الرواية الأولى

نروي لتعرف

الأخبار

لا سلام بدون وضوح : خمسة أسئلة حتمية على عتبة تحقيق السلام في السودان

“السلام يتطلب أكثر من مجرد مفاوضات—إنه يحتاج إلى نظام سياسي مبني على السيادة، وإصلاح القطاع لأمني، والمساءلة الوطنية.”

د. أمجد فريد الطيب

ستصمت البنادق في السودان يومًا ما، لكن السلام لن يتحققبالصدفة أو عبر تسوية سياسية تُصاغ تحت ضغوط أجنبية، ولا عبر جولة أخرى من المساومات النخبوية بين الفصائل السياسية التي تخلط بين الصفقات السياسية والمشروع الوطني، بل ان ما يحتاجه السودانيون هو مواجهة الأسئلة الراهنة الصعبة، ولكن ضرورية للاستقرار قبل الولوج الي مشروع بناء الدولة.

إذا أراد السودانيون إنهاء هذه الحرب الكارثية وتجنب الانزلاق الدائم نحو اللادولة، يجب على المجتمع السياسي السوداني مواجهة خمسة أسئلة أساسية—بصدق، وبشجاعة، وبدون مزايدة او تهرب سياسي. معالجة هذه الأسئلة ليست ترفاً أكاديمياً أو تمريناً فكرياً. بل هي الأساس لبناء السلام، واستعادة استقرار الدولة، والحفاظ عليها. الاستمرار في تجنبها لم يعد خياراً متاحاً. وأي عملية سياسية تحاول تجنبها ليست عملية سلام، بل هي استسلام متعمد للتفكك والصوملة.  

تتلخص هذه الأسئلة الخمسة في الاتي:

1. ماذا نصنع بالجيش السوداني؟  

2. ماذا نصنع مع قيادة الجيش الحالية؟  

3. ماذا نفعل بميليشيا قوات الدعم السريع؟  

4. كيف نتعامل مع الحركة الإسلامية في السودان؟  

5. ماذا نفعل بشأن الأجندات الخارجية والإقليمية التي تغذي الحرب؟  

لا يمكن تأجيل هذه الأسئلة إلى حوار ما بعد انتهاء الحرب لأنها ليست ثانوية—بل ان الإجابة عليها حاسمة وقد كان تجنبها هو ما قاد السودان إلى الحرب.  

1. ماذا نصنع بالجيش السوداني؟  

سيظلّ للسودان جيش، هذا أمر لا جدال عليه. إذ ان وجود الدولة الحديثة ذات نفسه يعتمد على امتلاكها لقوة نظامية تحتكر أدوات العنف المشروع داخل حدودها. وتعريف الدولة في الفكر السياسي—من ماكس فيبر إلى كلاوزفيتز—ينطلق من احتكار العنف المشروع بوصفه إحدى ركائز السيادة. الجيش هنا ليس مجرد جهاز دفاعي، بل هو ركن بنيوي في هيكل الدولة واستمرارها.

في ظل غياب جيش منضبط ومهني، تنزلق الدولة إلى التفتت، وتتداعى إلى كانتونات مسلحة وميليشيات متناحرة وأمراء حرب يتقاسمون الجغرافيا والنفوذ. دور الجيش، في صورته المؤسسية الصحيحة، هو ان يحمي النظام السياسي ولا يصادره، يصون الدولة ولا يحكمها. ومن دون قوة شرعية تفرض النظام العام وتحمي العقد الاجتماعي، تعود المجتمعات إلى حالة الطبيعة البدائية حيث يصبح العنف لغة السلطة، والقوة معيار الحق، والحقوق مجرد امتيازات مؤقتة تُمنح وتُنتزع بقانون الغاب. عندئذٍ يفقد القانون روحه، وتتحول السيادة إلى وهم.. لذلك فالمؤسسة العسكرية ليست كيانًا تنظيمياً فحسب، بل هي جزء لا يتجزأ من البنية السيادية للدولة؛ أداة تحتكر الأمة عبرها حقها الأصيل في الدفاع عن ذاتها وصون كيانها.

