
يعيش الاقتصاد السوداني اليوم حالة من التباين اللافت بين مظاهر الثراء الاجتماعي والضيق الاقتصادي، بين الإنفاق الباذخ في المناسبات والمظاهر العامة، وبين معاناة قطاعات واسعة من المواطنين في الحصول على أبسط ضروريات الحياة. هذا المشهد المزدوج يعكس بوضوح إشكالية الثقافة الاقتصادية في المجتمع السوداني، التي تميل إلى الاستهلاك المفرط والتفاخر المظهري أكثر من ميلها نحو التوفير والإنتاج والاستثمار.
فرغم أن الكرم سمة سودانية أصيلة، إلا أن تحوّله إلى سلوك اجتماعي متوارث يميل إلى المبالغة والوجاهة الاجتماعية، جعله جزءاً من ثقافة استهلاكية تتنافى مع متطلبات التنمية الحديثة. فالإنفاق المفرط في الأعراس والمآتم والمناسبات، وسباق التفاخر في الملبس والمركب وحتى في اقتناء الهواتف، أصبح من المظاهر المعتادة، بينما يقف في المقابل شباب كثر يبحثون عن فرص عمل، وأسر تكابد لتأمين قوتها اليومي.
ومن هنا يبرز السؤال الاقتصادي الأهم: لماذا لا يتم استثمار الفوائض المالية لدى بعض الأفراد في مشاريع إنتاجية قادرة على خلق فرص عمل وتوليد قيمة مضافة للاقتصاد الوطني؟
عند التعمق في الأسباب، نجد أن من أبرز العوامل التي تحدّ من توجيه الأموال نحو الإنتاج، ضعف ثقافة المخاطرة الاستثمارية لدى أصحاب رؤوس الأموال، وغياب روح الشراكة الاقتصادية القائمة على الثقة المتبادلة، إضافة إلى ميل كثير منهم إلى إنشاء مؤسسات عائلية مغلقة يكون فيها “المالك هو المدير”، دون الاعتماد على إدارات متخصصة ذات كفاءة مهنية. كما يعاني المناخ الاقتصادي العام من ضعف مفهوم المسؤولية المجتمعية لدى بعض أصحاب الأموال، مما يقلل من مبادرات خلق فرص عمل للشباب والخريجين.
ولعل التجارب الوطنية الناجحة التي شهدها السودان تمثل دليلاً عملياً على إمكانية تجميع عوامل الإنتاج في كيانات اقتصادية ضخمة قادرة على المنافسة والإنتاج. فمجموعة “جياد الصناعية” على سبيل المثال، تعد نموذجاً يحتذى به في كيفية بناء منظومة إنتاجية وطنية متكاملة، استطاعت توظيف رأس المال والخبرة والإدارة الحديثة في صناعة حقيقية امتدت من الآليات الثقيلة إلى الصناعات التحويلية والخدمية. كذلك تجربة “موباتل” سابقاً – “زين السودان” حالياً – تمثل تجربة رائدة في قطاع الاتصالات، جمعت بين رأس المال الوطني والأجنبي، وأسهمت في إدخال تقنيات حديثة أحدثت نقلة نوعية في بنية الاتصالات والخدمات الإلكترونية.
إن هذه النماذج تثبت أن السودان يمتلك من المقومات البشرية والطبيعية والمالية ما يؤهله لبناء اقتصاد قوي، شرط أن تتجه الجهود نحو تجميع عوامل الإنتاج في كيانات كبيرة من خلال إنشاء شركات مساهمة عامة مفتوحة للاكتتاب الشعبي. ولتحقيق ذلك، يجب أن تُجزأ قيمة الأسهم إلى فئات صغيرة تتيح مشاركة واسعة من المواطنين، بحيث تتحول المدخرات الفردية إلى رؤوس أموال منتجة تعمل في الزراعة، والصناعة، والتعدين، والعقار، والقطاع الصحي، وغيرها من المجالات الحيوية.
كما أن إعادة الثقة في الجهاز المصرفي تمثل خطوة محورية في هذا المسار، فالكثير من مدخرات المواطنين اليوم تُحتجز في صور جامدة كالعقارات والذهب والعملات الأجنبية، مما يقلل من سرعة دوران رأس المال ويحد من النشاط الإنتاجي. وعندما تُنشأ مؤسسات استثمارية ضخمة تدار بكفاءة وشفافية، فإن رأس المال الوطني سيتجه بطبيعته نحوها، وستدور عجلة الإنتاج التي تعتمد أولاً وأخيراً على توافر رأس المال العامل وتوظيفه بكفاءة.
ولا يقف أثر ذلك عند حدود الاقتصاد فحسب، بل يمتد ليشمل الجوانب الاجتماعية والأمنية للمجتمع. فحين تتوفر فرص العمل وتتحرك عجلة الإنتاج، تقل معدلات البطالة التي تُعد أحد أبرز أسباب الجريمة والانحراف. ومع تحسن الدخل وتوسع النشاط الاقتصادي، تسود روح الاستقرار وتضعف نزعات العنف والاضطراب، فيسود الأمان ربوع الوطن، وتتجه الطاقات الشابة نحو الإنتاج والعلم والمبادرات المجتمعية النافعة. كما يساهم ذلك في تعزيز التماسك الاجتماعي وتقوية الروابط الوطنية، إذ يشعر الفرد بأنه جزء من مشروع جماعي يسهم في بناء الوطن ويجني ثماره بكرامة وعدل.
إن السودان في حاجة إلى مشروع وطني جامع لإحياء روح الإنتاج وإعادة الاعتبار للعمل كقيمة عليا. فبناء اقتصاد منتج لا يتحقق بالشعارات، بل بالوعي الاستثماري، وبإعادة توجيه الفوائض المالية نحو مشروعات حقيقية قادرة على تحقيق التنمية المستدامة. وعندها فقط يمكن أن يتحول الكرم السوداني من كرم استهلاكي إلى كرم إنتاجي، يفيض خيره على الجميع، ويصنع استقراراً اقتصادياً واجتماعياً يعيد للوطن توازنه ومكانته.