يتناول العديد من السياسيين مفهومي التنمية المتوازنة والتنمية غير المتوازنة من زوايا غير اقتصادية، تتعلق بالأبعاد الجغرافية والمناطقية. هذا التناول يمثل مشكلة لأنه يقود أحياناً للتمحور حول العنصر والمنطقة أو الولاية بطريقة غير عقلانية. مثل أن يتم الحديث عن إن الحكومات السودانية منذ الاستقلال، وبسبب سيطرة الجلابة عليها، أهملت تنمية مناطق شرق وغرب السودان البعيدة عن الشريط النيلي. أو محاولة تفسير قرار وزير المالية الذي صدر مؤخراً بفرض ضريبة على شركات الإنتاج الزراعي بأنه محاولة من وزير المالية د/ جبريل إبراهيم لتحطيم الشركات التي تنتمي لعناصر نيلية لأنه هو ينتمي لدارفور.
يعد العالم الاقتصادي “هيرشمان” أحد الذين أكدوا على أنّ نظرية النمو غير المتوازن تقوم على إيجاد الحوافز اللازمة لاتخاذ القرارات الاستثمارية في إطار نظام السوق الحر وتحكيم آلية الاسعار. بقية مؤيدي هذه النظرية أكدوا على افضلية التخطيط القومي لأن المشروع الخاص لا يرغب في إقامة مشاريع بطاقة إنتاجية فائضة. إلى جانب أن مشاريع رأس المال الاجتماعي لا تحقق ربحاً مباشراً.
من ناحية أُخرى فإنّ اختيار المشاريع الإستراتيجية يتطلب نوعاً من النظرة الشمولية التي تتجاوز قدرات القطاع الخاص. كما أنّ اعتماد إستراتيجية التنمية المتوازنة يتطلب وضع مجموعة كاملة من السياسات والقرارات الاستثمارية، إضافة إلى أنّ نظام الاسعار قد يكون مؤشراً لتعبئة عناصر الإنتاج فيما يتعلق بالتغيرات الاقتصادية الطفيفة، إلا أنه يكون عاجزاً في ذات الوقت امام التغيرات العميقة المستهدفة في الهيكل الاقتصادي للدول النامية، مما يستوجب تدخل الدولة للتأثير في مسار حركة التنمية.
نظرية التنمية غير المتوازنة تقوم على أساس انتقاء المشاريع ذات الآثار التحريضية الواسعة، وقد يؤدى اعطاء الأفضلية لمثل هذه المشاريع إلى إهمال نسبي للقطاع الزراعي والصناعات الأولية أو الاستهلاكية ذات قوى الدفع المحدودة، غير أن القطاع الزراعي خاصة في البلدان النامية يجب أنّ يُعطى الاهتمام اللازم لأن تطور الصناعة يبدو مستحيلاً في الدول النامية في ظروف إبقاء القطاع الزراعي قطاعاً تقليدياً متخلفاً.
على الرغم من أنّ النظرية لا تفترض تحرك عملية التنمية في إطار الاقتصاد المغلق إلا أنها لا تغطي احتمال تسرب القوة الشرائية إلى الأسواق الخارجية من أجل تأمين بعض الاحتياجات الاستهلاكية أو غير الاستهلاكية. ومما لا شك فيه أنّ تدخل الدولة بأدواتها وسياساتها الاقتصادية خاصة فيما يتعلق بالتجارة الخارجية وتشجيع المبادرات الاستثمارية الوطنية قد يساعد بصورة فاعلة في إعادة توجيه الأسواق الداخلية، وحث المستثمرين على إقامة الصناعات المكملة.
في هذه الفترة العصيبة من تاريخنا الوطني علينا التركيز على إقامة جهاز قوي للتخطيط الاستراتيجي، يقوم عليه علماء وخبراء تنمية يتولون هم التوصية بإقامة المشروعات على أسس اقتصادية بحتة، غير خاضعين لأي إملاءات سياسية أو عنصرية. والله الموفق.