السؤال الحقيقي ليس إن كان يجب أن يكون للسودان جيش قوي—فهذا مفروغ منه. ولكن السؤال هو أي جيش نريد، وبأي عقيدة وقيادة واقتصاد وإطار مساءلة.  

كان الجيش السوداني، عبر تاريخه، مؤسسة دولة وفاعلاً سياسياً في آنٍ واحد؛ يتدخل في الحياة العامة، يقاطع الممارسة السياسية المدنية، وينفذ الانقلابات تلو الانقلابات، ويحتمي بخطاب الوطنية لتبرير السيطرة والاستبداد. غير أن هذا التداخل بين وظيفة الدولة ووظيفة السلطة أضعف الجيش نفسه قبل أن يضعف الدولة. فالممارسة السياسية أفقدته صفة الحياد المفترض في المؤسسات السيادية، وجرّته إلى صراع السلطة ومناوراتها، بينما طبيعتهالعسكرية جعلته عاجزاً عن إدارة الشأن المدني بفعالية أو التعامل مع منطق الدولة الحديثة القائمة على التوافق المدني والتعدديةوالديمقراطية. 

غير أنّ الجيش لم يُخلق سياسياً بطبيعته، بل جرى تسييسه عبر عقود من الطموح الاستبدادي، وضعف الحكم المدني، والتلاعب الأيديولوجي، والتخريب الإقليمي، وضعف الرقابة المهنية. إصلاح الجيش اليوم ليس مشروعَ انتقام ولا ينبغي أن يُختزل في تصفية حسابات سياسية، بل هو عملية إنقاذ ذات غايتين: إنقاذ الدولة من التفكك، وإنقاذ المؤسسة العسكرية من الترهل والانهيار المؤسسي، عبر استعادة احترافيتها وتثبيت دورها الطبيعي كعمود سيادي يحمي الدولة، لا كأداة سلطة أو طرف في صراع سياسي.

إعادة الجيش إلى دوره المشروع تتطلب إطارًا وطنيًا للتعاون وتوزيعاًواضحاً للمسؤوليات لا يسمح بالتداخل ولا بتسيس المؤسسة العسكرية. دور السلطة المدنية ينحصر في تحديد أهداف الأمن القومي، بينما يوكل للمؤسسة العسكرية المهام المتعلقة بالتخطيط لتنفيذها وتنفيذها. ولتحقيق ذلك، لا بد من بناء أسس واضحة منذ الآن، لا بعد انتهاء الحرب، حتى لا يتكرر انتقال عسكري يعيد إنتاج الماضي. وتشمل هذه الأسس:

• إعادة هيكلة مهنية شاملةتشمل تحديث نظم التدريب، واعتماد التوظيف والترقي على أسس الكفاءة، الدعوات لهيكلة الجيش على أسس الانتماء القبلي أو الجهوي.

• رقابة مدنية وطنية ذات شرعية مقبولة ومتفق عليها:  وهذه لن تتحقق بالشعارات او عبر الضغوط الخارجية، بل تحتاج الي عملية توافق وطني مقنعة للجميع وتحظى بدعم شعبي وفي إطار تحول سياسي أوسع يتضمن صناعة دستور دائم يحدد بوضوح موقع الجيش في هيكل الدولة وخضوعه للسلطات المدنية المنتخبة.

• تنظيم النشاط الاقتصادي العسكريتحديد حدود الاستثمار العسكري المسموح به ضمن اطر قانونية تضمنالشفافية وتمنع تضارب المصالح، مع إخضاع الشركات العسكرية لرقابة الدولة والمراجعة العامة، لضمان أن تُخدم الموارد الاقتصاد الوطني دون ان تبني شبكات نفوذ.

هذه التدابير ليست عقابًا للجيش، بل شرطاً ضرورياً لإنقاذ الدولة وإصلاح هياكلها واستعادة سيادتها. فهي تضمن قيام جيش حديث وظيفته الحماية وليس الحكم، ويؤسس لانتقال سياسي حقيقي نحو دولة مدنية ديمقراطية مستقرة.

