يمر السوداني بتغيرات إجتماعية كبيرة لابد من تلافيها لـتأثيرها السالب علي إستقرار المجتمع و وحدته وذلك بسبب تأثر مؤسسة الزواج بارتفاع نسبة العنوسة وسط الرجال والنساء علي حدا سواء، تشير تقارير صحفية إلى وجود 4 ملايين فتاة في سن الزواج من مجموع نساء السودان المقدر عددهن بنحو 20 مليونا وأتوقع مثل هذا العدد من الرجال مع العلم أن الإحصائيات تشير إلي تساوي نسبة الذكور والإناث بين سكان السودان، الأمر المثير للقلق بصورة أكبر أيضا هو تزايد نسبة الطلاق، وفقا لتصريح للسلطات القضائية بالسودان (كما أشارت صحيفة العربي الجديد في عددها الإلكتروني الصادر في 20 أغسطس 2022م) في إحصائية مقلقة تشير إلي أن المحاكم بالبلاد شهدت نحو 271 ألف دعوى طلاق خلال أربع سنوات (2016 – 2020م) وتُرجح وجود الكثير من الحالات غير المسجلة حيث لا يفضل البعض الذهاب إلي المحاكم إلا للضرورة مثل مشاكل الحضانة أو ممانعة الزوج في ذلك،وتكشف الإحصائية ذاتها أن عام 2021 شهد 64 ألف حالة طلاق وأن العاصمة الخرطوم سجلت أعلى المعدلات، هذا ويعزي البعض ازدياد نسبة الطلاق وتأخر سن الزواج لتدهور الوضع الاقتصادي وعوامل اجتماعية أخري.
وصمة العنوسة في السودان
جري العرف في المجتمع السوداني أن توصم الفتاة التي تأخرت في الزواج بأنها عانس بينما يطلق علي الرجل الذي يتأخر في الزواج عازب مما يعد تحيزا ظاهرا ضد المرأة ووصما لها دون الرجل، و أصل كلمة عانس في معجم مقاييس اللغة هو العَنْس، ويعني شدة في الشيء وقوة. والعَنْس اسم من أسماء الناقة، سُميت عنسا إذا تمت سنّها واشتدت قوتها ووفرت عظامها وأعضاؤها. ويقال عنست المرأة إذا صارت نصفا وهي بعد لم تتزوج. وعنّسها أهلها أي إذا حبسوها عن الأزواج حتى جازت فتاء السن. و العانس في اللغة العربية تطلق على الرجال والنساء، وهذا ربما ما لا يعرفه الكثيرون في مجتمعنا السوداني، ولا يريدون أن يعرفوه! لذا تشوه المعنى في عرفنا ، وإن كان في الأصل اسم من أسماء الناقة!. فصارت الكلمة تطلق على المرأة فقط ليس بمعناها اللغوي، ولكن بمغزاها المجتمعي المعيب والمنتقِص بحق المرأة ولا أري أي مبرر للتحيز ضد المرأة و يطلق عليها عانس ويطلق علي الرجل عازب فكل من تأخر عن سن الزواج رجلا أو إمراة فهو عانس وبالتالي إن كان ثمة وصمة -كما يعتقد البعض- فمن العدل أن يشتركا في الصفة إذا ما تأخرا في الزواج.
عزوف الشباب عن الزواج
عزوف الشباب عن الزواج و عنوسة بعض الرجال والنساء أصبح في الآونة الأخيرة من المشاكل التي تواجه المجتمع السوداني ومن القضايا التي ينبغي أن يوليها المجتمع عنايته، ينبغي ألا يقع اللوم فقط علي النساء وأسرهم حيث يري المجتمع أن ذلك وصمة أشبه بالعار، بل المسؤولية في رأيي مجتمعية ينبغي أن يتحمل مسؤليتها كل افراد المجتمع رجالا ونساء ويسعي الجميع لحلها، صحيح أن الأمر مرتبط بالقسمة والنصيب و العوامل الاجتماعية والاقتصادية لكن لابد للمجتمع أن يهتم بالمشكلة بالقدر الكافي ويبحث لها عن حلول.
من الأشياء الطريفة جدا أني ذات مرة كنت أطرح علي إبننا الكبير أن يتزوج بعد تخرجه من الجامعة ففاجأني قائلا: ” مين القال ليك أنا عاوز اتزوج” فلم يترك مجالا للإسترسال في الحديث وأنتهي النقاش علي ذلك، و اذكر أن دُعيت إلي حضور إفطار رمضاني في إحدي الجامعات الماليزية بدعوة من رابطة الطلاب السودانيين بتلك الجامعة، بعد الإفطار جلسنا مع بعض وتجرأت أن أطرح السؤال علي عدد من الطلاب الذكور ” ما رأيهم في الزواج” ، كان الرد صادما حيث أجاب 95% منهم تقريبا بعدة أعذار كمخرج لعدم التفكير في الإقبال الزواج، كما أن الأسباب التي ساقوها ليس مقنعة البتة وفي تقديري اتِخذت ذريعة لعدم تحمسهم للزواج. أري أيضا أن عزوف الشباب وتأخر سن الزواج مرده إلي التفكير في المستقبل مثل مشكلة توفير السكن الذي يعد أكبر معوق و إدخار مبلغ كبير للصرف علي الزواج بسبب ارتفاع التكاليف.
