
بقلم : عمار عوض
لا اعرف لماذا تذكرت هذا الصباح مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية عام ١٩٩٥ الذي جرى توقيعه من اكبر قوة عسكرية في ذلك الوقت (الجيش الشعبي بقيادة المحترم قرنق مبيور) والقوى السياسية في عز سطوعها والتفاف الناس حولها بقيادة السيد الميرغني والمهدي والشيوعيين والنقابات الحقيقية ( وليس بوكو) مثل الان .
كانت الأخبار تترى إلينا هنا في بورسودان عبر اذاعة صوت الحرية والتجديد في العام ١٩٩٥و
كنت يومها فرحا جدا جدا واعتبر أن (تاسيسا) جديد للدولة السودانية يتوحد عبره السودانيين من كافة الأقاليم ومن كافة المدارس الفكرية (ليس مثل الان اذا لا يعبر الموجودين في نيروبي عن ١٠% من الشعب السوداني بمختلف توجهاته الفكرية وتمثيل الأقاليم السودانية) كنت فرحا لأن تحالفا نادرا يتشكل وان ساعة الخلاص اقتربت وأننا(حنبنيهو البنحلم بيه يوماتي) لكني كتت مستاء ايضا ان الشارع السوداني وقتها لم يكن منفعلا معنا بنفس قدر انفعالنا ، وعلى العكس من الوضع الان اذ ساعدت وسائل الاعلام الجديد في اننشار خبر هذا الميثاق الجديد من نيروبي وانفعال الناس بي (جنا النديهة) الحالي.
ضحكت وقلت لو كانت وسائل الإعلام موجودة في العام ٩٥ كنا سنشاهد الناطق باسم الحركة الشعبية والتجمع الوطني يومها بنفس حماسة خالد محي الدين او اي كان اسمه الذي يتناقل الان (اللايفاتية ) كلماته مبشرنا بحكم (الاشاوس )..
لكن بعيدا عن ذلك كله عندما اضع مشروع الميثاق التاسيسي الجديد الذي ينوى توقيعه اليوم في نيروبي وميثاق القضايا المصيرية على طاولة التشريح والمضاهاة أجد أن (الحال ياهو زاتو الحال وفي جواي صد الذكرى)..
كان الناس الملتزمين سياسيا يعتقدون أن توقيع اسمرا للقضايا المصيرية وتكوين اوسع جبهة مدنية وعسكرية تضم الأحزاب والجيش الشعبي وقوات التحالف وكان الدعم الدولي حاضرا ممثلا في الولايات المتحدة وحلفائها الذين اغدقوا الناس بدعمهم السياسي والعسكري وكنا نظن أن(الحكومة الجديدة للسودان الجديد) صارت قريبة المنال ومع ان الحرب تصاعدت بشكل غير مسبوق بعد ميثاق اسمرا في سنوات ٩٦ و٩٧ و٩٨ وقتل / استشهد الاف السودانيين لكن الحال لم يتغير للاحسن بل إلى الاسواء بمقياس ذلك الوقت على كل الاصعدة وكل الأطراف، حيث انشقت الحكومة في الخرطوم إلى فصيل الترابي وفصيل البشير والتقى قرنق والترابي وسط دهشة العالم وفي الجهة الاخرى تضعضع وضع تحالف ميثاق اسمرا وكانت المحصلة أن المتحاربين جميعا عادوا إلى طاولة الحوار في ميشاكوس ومن ثم (نيفاشا والقاهرة ٢٠٠٥) ليعود الجميع مختلفين ومقسمين في اتفاقات سلام مبعثرة وضاع (ميثاق اسمرا ) بعد كان اللافتة التي استظل بها الناس نحو ١٠ سنوات ومات في سبيله مئات الالاف في الحرب التي اعقبت توقيعه .
قلت لنفسي ليس هناك جديد
البربون لا ينسون ولا يتعلمون!!
اشاهد في التايم لاين السوداني المختلفة ما بين أولئك الفرحين بان بتوقيع الميثاق التاسيسي رغم الفرق الواضح وضوح الشمس ما بين جون قرنق ومولانا الميرغني وتجاني الطيب ونقد وهاشم النقابات والعدد الكبير من قيادة الجنوب او الحركة حيث منصور خالد والواثق كمير وباقان اموم وكوال منجانق وغير من دكاترة وبروفسيرات الجنوب في ذلك الوقت ، وهم بالتاكيد يشكلون زبدة المجتمع السياسي والاكاديمي السوداني وما بين الصور التي تترى ويظهر فيها ضعف التمثيل لاقاليم السودان وقوى المجتمع حيث تكثر الجلاليب وعمم الادارة الاهلية رغم احترامي لهم لكن هذا مؤشر لان مزيدا من القبلية في الطريق وانه مستحيل ان تولد دولة مدنية من رحم الإدارة الاهلية لان الاثنين أعداء بعض حيث أن الدولة الحديثة تعني بديل دولة رجالات القبائل .