2. ماذا نصنع مع قيادة الجيش الحالية؟  

ظلت قيادة الجيش الحالية جزءاً أساسياً من المعادلة السياسية السودانية منذ 2019، وأصبح دورها أكثر إثارة للجدل والاستقطاببعد انقلاب اكتوبر 2021. ولكن منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، اكتسبت قيادة الجيش شعبية واسعة ودعم قاعدي بسبب دورها في مواجهة المجازر، وجرائم العنف الجنسي الجماعي، والنهب والتهجير، والتطهير العرقي التي ارتكبتها غريمته: ميليشيا الدعم السريع وادت الي معاناة الملايين من السودانيين. لكن هذه الشعبية المكتسبة في الحرب لا تصلح لأن تكون ذريعة لتكريس الحكم العسكري. بل تضع على عاتق هذه القيادة مسؤولية إدارة انتقال منظم نحو حكم مدني، يبدأ بالمصالحة الوطنية ولا ينتهي بإقامة سلطة رقابة مدنية على الدولة، بما فيها القوات المسلحة، وصولاً إلى تنصيب حكومة مدنية منتخبة ديمقراطيًا.  

دور قيادة الجيش الحالية في الانتقال يحدده إطار واقعي وعملي، يشمل استراتيجية انتقالية منظمة ومشرفة لتسخير نفوذه وشعبيته في عملية انتقال سياسي واضحة المعالم. هذه الخطوة حاسمة لتجنب انهيار المؤسسات وتفتت جهاز الدولة، الذي توطد ركائزه حالياً قيادة الجيش. هذا الترتيب الانتقالي المؤقت من الحرب إلى الاستقرار هو إجراء وقائي أساسي للدولة، ويهدف الي إرساء أساس الاستقرار طويل الأمد. هذا الدور ليس امتيازًا، بل مسؤولية تعيد تعريف المناصب القيادية كمواقع خدمة عامة لا غنائم.  

3. ماذا نفعل بميليشيا قوات الدعم السريع؟  

وهنا يجب أن يكون الجواب واضحاً لا لبس فيه. قوات الدعم السريع ليست مؤسسة وطنية—إنها بل مسخ ميليشياوي صنعه عمر البشير كأداة لبقاء نظامه، خارج بنية الدولة وضد منطقها ذاته، ليكون ذراعًا خشنة لحمايته لا لحماية الوطن. إنهاء الوجود المؤسسي لهذه المليشيا هو واجب وطني تأخر كثيراً. السكوت على تمدده حتى أصبح هذا الوحش المنفلت اليوم كان خطيئة كبرى اشتركت فيها القوى السياسية جميعها بدرجات مختلفة: من سكت وهادن، ومن موّل وساوم، ومن استعمله كورقة ضغط، ومن سلّحه واستقوى به. واليوم يدفع السودان كله فاتورة هذا العبث.

لم يُنشأ الدعم السريع للدفاع عن البلاد بل لترويعها. تم صناعتهاكأداة لحرق القرى في دارفور، وقتل المتظاهرين في الخرطوم، ثم تحوّل إلى شركة مرتزقة تخوض الحروب بالوكالة، قبل أن يُعاد تغليفه سياسيا وتسويقه دوليا كشريك في مكافحة الإرهاب وضبط الهجرة. غير أن الحقيقة لم تتغير: لقد كانت هذه المليشيا وما تزال منظومةنهب مسلح ترتدي الزي العسكري: من تهريب الذهب، والاتجار بالبشر، والنهب العابر للحدود، والفساد المنظم بواجهة مسلحة. وبعد سقوط البشير لم يتأخر طويلاً قبل ان يحظىبراعي أجنبي جديد.

الحل لأزمة السودان ليس المقترح الساذج الذي يتم الترويج لهعبر بعض الدوائر السياسية والقوى الأجنبية بأن يضعف السودان جيشه الرسمي أو يقبل نظاما أمنيا تتعايش فيه قوى مسلحة متعددة عبر اندماج تفاوضي. التاريخ يقول العكس: الدولة التي يتواجد فيها أكثر من جيش تتوقف عن أن تكون دولة. ووجود الدعم السريع موازياً للقوات المسلحة لم يعزز استقرار السودان، بل أدى الي انتاج الحرب التدميرية الحالية. السيادة الوطنية واحتكار الدولة للقوة لا يمكن أن تتم مشاركتها بين جيش دستوري وميليشيا خاصة. أحدهما يجب أن يبقى، والآخر يجب أن ينتهي.

