ليجتمع، في ظل هذة الاجواء المشحونة شتات من حملهم ثقل الحضور الكارزيمي للدكتور الترابي، علي الانحياز كرها متربصا لتنكب او عاطفة جوفاء بلا مضمون، بالتزام خياراته بمعركة الحريات، انتظاما بصفه بمنظومة المؤتمر الشعبي عند الخروج الاول التي ما لبث ان تراجعوا عنها بعد فاجعة موت الشيخ المهيب، بنكوص مخزي عن آخر وصاياه و ما اختط من رزمانة فكروية سياسية: لرؤيته لانجاز التحول الديمقراطي، اتفقنا معها او اختلفنا، ولكنها تكتسب اهميتها من كونها الوثيقة، الاكثر وضوحا و تماسكا: اهدافا و اجماعا، علي الاقل من مناصريها، لكنها علي خلاف من ذلك مضت بلحظة، قلقة موتورة خيانة لعهدها السياسي و غياب بوصلة تاريخية و فطرة بصيرة اخلاقية إنسانية سوية، و عجز تام عن ادراك عمق التحولات الاجتماعية السياسية، فتشارك في حكومة ما عرف بالحوار الوطني باخر رمق الانقاذ المباد، لتنهي نفسها بنفسها بغباء لا تحسد عليه، و تقضي علي أي دور منتظر، كان يمكن ان يعيد بعضا من قسطاط توازن انتقالي بتدافع اسلامي مستنير مرتقب، لتفرط باخر ما ترك لها من ميراث تيار مبدئي بامثولات فكرة، و ثلة كان يمكن صدقا ان التزمت استحقاقات الدفع باتجاهات الدمقرطة فعلا يوميا دؤوبا بداخلها المهيكل، و مثابرة تراكمية بمحيط خارجها المستوطن، من ان يشكل لها هذا الرصيد بادرة امل مشرق وسانحة طريق مشرع ممكن للمساهمة والمشاركة بمستقبل ما بعد الإسقاط: مراجعة و تجاوزا وبناءا…
و لقد اتضحت، رؤية الراحل المؤسس جليا عقب اخر مقابلة كنا شهودها مع وفد من المثقفين المغاربة قبيل وفاته بعشر ايام، حيث أسر لي، وأصر علي مقابلتنا علي انفراد، شخصي الضعيف والاستاذ/ المحبوب عبد السلام، بعد ان غادر الوفد الكريم و في جلسة مكاشفة ومصارحة معه حول الحوار الوطني امتدت الي قرابة الواحدة من صباح اليوم التالي تحدث فيها بشفافية وصراحة نادرين عن مخاوفه و توقعاته منه، حيث لم يبدو اكثر صراحة و وضوحا مثل هذا اليوم، خصوصا عندما يتعلق الامر برهاناته السياسية عندما تخيب اماله العراض منها، و هو يعلم جيدا حقيقية موقفنا المناوئ المبدئي حينها من حوار الوثبة: لافتقاره الحد الادني من الضمانات الاجرائية و الموضوعية، و لانعدام شفافية القائمين علي المستويين الاخلاقي و الانساني، و غياب المشروع الواضح لديهم لاحداث التحول الديمقراطي، و بالاساس للارادة السياسية و لتماديهم المجرب في نقض العهود و الانقلاب علي الموثق الدستوري، كله من اجل الحفاظ علي مغانهم السلطوية و المالية الحرام و قد تطاول بهم عهدي الاستبداد و الاستئثار بهما، حتي امنوا العقاب، فهم اصلا لم يدخلوا حوار الوثبة، و يؤسسوا له مسارا مرسوما ومخرجات متحكم بها، الا بعد ان استفاقوا بغتة علي تباشير انتفاضة سبتمبر 2013م و(بالمناسبة و لاول مرة يتفق، الامام الصادق المهدي، و الشيخ حسن الترابي علي شى ما، فهما لم يكونا متحمسين لانتفاضتها، ليس كفكرة بل بحسابات السياسية، الاول لانه كان لا يعلم أين تقع ثمارها و من هو محركها علي ظن منه انها من صنائع الثاني او من احابيل و حيل نظامه، و الثاني كان ينظر اليها كانتفاضة تمرد وغضب وتدمير، و ليس ثورة بناء و بديل، وذلك طبعا لتعلق منه محكم، بان تتطور الأحداث