يعزف الشباب عن الزوج أيضا بسبب البطالة التي أصبحت هاجسا يؤرق كل الشباب وأسرهم لذلك لابد من أن تنطلق مبادرات مجتمعية للنظر في أمر توفير فرص العمل خاصة في القطاع الخاص، أضف إلي مشاكل البطالة فإن المغالاة في المهور والمباهاة الاجتماعية أيضا سبب في العزوف عن الزوج الذي تعتريه أيضا منصرفات كبيرة مثل تأجير الصالات و الصرف البذخي، حفلات الغناء، خبيرات التجميل (خاصة تبييض البشرة) و تتطريز ثوب “الصبحية” وغيره من العادات الدخلية مثل”إشبينات العروسة” (الوصيفة) و تفاصيل زيهن الموحد و بل أيضا أصبح للعرسان أيضا أشابين ( وصفاء) بل وصل الأمر بأن يتم أختيارهم و دفع أجور نظير الدور الذين يقومون به والتفاصيل كثيرة توجع الرأس وأري لا معني لها سوي أنها تعقد الأمر و تزيد من عزوف الشباب و نسبة العنوسة وسط الرجال والنساء علي السواء.
لا يخفي علي الجميع أن تأخر سن الزواج والعزوف عنه و ارتفاع نسبة الطلاق لها آثار مدمرة علي استقرار المجتمع الذي شهد جرائم غريبة ومقززة، مثل اغتصاب الأطفال والتعدي عليهم جنسيا وارتباط ذلك بالجريمة وتعاطي المخدرات وارتفاع نسبة الإدمان وإزدياد أعداد الأطفال حديثي الولادة مجهولي السند، و وجود حالات للزواج العرفي في بعض جامعات السودان، وتدهور المظهر العام لزي الشباب ذكورا وإناثا.
الحفاظ علي إستقرار الأسر هو صمام أمان المجتمع السوداني الذي يتعرض لحملة شرسة من بعض الجهات تحت دعاوي الحداثة والحرية الشخصية تارة وتحت غطاء إتفاقية سيدوا تارة أخري، إضافة لسهولة إنتقال التأثيرات السالبة عبر الفضاء الإسفيري المفتوح الذي يتخطي الحيز الزماني و المكاني وهو متاح للرجال والنساء، تقليد المسلسلات التي تناسب بئيات غير بئياتنا وانتشار مفاهيم جديدة مثل تجميد البويضات للنساء بغرض حفظها للاستخدام لاحقا في حالة تأخر سن الزواج ( اصبحت هذه التقنية متاحة في مصر) ويدور حولها جدل اخلاقي وفقهي.
هنالك حاجة ماسة للتفكير في حلول بوعي وعقل جمعي يحمي مؤسسة الأسرة من التأثيرات السالبة تلك، ماذا لو تبنت وسائل الإعلام المختلفة خاصة وسائل التواصل الاجتماعي حملة توعوية كبيرة تستهدف للحد من المغالاة في المهور و تشجيع الزي المحتشم للرجال والنساء خاصة وسط الشباب وكذلك علي المجتمع تبني حملات للحد من مغالات المهور حسب وضع كل منطقة أو ولاية ويمكن أن تخصص الشركات الكبيرة جزءا من مال المسؤولية المجتمعية لدعم الزيجات الجديدة.
طالما أن مشكلة السكن من أكبر العقبات التي تواجه الزيجات الجديدة، فلماذا لاتفكر الولايات المختلفة في تبني بعض الحلول مثل وضع المتزوجين الجدد في أولويات الخطط الإسكانية بتحديد نسبة محددة لهم، أو منحهم أولوية في مشاريع الإسكان أو تشجيع المصارف علي تمويل مشاريع إسكانهم بشروط ميسرة، ضرورة تشجيع المقبلين علي الزواج لحضور دورات تثقيفية لمدة أسبوع عن الأسرة وإدارة الحياة الزوجية، علينا ألا ننسي أن نعيد ألق المبادرات المجتمعية التي تسعي لتسهيل الزواج مثل زواج “الكورة” و” الزواج الجماعيي ” و ” غطي قدحك” وغيره ولكن بصور جديدة مقنعة للجيل الجديد الذي يعيش في عصر التطور التقني وتسهل مخاطبته وإدارة حوار مفتوح معهم للتفاكر في هذه المسائل و اشاركهم في البحث عن الحلول.