أثبتت الحرب الراهنة أن الدعم السريع ليس مشروعاً سياسيا، لا أيديولوجيا لها سوى جشع الربح، ولا قضية وطنية سوى السعي للسلطة، ولا ولاء لها إلا لمن يمولونها. إنه نموذج كامل للاستحواذ الميليشياوي على الدولة: اقتصاد افتراسي، استغلال عرقي، والارهاب كآلية حكم. وجود هذه المليشيا غير متوافق بشكل دائم مع أي رؤية لدولة وطنية حديثة. لابد من تفكيكها. وتفكيكها ليس بسبب إجرامها فحسب، بل لأنها هيكلياً غير متوافقة مع بنية الدولةالطبيعية. لا تستطيع أي دولة التعايش مع جيش خاص على أرضها.  

لكن التفكيك لا يعني شعارات رومانسية عن السحق العسكري، ولا يعني كذلك الاستسلام لإفلات أمراء الحرب من العقاب. بل يعني تصميم استراتيجية جدّية لنزع السلاح وإنهاء اقتصاد الحرب بشكل يحمي الدولة من نموذج صوملة التسعينات. ويستلزم ذلك ترتيب واضخ لأولويات التعامل مع الدعم السريع:

▪ عزل مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم المستحقين للمساءلة، مع خلق مسارات خروج آمنة لمن اُجبروا على القتال أو التجنيد.

▪ تقديم حوافز طوعية لإعادة الاندماج للمقاتلين غير المسيسين، بمن فيهم شباب القبائل المجبرة أو المستغلة اقتصادياً. 

▪ تحييد شبكات الرعاية الإقليمية عبر فرض مبدأ سيادة الدولة على شؤونها الداخلية وإنهاء التدخل الخارجي في البُنى العسكريةوالسياسية. 

▪  منع إعادة تدوير أمراء الحرب عبر أي تبييض سياسي أو إعادة تسويق إعلامي.

▪ إعادة تأهيل نظم كسب العيش في الأطراف وإعادة بناء مؤسسات الأمن المحلية لمنع ولادة ميليشيات جديدة تملأ فراغ ما بعد الدعم السريع.

لا بد أن يكون هذا التفكيك منظما وسلمياً قدر الإمكان بلا إغراق جديد في دماء السودانيين. وقد تكون حزمة حوافز لقيادات الميليشيا ورعاتها الخارجيين دواءً مرّاً لكنه قد يكون ضرورياً لتجنب حرب لا نهاية لها. والعملية السياسية لإعادة إدماج المقاتلين في المجتمع المدني هي أمر حاسم لتجنّب حرب عصابات أبدية. لكن لا وهْم، ولا دعاية ولا حملات علاقات عامة ولا تحالفات انتهازية قادرة على تحويل الدعم السريع إلى قوة وطنية شرعية أو إلى فاعل سياسي طبيعي. مصيره محتوم الي زوال، لأن السودان الذي يستعيد سيادته لا يمكن أن يتعايش مع جريمة منظمة ترتدي بزّة رسمية.

4. ماذا نفعل بالحركة الإسلامية؟  

حكمت الحركة الإسلامية السودان ثلاثين سنة، مخلفة سجلاً وحشياًمن الفساد والاستبداد والقمع المنهجي والحروب والانقسام الوطني المتعمد. العدالة السياسية، لا تصفية الحسابات، تقتضي تمييزاً واضحا: ليس كل اسلامي هو مجرم حرب، بل ان بعض شبابهم قدساهم بشكل فاعل في ثورة ديسمبر ومقاومة النظام السابق. لكن كثير من قادة النظام السابق ارتكبوا جرائم ضد الشعب وبعضهم مطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، وعلى رأسهم البشير نفسه.

