسكو. قال بعد أن نظر في محتوى ما قدمت لك تذكار ، نعم هذا عرض خارج خارج بردوي، وأضاف أظنها الراحلة مؤسسة المسرح في المدينة الكبرى (الن ستيوارد) الآن في مرقدها تتسع عندها الابتسامة. ثم وقف ومشينا في الشارع الأشهر غير بعيدٍ عن مركز (جورج بيمبيدو) نتمهّل نحو مبنى (اليونسكو) يتكئ واقفاً للانتظار، وفي خاطري أول عرض للفرجة (سلمان الزغراد سيد سنار) على مسرح العالم العربي فيها (باريس). وكم كم عُدنا إليها مدينة النور والفنون وتلك حكاية أخرى.
احتفي مع الدهاليز بما يصلني من إشارات عنها، ويوما أكمل رصها هنا لتعبر عن الآراء فيها، بكل ما فيها من صدق وحُسن نوايا لما نكتب للتواريخ القديمة المجيدة.
نعم أن تكتب كلمة واحدة مقاصدها الخير، خيرٌ من كونها غير ذلك، وتمر وكأنها ما كتبت.
نعم بيننا أيام مترعات بالحياة وما فيها.
وصدق نسعى له في الكتابة.
الفن الثامن دون أن تعيد حساب أشكال الفنون.