وفقا لخطه التصاعدي، نعم هي طاقة هدم و لكن يغيب عنها سؤال اليوم الثاني، و لا تملك الدبارة السياسية المطلوبة للإجابة علي اسئلة الانتقال، و ترجمة ذلك عند الراحل المؤسس هو انه لم يكمل ترتيبات البديل و ما بعد السقوط، و كما اعتاد منذ عقود يدير الامر و يوازن بعقل الاستحواذ المهندس، و ربما أضاع الاثنان الفرصة لاقتلاع مبكر نوعا ما للنظام في زخم الربيع العربي وقتها بعامل رغبة التحزب المفكرن، في التواجد غدا والامتلاك المفرد للمستقبل السياسي(…بالهبة السبتمبرية، التي اوضحت احتمالية دنوء اجل النهاية و اقتراب اجل المحاسبة الشعبية الوطنية، بل و حتي الدولية علي سوء فعالهم و حصادهم الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي المر و جرائمهم الموثقة ضد الانسانية، و الابادة الجماعية…وفوق كل ذلك الوزر الاعظم باغراق البلاد كلها واشعالها باتون حرب أهلية ملعونة، انتهت بانفصال جنوب البلاد…هذة التركة المثقلة و الخوف المرضي من اقتراب ساعة الحقيقة من جراء كل تلك الحيثيات المازومة، كانت بنظرنا هي العامل الرئيس من قبل نظام الانقاذ المباد لدعوة الحق التي ما اريد منها الا باطلا…تسميا باسم الحوار وتزيا بزي الوطنية، والهدف المحوري من كل ذلك كان هو محاولة شراء مشروعية جديدة بطور اخر: فلقد كان طورها الاول حكما تحت عنوان، الشرعية الثورية، ثم شرعية نيفاشا، ليدشن بدوره لمروره الاخير بشرعية الحوار الوطني…
لينجز كعادته ترحيل القضايا وكسب الوقت الإضافي واستباق المعركة والصدمة وتداعيات الانهيار الشامل الوجودي الوشيك بمختلف، مناحي الحياة و صعد المعاش….ولقد كان الراحل المؤسس يعلم أن هذا رأينا و رؤيتنا السالب في تعويله المفرط التفاؤل بنجاح هذا السبيل التفاوضي التساومي لاستخلاص تسوية سياسية تجنب البلاد و العباد ويلات الاحتراب و ناتج التصارع…و لعله من اجل ذلك أصر علي استبقاءنا بعد ذهاب الوفد الضيف…و لكنني أزعم انه و قد استفرغ جهده و صبره من مراوغة نظام الانقاذ عامه و العصب الامنية و كياناتها الخاصة بداخله تحديدا، وهي تحاول جاهدة بكل ما أوتيت من مفاتيح قوة و ادوات ترغيب و ترهيب: ان تفرغ العملية التحاورية من مضامينها، وان تلعب لعبتها السمجة القديمة مع القوي المشاركة فيه، بافتعال المشاكل، بقصد استصناع تضارب فيما بينها، تقريبا و اقصاءا لاطرافها بل وشراءا لمواقفها و تزويرا لمقرراتها…
حتي فاض الكيل و طفح بالسيل الزبي بكل ما قد يتصور من تامر علي مبدأ العملية التحاورية بأسرها، ليبلغ بالراحل، نصبا من الأعياء والرهق حد الوهن و المرض الذي لم يخفي علي وان حاول تصبرا و تجملا ان يخفي ذلك ما استطاع وان لا يبدوا عليه غير علامات الجلد والتماسك، يئسا من المشهد الوطني، و عجبا من ثقة نبيلة في رفقاء درب لم تصادف أهلها بما خانوا من امانة و فرطوا في مبدأ…احسب من بعد كل ذلك و بما لحظت من مشاهدات و احسست من نوايا: انه قد كان يستبصر أمرا لا نراه او يستشعر قدرا محتوما، غير منظور و لا ادل علي ذلك الا ما قال لنا في خاتمة تلكم الليلة: احدثكم بهذا، و لا ادري غدا اكون حرا او حبيسا او بين ظهرانيكم في هذا الدنيا ام لا، لينتقل الي دار الخلود والبقاء بعدها فقط بعشرة ايام….