لقد قال الشعب السوداني حكمه ضد هذا المشروع في ثورة ديسمبر 2018–2019. هتف الملايين «تسقط بس!» وسقطت الديكتاتورية. لكن التاريخ يعلّمنا أن الثورات تطيح بالأنظمة يعني سقوط بنيته العميقة. فالثورات تُسقط الحكام ولا تقتلع شبكاتهم المتغلغلة في الدولة. وبالفعل، فإن سقوط البشير لم يعنِ هزيمة الإسلام السياسي، فقد بقيت شبكاتها مزروعة في مفاصل الدولة، داخل مؤسسات الخدمة المدنية والأمن والاقتصاد والإعلام.

ومع ذلك، تقتضي العدالة السياسية — لا الانتقام — التمييز بين مستويات المسؤولية داخل هذا التيار. فمن الإسلاميين من تورط في الجرائم وانخرط في التآمر ضد أي مسار ديمقراطي. لكن آخرين انشقوا عنه، ومنهم من شارك في الثورة، وبعضهم اليوم يقاتل دفاعًا عن بلاده ضد ميليشيا الدعم السريع. لا مكان هنا للكسل الأخلاقي: التعميم هنا هروب من المسؤولية وخضوع لاجندة اجنبية تسعى لتبرير تدخلها العسكري في السودان.

ومن الخطأ أيضًا تصور الحركة الإسلامية كتلة واحدة. فحزب المؤتمر الوطني فقد تماسكه البنيوي بعد الثورة، وتمزقت صفوفه بالصراعات الشخصية والفوارق بين الأجيال والتناقضات بين الحرس الأيديولوجي المتشدد وبين البراغماتيين الباحثين عن النجاة. ما يبدو تماسكاً اليوم في صفوف الإسلاميين ليس قناعة سياسية، بل تلاحم اضطراري بفعل الخوف—الخوف من المحاسبة والإقصاء والملاحقة الجنائية. إنها وحدة خندق لا وحدة مشروع. ووجود فصيل المؤتمر الشعبي بقيادة علي الحاج متحالفاً او متقارباً مع تقدم التي تدعو لاقصاء الإسلاميين من المشهد، هو نفسه دليل على ذلك. 

لذلك، فان النهج العملي الوحيد يكمن في صياغة معادلة سياسية متوازنة تقوم على الشمول الانتقالي المشروط مع المحاسبة بلا مساومة، ويمكن ان يكون على النحو التالي:

▪ من ارتكب جرائم يجب أن يُحاسب—لا تفاوض على العدالة.

▪ من يقبل قواعد الديمقراطية يمكن منحه مسارًا سياسيًا—تحت ضمانات صارمة.

▪ من يعمل لإعادة الاستبداد يجب أن يُهزم سياسيًا—عبر الإرادة الشعبية والمؤسسات.

هذه ليست رؤية نظرية. تجارب العدالة الانتقالية من جنوب إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا تشير الي أن المجتمعات لا تتعافى بالثأر، بل بتنظيم المشاركة السياسية على أساس العدالة والمساءلة. السؤال ليس: كيف نستأصل الإسلاميين من الحياة السياسية؟ بل: كيف نمنع أي قوة—إسلامية كانت أو غيرها—من إعادة اختطاف الدولة؟

يجب أن يوازن الشمول الانتقالي بين المحاسبة والتعددية السياسية. لا يمكن بناء ديموقراطية تعددية باقصاء تيار اجتماعي كامل، لكن لا يمكن بناء الاستقرارا أيضاً بإعادة إنتاج شروط الإفلات من العقاب. الديمقراطية هي منافسة محكومة بالقواعد وبالدستور. التوازن يكمن في شمول مشروط مع محاسبة لا يمكن التراجع عنها: السماح لمن يلتزمون بقواعد الديمقراطية بالمشاركة، ومنع سياسات الانتقام أو الهيمنة الأيديولوجية.