بل حتى المقارنة (تبدو) معدومة بين كادر ميثاق اسمرا التاسيسي وميثاق نيروبي الان ، تجد فقط نصر الدين عبد الباري وهو يحمل دكتوراة جامعة هارفرد وحيدا غريبا بين جوقة من انصاف المتعلمين وندرة حتى لحملة الشهادات .
حتى على المستوى العسكري تنعدم المقارنة ما بين اساطين الجيش الشعبي الذين تدربوا في كوبا معقل العسكرية وبلفام حيث الكلية الحربية وما بين الضباط الفضلوا الان في الدعم السريع وجميعهم لم ينال تدريبا مؤسسا ما يعكس شكل الدولة الجديدة التي يريد (اصدقائنا) أن يضعوا لبنتها والتي قطع شك ستكون دولة القبائل والجهويات وحتما سياتي احدهم يوما ويقول للتعايشي (بلد دا ما بشهادات ) مثلما قال الجنوبيين بعد استقلالهم بدولتهم حيث أصبح مجالس أعيان القبائل (الدينكا والنوير الخ) تتحكم في القرار السياسي والحكومي وهو نفس المصير الذي سيلاقيه اولاد جامعة الخرطوم (التعايشي وعبد الباري والهادي ادريس) لان هذه سنن الكون ، حيث لا يمكن أن تؤسس لدولة كما يقولون عبر زعماء القبائل والعشائر وان يتركوا لك الحكم والقرار لاحقا .
سحبت الغطاء على راسي وقلت لنفسي دعني اكمل نومي ولا اقلق نفسي بامر قد حضرته سابقا ورايت نتائجه لاحقا ، كان ميثاق اسمرا الأكثر التفافا من القوى السياسية مقارنة بميثاق نيروبي الذي يعاني عزله سياسية ومجتمعية، وبما أن ميثاق اسمرا لم يتحول إلى دستور تأسيس بعد توقيع السلام ٢٠٠٥ كذا الحال فإن ميثاق نيروبي لن يكون سوى مهرجان شعبوي ولن يتحول هو الاخر إلى دستور دائم لدارفور او عموم السودان .
وبمثلما اعقبت اسمرا حربا ضروس في ٩٦ و٩٧ و٩٨ على كافة المحاور فإن هذا التوقيع سيصاعد من اتون الحرب في دارفور وكردفان ولأن هذه الحرب كانت موجهة بالاساس ضد المواطن والبنية التحتية فإن دمار أكثر وتدمير أعظم في الطريق إلينا.
وبمثلما قسمت اسمرا الجيش الشعبي للجنوب ما بين رياك مشار ولام أكول وقرنق مبيور وسلفا كير قطع شك ان انقسامات حادة ستقع في صفوف قوات الدعم السريع وحلفائهم وما اعفاء سليمان صندل من قواته إلى مؤشر لطبيعة المرحلة وكما انقسم الترابي عام ٩٨ فإن جبهة ومعسكر الجيش وحلفائهم سيحدث في صفوفهم بنفس دعاوى انقسام الترابي الذي ضاق زرعا بتمسك البشير بالسلطة ورغبته في أن يحكم بدلا عن التحول المدني الذي كان يرجوه الترابي ورهطه.
لكن الذي يقلقني أكثر اننا وضعنا السودان في محك تقسيم جديد لان السلطة المدنية التي دشنت بعد اسمرا في ما يعرف بالمناطق المحررة كانت النواة التي جاء منها التقسيم في ٢٠١١ إلى دولة جنوب ودولة سودان .
أن جري للغطاء على وجهي مرددا مقولة سعد زغلول الشهيرة ( غطيني يا صفية مافيش فائدة) ليست نهاية المطاف حيث ساسعى قدر الإمكان أن انبه واكتب عن الحاضر والمستقبل لنتجنب الأخطاء التي ستجعل تقسيم واقعا بعد ١٠ سنوات قادمات ، اذا لم يتم تداركها .
نعم حقائق التاريخ تقول انها ١٠ سنوات قادمة مليئة بالحرب والموت والخراب، حيث أن توقيع اسمرا كان ١٩٩٥ حتى توقيع السلام في نيفاشا ٢٠٠٥ ، وبما اننا السودانيبن لا نتعلم من تاريخنا ولا ننقد او نصحح عملنا ومسارنا السياسي فإن توقيع اليوم ٢٠٢٥ او فلنقل( تجريب المجرب) سيقودنا إلى سلام شامل او انتهاء الحرب في ٢٠٣٥.
ومع ذلك لن إياس وساعمل ما بوسعي لتتجنب بلادنا تقسيما جديدا وصناعة واقع يستفيد من أخطاء الماضي ليبني واقعا سعيدا وما الحياة لولا فسحة الامل ونحن (قدامنا الصباح) …
بورسودان ١٨ فبراير ٢٠٢٥