عادل الباز
1
هنالك المكر السيء… ومصر مكرها حميد، ولكن لماذا هي ماكرة وكيف مكرت بالقوم ولفقت ما يأفكون؟..
تدي ربك العجب. تركت مصر في بداية الحرب الملعب لكن اللاعبين الهواة والمحترفين والطامعين والمستهترين بأقدار السودان، ووقفت بعيدا تنظر لهذا الدافوري والبازار السياسي الذي انخرطت فيه دول وجماعات وتنظيمات لا قيمة لها، وكأن الأمر لا يهمها، بل صمتت على الاتهامات التي طالتها بأنها باعت قضية السودان وتركته نهباً لأطماع دويلات الإقليم العربي والإفريقي وسماسرته. كانت مصر تنظر لكل ذلك الهرج السياسي الذي يصطخب في الساحة السياسية السودانية لأنها تعرف مآلاته، فالذين دخلوا هذا الملعب لم أجهل مايكونوا بتضاريسه إلى أن اصطدموا بواقع شديد التعقيد لا قبل لهم به وبدأ التخبط والعك.
2
قال لي دبلوماسي مصري إن المتدخلين في الشأن السوداني الآن، السودان بالنسبة اليهم لعبة (game)، أما مصر فالسودان بالنسبة لها قضية أمن قومي ومصير. فهل ستترك مصر مصيرها بأيدي غيرها؟. لا.
ظهور مصر في وسط الملعب في الوقت المناسب ذكرنا بعبقري الكرة المصرية الخطيب (بيبو) الذي كان حين ينزل الملعب يعرف كيف يديره فيوزع الباصات المذهلة كما يحلو له، ويحرز الأهداف التي لا يتوقعها أحد.
حين نزلت مصر بثقلها للملعب كانت كل المبادرات قد وصلت إلى طريق مسدود، فالمبادرة السعودية الأمريكية انتهت وفشلت، لم تفلح إلا في إعلان هُدن ميتة لم يلتزم بها أحد وكان السودان أيضاً قد رفض مبادرة (خفض التصعيد) التي صدرت بإيعاز من مولي في مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشئون الإفريقية بإعتبار أن السودان ليس طرفاً فيها ولم تتم مشاورته، وهو عضويته مجمدة فى الاتحاد الإفريقي.
ثم جاءت مبادرة الإيقاد التي وُلدت ميتة، إذ رفض السودان من أول يوم رئاستها أو رئاسة رئيس كينيا وليام روتو لها، ثم اتضح أن تلك المبادرة ما هي إلا مبادرة صادرة عن جنجويد الإقليم الإفريقي بعد أن أسفر آبى أحمد عن وجهه الحقيقي الداعم للمتمردين، في بداية هذا الشهر تم إعلان دفن مبادرة الإيقاد رسمياً حين رفض السودان المشاركة فيها.
3
هكذا حين نزلت مصر إلى الملعب كان الجو مهيأ تماماً لتتقدم بالمبادرة التي وجدت قبولاً فورياً من دول الإقليم كلها… اختارت مصر الوقت الصحيح وهذا أول عنصر في نجاح أي مبادرة. ثم اختارت مصر دول الجوار السوداني لتقدم المبادرة تحت رعايتها. إذن أين المكر هنا؟
لاحظ أن مصر إذ هي تختار هذه الدول.. لن يجادل أحد أو يدعي أنها غير معنية بالشأن السوداني، إذ أنها متضررة من الحرب بل هي مهدد أمني لها، ولذا فهي أولى من كينيا وجيبوتي وأوغندا.
لاحظ أيضاً بنص هذه المبادرة وتأكيدها على سيادة السودان، صنعت مصر سياجاً حامياً للسودان من التدخلات الأجنبية ومنع تمرير أجندات أي دولة داخل أو خارج الإقليم الإفريقي، ليس بوسعها الآن وإذا أرادت فعل ذلك لا يمكنها بغير تعاون دول الجوار السوداني وبرفض أي تدخلات أجنبية في القضية السودانية، أغلقت المبادرة المصرية الأبواب على عبور السلاح للمتمردين وكذلك أغلقت باب أي إمداد بشري لهم من الدول المجاورة.
4
كيف هندست مصر مبادرتها من ناحية عسكرية وسياسة وإغاثية وعملياتية؟.
من ناحية عسكرية حمت المبادرة السودان من أي تدخلات عسكرية كتلك التي أعلن عنها آبي أحمد مهدداً بتدخل (إيساف) وربما (آفريكوم) وهذه انتهت الآن تماماً، وأقر آبي نفسه على عدم فرض أي شكل من أشكال التدخل في السودان ناهيك عن تدخل عسكري لفرض حظر طيران ومثل تلك الخزعبلات التي لن يستطيع أحد فرضها على السودان.
سياسياً، حوت المبادرة على دعوة لحوار سياسي شامل، أي دون إقصاء، بمعنى أن الجميع مدعوون لمائدة الحوار تلك (ماعدا ميليشات الجنجويد) التي ستكون في ذمة الله وقتها، ولن يقبلها أحد في أي مائدة تفاوض سياسية.). من ناحية الإغاثة والعون الإنساني، وضعت المبادرة خارطة طريق للإغاثة التي لابد أن تعبر للسودان من خلال حدود تلك الدول ولابد أنها تخضع لرقابة السودان وإشرافه.
على أن أهم ما حوته المبادرة ولم يكتب (هذا هو مكر مصر الحميد) أنها منحت الزمن الكافي لحسم المعركة في الميدان قبل البدء في أي تحرك!!.. كيف؟
المبادرة قررت تشكيل آلية وزارية من دول الجوار.. وهذه بحاجة لزمن ليتم اختيارها والتوافق عليها وعلى الأجندة التي تعمل بها والمشاورات التي ستجريها.. على الأقل شهر لبدء التحرك.. وحِلّك… هذا زمن يسمح للجيش بالتحرك لسحق التمرد أو استلامه منهاراً وكل مؤشرات الميدان تدل على ذلك.
5
المهم أن مصر وصلت في الوقت الصحيح وأقدمت على الفعل السياسي الصحيح وحمت السودان من التدخلات الخبثية وذلك هو المطلوب الآن، والباقي بتموهو الفدائيين.