اعتقد انه في تلك الليلة لم يردنا محاوري سياسية له، فهو يعلم رؤيتنا وخطنا السياسي المخالف له، عودا لبدء موقفنا الفكري والسياسي من الثلاثين من يونيو 1989م، و ليس انتهاءا في عديد قضايا، بخط الحركة تجاة المجتمع و الحزب و الدولة و الاستراتيجيات في الفكر و الثقافة و الاعلام بالداخل و الخارج، ورؤي: الاصلاح المؤسسي الحزبي ثم لامهات قضايا التغيير الاجتماعي السياسي لقطاع الاجيال الشابة الصاعدة، تجاوزا به رحبا متسعا بطلاقة تحرره من قيود التاريخ و الفكروية التنظيمية لرحاب المقاربة الوطنية الاشمل، علي قواعد الحرية و التعددية و الفيدرالية، باصليها الجيلي العمري و المنشطي الوظيفي، لنفارق مواقفه فيها، و بالذات ما تعلق منها باختيار لفضاء الحرية و الفكرة، المبدئي الانساني المطلق دون اي قيد، و ما خالفنا فيه في احيان عده بوازعات من انحياز تنظيمي وسياسي يقتضي اشتراطيهما التزام سقوف حدودها الاجماعية التي قد تلزم السياسوية موقفا محافظا لمن هم علي راس منظومات السياسة، و قد كنا في حل محلق عن كل ذلك تماما، ليكن ذلك علامة لنهاية و ضربة لبداية، لم نرجع له فيها وما يمثل الا لفترة وجيزة، إبان المفاصلة بوازع من ضمير و واجب نصرة معنوية و سياسية، وقد ظن كثيرون اننا لن نفعل، لما بيننا وبينه من تاريخ تشاكس و مشاغبات، و ربما اعتقدوا اننا سنلتزم جانب الطرف المتنفذ الحاكم، ثم من بعد ذلك لسني ممتدة عن ما سبق، كان موقفنا، من مبدا المشاركة بالانتخابات الرئاسية، لوعي بما تضفيه من مشروعية مغشوش علي النظام المتأسلم و لعوار معيب في نظمها وابسط قواعد استحقاقها شكلا و مضمونا و انعدام مناخ التكافؤ و المنافسة الحرة الشريفة، و الدعوة للانسحاب و المقاطعة، ثم مخالفتنا الجهير لخذلان و ضعضة قوي الاجماع الوطني بسراب قيعة حوار الوثبة التي حسبة ظمأ المؤتمر الشعبي حينها انه ماء، فأضاع اجماعا غير مسبوق لقوي الوطن، و ضيع فرصة تاريخية لجبهة مدنية ديمقراطية واسعة كانت كفيلة باسقاط نظام الانقاذ المباد منذ ذلك التاريخ، بما صور مضخما من التداعيات السالبة للثورة المصرية، و من احلام رومانسية المدينة الفاضلة للمنظومة الخالفة، لمختتم ما دفعنا به مكتوبا له برأي متداول جماعي و رأي بعنوان المقدمات فيه خلاصة مخلصة ناقدة: حول الاصلاح الديني و السياسي و الحزبي،و بالبال الإشارة الافته وتصريحات الاستاذ/ المحبوب الداوية في 2012م حول انقضاء الشرعية الانتخابية للمنظومة الشعبية، الي ان انتهي بنا المطاف معه ومنظومته الي حد المفارقة الحركية و التنظيمية و السياسية، قولا واحدا، و المفاعلة الروحية الاجتماعية والفكرية، بالتجاوز البناء، حتي انه قد أشار إلينا بايعاز منه مباشر بعد ان اشتد معه جدالنا بان نكون تيارا سياسيا او منظومة