تُراثنا الشعبى ملئٌ بالقصص عن أخلاق الفُرسان والتى لاتختلف عن قوانين الحرب والقانون الدولى الإنسانى .. وكان رجال الجيش السودانى فُرساناً حققوا أكبر الإنتصارات فى كل حُروبهم التى خاضوها دون المساس بطفلٍ أو إمرأة أو أعزل ، ودون إلحاق الضرر بزرعٍ أو بيت .. فتخلدَّت أسماؤهم إلى يومنا هذا لتُعَلِّمَنا قصصهم أن الحروب مهما بلغت جِديَّتها فلها قواعِدَ تُحتَرم .. !! عنوانها الأول هو الإنسانية وأزيد عليها الأخلاق السودانية المُستَمدة من ديننا الحنيف .. وليس أدَّل على ذلك من الموقف الذى وقفه الجندى السودانى عندما سقطت طبرق الليبية فى أيدى جيوش الحُلفاء المُكونَّة من الإنجليز والهنود والأفارقة وبعض قوة دفاع السودان ، حيث أمر القائد البريطانى جنوده بإستباحة المدينة لثلاثة أيام إلاَّ أن جُندُ الله جُندُ الوطن شهروا أسلحتهم فى وجه الجيش الغازى ، وشكَّلَتْ الكتيبة السودانية حاجزاً بينهم وبين حرائر ليبيا ومنعوهم بقوةٍ وحزم من أن يمسوهم بسوء ..
طافت بذهنى تلك المشاهد والمعانى التى إستدعتها الذاكرة وأنا أشاهد برنامجاً وثائقياً ( جلسة لمجلس الشعب المصرى ) بمناسبة ذكرى الإنتصار العظيم لتكريم أبطال حرب أكتوبر ، حيث قدَّم وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة المصرية تقريراً عسكرياً للرئيس السادات أمام نواب الشعب عن أدوار أفرع القوات المسلحة تفصيلاً وأدوار قادتها الذين كانوا حضوراً فى إنتظار التكريم ، ومن ثم قام السادات بإستجواب قائد الجيش الثالث الميدانى بالسويس أمام النواب ( وهو من الأبطال الذين تم تكريمهم فى الجلسة لبطولته النادرة ، وقد تمت ترقيته لرتبة اللواء أثناء سير العمليات الحربية رغم صغر سنه ) .. فقال له الرئيس : لقد أصدرتُ تعليماتى للقائد العام بأن تظَّل أنت وكل الجيش الثالث بمواقعكم لحماية وتأمين السويس ولو أدَّى ذلك لفنائكم بالكامل فهل إلتزمت بما صدر إليك من تعليمات ..؟ هل حافظت على سلاحك ورجالك وآلياتك وشرف القوات المسلحة ..؟ هل إستطاع العدو أن ينال منكم أو يُحدث خسائر فى صفوفكم ..؟ هل وهل وهل ..!!؟ الرئيس يسأل والقائد الشاب يُجيب بثبات وقوة والنواب يُطيلون التصفيق .. وللقارئ أن يستنبط الإجابات من الترقية الميدانية لرتبة اللواء أثناء شراسة القتال مع العدو الصهيونى ..
وإمتلأتُ فخراً كأن الحرب لاتزال غضَّة طرية وليس قد مضى عليها خمسون عاماً ومضى كل من كان حضوراً لتلك الجلسة إلى ربه إلاَّ قليلاً منهم .. وما أن إنتهى البرنامج الوثائقي إلتفتُ إلى هاتفى مُتَصَفِّحاً لأجد إستباحة العيلفون من قبل البُغاة المتمردون وتهجير أهلها بعد أن نُهِبَتْ ممتلكاتهم .. فسائنى جداً أن أجد أن قواتنا المسلحة تُقاتل لصوصاً لا يعرفون أن للموت جلالة .. ولا كرامةَ عندهم للميِّت .. لصوصاً أجهزوا على مصابيح مدينتنا فساد الظلام وعمَّتْ الفوضى وعملت يدهم العابثة نهباً وتهريباً .. ولا تُقاتِلُ جيشاً مُحترماً يعرف قيمة الشرف العسكرى أوخصماً يُنازل بأخلاق الفُرسان .. إييييييييه يا جيشنا العظيم بعد أن كُنتَ تُقاتل فى المكسيك وفى طبرق وكُل مكان أصبحتَ تُنازلَ ذئاب الصحراء المتعطشون للدماء الذين تلتمع أنيابهم وأسيافهم ولا تشبع أمعاؤهم من الحرام ..
إن بطون الكُتُب مليئة بالصفحات الدامية لكن الذى أحدثه التتار وعرب الشتات فى بلادنا وفى أهلها لم يشده التأريخ من قبل ولن يشهده مستقبلاً .
وحقاً أنَّ بلادنا كانت .. وكانوا رجالاً قبل يحكموا ..!! كما قال الشاعر الفيلسوف عبدالله البردوني ..!!
حفظ الله سوداننا وأهله من كُلِّ سوء .
د . إدريس ليمان
السبت ٦ أكتوبر ٢٠٢٣م