أكثر من ذلك، دعم العناصر المعتدلة والعقلانية من التيار الإسلامي وإتاحة الفرصة لمشاركتها يعزل الفصائل المتطرفة ويسهم في الاستقرار خلال الفترة الانتقالية ويقلل من خطر التطرف العقائدي. لكن مشاركتهم يجب أن تكون مشروطة بقبول المساءلة عن الانتهاكات الماضية، ومساءلة المجرمين قانونياً، والمساهمة الفعلية في تفكيك شبكات التمكين داخل مؤسسات الدولة، والالتزام الصارم بالمعايير والممارسات الديمقراطية ورفض العنف السياسي. وفي المقابل، لا يجوز لحزب المؤتمر الوطني—الذي حل قانونيًا—أن يدعي التمثيل؛ هذا قيد من قِبَل العدالة التي يجب أن يتحملها الإسلاميون عن إرث حكمهم المرير.

5. ماذا نفعل بشأن الأجندات الخارجية والإقليمية التي تغذي الحرب؟  

كشف اندلاع الحرب في أبريل 2023 أن سيادة السودان متصدعةمنذ زمن، وقد أضحت تُعامل كسلعة قابلة للتفاوض لا كمبدأ حاكم. استغل الفاعلون الخارجيون الفراغات المؤسسية في سيادة الدولة لتعزيز مصالحهم الاستراتيجية، محولين السودان إلى مسرح لصراعات بالوكالة، واستخراج الموارد، وحصد النفوذ السياسي. هذا التصدع السيادي رسخ حلقات التبعية والضعف. أصبحتالأجندات الأجنبية هي التي تشكل ديناميكيات السلطة الداخلية، توفر حماية أو رعاية للميليشيات وللسياسيين وحتى للقيادة الأهلية والقبلية، وتدعم فصائل مستعدة لمقايضة المصالح الوطنية بمكاسب قصيرة الأجل. النخب السودانية، بدورها، أضحت تسعىلمكاسب داخلية عبر تحالفاتها خارجية، معززة نظاماً ذاتي الاستمرار حيث تترقى في مواقع السلطة ليس بالكفاءة أو الشرعية، بل بالرعاية الخارجية. النتيجة مشهد سياسي متصدعتحكم فيه محاولات التفاوض أو التسوية حسابات او اجندات او حتى اهداف خارجية.  

طريق السلام الحقيقي يتطلب إعادة تأكيد ثوابت وطنية: مبادئ وحدود تحدد سيادة السودان، واستعادة وكالته السياسية الوطنية، وسلطة مؤسساته بحيث تنبع من الداخل. صياغة عقيدة وطنية في التعامل مع العلاقات الخارجية أضحى ضرورياً ، ويجب أن يرسخ الالتزامات التالية:  

– رفض اي رعاية أجنبية لميليشيات أو مؤسسات سياسية: جميع الفاعلين الأمنيين والسياسيين يجب ان يستمدوا شرعيتهم من وجودهم الداخلي او تفويضهم الدستوري، لا رعاية خارجية.  

– الشفافية والمساءلة في الترتيبات الاقتصادية الاجنبية: الشراكات الأجنبية لا يمكن أن تتجاوز الرقابة العامة أو المصلحة الوطنية. الموارد الاستراتيجية والصفقات الاقتصادية يجب أن تعزز قدرة الدولة لا تضعفها.  

– سلطة مدنية على الاتفاقيات الأمنية والعسكرية: لا اتفاقيات أمنية—تحالفات، قواعد، أو مساعدات عسكرية—تُجرى بدون مؤسسات مدنية منتخبة أو تمر دونها.  

– حياد سيادي في الموقف الاستراتيجي: بوصلة التعامل مع القوى الخارجية هو المصلحة الوطنية، لا الاستسلام السلبيولا الحسابات الايدلوجية.  

– شراكات متبادلة مبدئية: علاقات السودان الدولية يجب أن تقوم على احترام متبادل، التزامات قابلة للتنفيذ، وتبادل استراتيجي، لا اعتماد معاملي.  