ثقافية فكريه مستقلة عن المنظومة الشعبية، اذا كنا نري فيها كل ما نري من عيوب معرفية ومنهجية ولا حرج في ذلك، و لقد كان لنا ذلك بعدها بمرحلة تاريخية اجتماعية ما…ولقد كان له في كل ذلك سرديات مغايرة وحجة دامغة بتفيقه رياضي صوري و منطق براغماتي سياسي نافع، و نظر توحيدي موسوعي متكامل، تختلف معه او تتفق تتدافع معه او حتي تتغالب، ليست تلك هي القضية، فالاهم انك تخرج من تلك المحاورة موتورا بالرهق الجميل وعقلك مفتوحا دوما علي وعي وتساؤل وقلبك منشرحا علي يقين و تفاؤل بالفكرة، و القدرة علي احداث الفارق و بالمقدرة علي انتاج التغيير و صناعة المستقبل، علي الرغم من ما كان فانه لم يقطع لنا معه ودا متصلا و مزاورة متواصلة، بل و تحاورا جادا منافحا و عصفا فكرويا مثمرا كان يحتفي به دوما لانه كان مميزا و مختلفا ولانه كان يكره البلادة الذهنية و الجمود الفكري و العطالة المادية و الروحية لمحفزات طاقات التدافع الاجتماعي، و لتجرد فيه و فينا و ترفع عن ما يسعي الناس من ورائه من مغنم سلطة و ثروة… او كما كان يردد علي مسامعنا ممازحا: انتم أناس ثقافة و فكر، محض، و اعلم عندما تاتونني بانه ليس لكم مأرب سياسة ومنصب….
لقد استهدف من اصرار علي تواجدنا، بتلك الأمسية علي إصابة كبد اخر للحقيقة….لقد صوب علي بعد اخر بذواتنا الواعية وشخوصنا الحاضرة…لقد ارادنا شهودا علي التاريخ: و اوصياء علي ما يمكن ان نطلق عليه اخر ميراث الوصايا السياسية…بمحاولته المتكررة للوقوف عند نقاط معينة يريد لنا أن نكون فيها لسان حاله وصوته في حال الغياب: لو لم أكن موجودا و قالوا او فعلوا كذا فان الموقف الواجب التزامه والخطوات الواجب اتباعها هي كذ وكذا، او ان نراقب الرجل الثاني، ماذا يفعل ان انحرف من بعده وقد أبلغه بتلك المصفوفة، هل سيلتزم بها ام لا، و المجالس أمانات والله علي ما اقول شهيد، و كانه، يتوقع ما سيصير اليه القوم من خلفه من اضاعة تفريط في الوصية السياسية و المبدأ الراسخ لتاريخ مجاهدة المنظومة الشعبية، ليس بما يعلم من وراء غيب او انكشاف حجب، ولكن بالدرجة الاولي لانه يعلم عزائم ما ترك وراءه من عضوية منتسبة بمختلف اسلاك المنظومة الشعبية، الا من عصم ربي ورحم من قليل محتسب، و ما يتوقع من ضئيل اراداتهم المضعضة المترددة، و موقفهم من فتنة السلطان، التي ما تعاملوا قط مع سني الحرمان العجاف منها، الا بكونه حلما مزعجا طويلا سرعان ما سيستيقظون منه علي عود لموقع مستحق وطبيعي لحواضن السلطة، التي لا يتصورون وجودا مستقلا لهم خارج اطار و اليات هيكلها، فهي حقهم الإلهي الحصري، و هم ظلالها في الأرض، و هم سدنة معبدها الموحدين، لا يقبلون معهم بهذا الصنم الدولاتي شريكا، ليسقطوا عند أول امتحان، و هم في ذلك لم يخيبوا ظنه بتاتا.>> يتبع