استعادة الوكالة السودانية يتطلب ليس فقط الالتزام بهذه المبادئ بل تطوير مؤسسات داخلية قادرة على حمايتها ومستعدة للتفاوض والتنفيذ واتخاذ القرار المستقل بناء عليها. السلام بلا سيادة ليس سلامًا بل وهمٌ مؤقت. من دون عقيدة وطنية واضحة قابلة للتنفيذ تستعيد للدولة قدرتها على فرض قواعدها وصياغة خياراتها وفق مصالحها، ستتحول أي تسوية إلى هدنة هشة مفتوحة للتلاعب الخارجي والابتزاز الإقليمي. وحده ترتيب الأولويات على أساس مشروع وطني يعيد الوكالة الوطنية ويحصّن القرار السيادي—عبر مؤسسات دولة قادرة، وعملية سياسية شفافة، وانضباط تنفيذي—يمكن أن يكسر دورة الارتهان ويفتح الطريق نحو سلامٍ مستدام يصنعه السودانيون لأنفسهم، لا يُملى عليهم. قد تكون السيادة المتصدعة قد صنعت ماضي السودان المأزوم، لكن إعادة بناء سلطة دولة مترابطة وشرعية هي طريقه الوحيد إلى المستقبل.

الخاتمة: الخيار أمامنا  

لا يعاني السودان من أزمة تفاوض—بل أزمة رؤية. كثير من الفاعلين السياسيين يهرعون نحو مقاعد في طاولات التفاوض دون الاتفاق أولاً على الأسئلة الأساسية التي تحتاج هذه الطاولات للإجابة عليها لإنقاذ البلاد من التفكك. لكن لا أحد سيؤمن سلطة في دولة منهارة. لن تكون هناك سلطة لممارستها، لا مؤسسات لاداراتها، لا سيادة للمطالبة بها—فقط خرائب دولة أكلتها الميليشيات واقتصاديات الحرب والأجندات الأجنبية. السلام لا يُصنع بالطرق المختصرة.  مسارات بناء الدولة—التسوية السياسية، إصلاح القطاع الأمني، والحوكمة الاقتصادية—يجب أن تُدار بتسلسل منطقي متدرج حتى لا تقوّض بعضها البعض. على النخب السياسية المتهافتة على مقاعد التفاوض أن تدرك حقيقة بسيطة وقاسية: لا أحد يبني سلطة مستدامة فوق ركام دولة تتفكك. الشرعية لا تُنتزع بالمواقع بل تُكتسب بقدرة المشروع السياسي على مواجهة الانهيار الوطني عبر تسلسلٍ مدروس يربط بين الإصلاح والعدالة والسيادة، ويجعل كل خطوة تعزّز الأخرى بدل أن تعمّق التصدعات القائمة.

الإجابة على هذه الأسئلة الخمسة ليست ترفًا سياسيًا ولا خيارًا يمكن تأجيله، إنها مسألة بقاء. فوقف إطلاق النار وحده لن يضع حداً للحرب، والإغاثة الإنسانية وحدها لن تعيد بناء الدولة، والمفاوضات التي تتجاهل هذه الأسئلة لن تلد إلا الفشل ذاته مرة أخرى. على النخب السياسية في السودان أن تدرك الحقيقة البسيطة والقاسية: لا يمكن انتزاع السلطة في دولة تنهار، فالسلطة تستمد وجودها من الشرعية، والشرعية لا تُبنى إلا على استقرار النظام وقدرة الدولة. ما يحتاجه السودان اليوم ليس صفقة جديدة بين النخب، بل عملية إعادة تأسيس وطنيةمشروع واعي لإعادة بناء النظام السياسي من جذوره، استنادًا إلى مواجهة الأسئلة الحتمية لا الهروب منها. هذه ليست معركة مقاعد، بل معركة إنقاذ وطن وصياغة مستقبله.

يجب أن تُبنى العملية السياسية في السودان على تسلسل صارم لا يقبل القفز فوق المراحل أو خلط الأجندات، فالفوضى ليست قدراً بل نتيجة مباشرة لغياب المنهج. الطريق إلى الدولة يبدأ من ترتيب ضروراتها لا مناصب الفاعلين فيها. لذلك، فإن المسار الوطني للخروج من الحرب يجب أن يسير وفق معادلة واضحة:

إيقاف الاقتتال النشط أولاً يتبعه حصر وتفكيك قوات الميليشيا ونزع الطابع العسكري عن المجال العام ثم الشروع في إعادة بناء جيش وطني مهني موحد وإعادة تأسيس الدولة على أسس مدنية وتنظيم التعددية السياسية بقواعد عادلة تضمن استعادة السيادة الوطنية وبناء اقتصاد منتج.

لكن هذا التدرج لا يتحقق بشعار أو إعلان مبادئ فقط؛ بل عبر هيكلة العملية التفاوضية نفسها. فجزء كبير من فشل المسارات السابقة كان ناتجاً عن خلط الملفات وتدوير الصفقات بين البنادق والطموحات السياسية. لذلك، يجب الفصل بين ثلاث عمليات تفاوضية مستقلة في موضوعاتها، مترابطة في نتائجها:

1. التفاوض العسكري – عسكري

وقف إطلاق النار الدائم وترتيبات إنهاء الإقتتال هو ملف عسكري بحت، يُدار حصراً بين الفاعلين العسكريين المتحاربين، دون تسييس أو مقايضات. ودون محاولة استغلاله سياسيا لصالح أي طرف في المسارات الأخرى، والهدف منهواضح: إنهاء القتال، تفكيك الميليشيا، وتأمين وحدة وسلامة التراب الوطني. لا ينبغي أن يُختطف هذا الملف لفرض تسويات سياسية قسرية أو إعادة تدوير نفوذ الميليشيا في شكل شراكات أو دمج دون تفكيك، لضمان نفوذ او مكاسب سياسية مستقبلية لأي طرف.

2. التفاوض السياسي المدني

مستقبل الحكم في السودان يجب أن يُصاغ بيد القوىالسياسية المدنية الوطنية عبر عملية سياسية مستقلة عن ضغط السلاح. هذا المسار يحدد شكل الدولة، نظام الحكم، قواعد الانتقال، الدستور، الإصلاح المؤسسي، والعدالة الانتقالية. وهو خارج ولاية العسكريين وتحالفاتهم تماماً، فالعسكر ليسوا طرفاً سياسياً ولا يحق لهم التفاوض على شكل الحكم، وكذلك فان محاولات الزج بالمليشيا عبر واجهات جديدة في هذا المسار والاستفادة من وجودها العسكري لتحقيق مكاسب سياسية هو مساهمة مباشرة في إطالة أمد الحرب

3. التفاوض مع الرعاة الخارجيين

لا يمكن إنهاء الحرب مع بقاء أبواب البلاد مشرعة أمام الأجندات الإقليمية. لذلك يجب مسار خاص للتعامل مع الدول الضالعة في تغذية الحرب—سواء بالدعم المالي أو التسليح أو الوكلاء. هذا المسار يجب أن يقوم على ثوابت السيادة الوطنية:

o منع تحويل السودان إلى ساحة صراع نفوذ أو ممر للنهب.

o إنهاء شبكات الاقتصاد الحربي والتهريب العابر للحدود.

o ضبط العلاقات الخارجية على أساس المصالح المتبادلة لا التبعية.

تقسيم هذه المسارات الثلاثة ليست ترفاً تنظيمياً، بل هي شرط لمنع تكرار التجارب الفاشلة: لا صفقة سياسية تحت فوهة البندقية، ولا مكافأة للميليشيات، ولا شرعنة للتدخل الأجنبي. وعندما تتكامل هذه المسارات، يصبح الحديث ممكناً عن تسوية سياسية لاستعادة الاستقرار ، لا تسوية تعيد إنتاج الحرب، بل تؤسس لسلام مبني على السيادة والنظام لا على الصفقات الهشة.

لا يفتقر السودان إلى الشجاعة في ساحات المعارك، بل إلى الشجاعة في ميدان السياسة. ستصمت البنادق يوماً ما. أما إذا كان السودان سيقوم على قدميه مرة أخرى—أم يختفي في خريطة الدول الفاشلة—فيعتمد على ما إذا كان قادته السياسيونسيواجهون هذه الأسئلة الخمسة الآن، بصدق ووضوح وإرادةسياسية وطنية. فالسلام ليس مجرد غياب الحرب. السلام هو وجود دولة قادرة على الدفاع عن شعبها، والحكم بشرعية، واستعادة سيادة شعبها على مصيرها.

اترك رد

error: Content is protected !!