قبل زيارة د. كامل إدريس إلى القاهرة: السودان ومصر.. نحو شراكة إعادة البناء.

▪️تُعد الزيارة المرتقبة التي سيجريها رئيس الوزراء السوداني د. كامل إدريس إلى جمهورية مصر العربية، الأولى له خارج السودان منذ توليه المنصب، خطوة بالغة الدلالة على مستوى الإدراك العميق لمعادلة الجوار والمصير المشترك، وترجمة ذكية لأولويات الدبلوماسية السودانية في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ البلاد.
▪️اختيار القاهرة كمحطة أولى ليس قرارًا بروتوكوليًا أو مجاملة دبلوماسية، بل هو ترسيخ عملي لواحدة من أكثر علاقات الجوار تفرّدًا في العالم. فالعلاقة بين السودان ومصر، بجغرافيتها المتداخلة، وعمقها التاريخي، وتشابكها المجتمعي، وتكاملها السياسي والثقافي، لا تشبه علاقة السودان بأي دولة أخرى.
▪️هذه الزيارة المنتظرة، تحمل في رمزيتها تقديرًا لحق الجيرة واستحقاقاته، واستدعاءً لتاريخ طويل من المواقف المتبادلة. فكما كان السودان عمقًا استراتيجيًا لمصر في أصعب لحظاتها خلال حرب 1967، فاتحًا قواعده العسكرية ومجاله الجوي لطائراتها ومؤسساتها العسكرية، فإن مصر – بالمقابل – قدمت اليوم درسًا نادرًا في الجوار الإنساني والسياسي، حين وقفت بكل صدق وشمولية إلى جانب السودان في وجه العدوان المزدوج الذي تمثل في التمرد الداخلي والدعم الخارجي الممنهج له.
▪️مصر لم تفتح فقط حدودها، بل فتحت قلوب أهلها وبيوتهم. لم تُحصر السودانيين في مخيمات لجوء، ولم تعاملهم كأرقام في سجلات الأمم المتحدة، بل عاشوا في الأحياء والمدن، وارتادوا المدارس والمستشفيات والمقاهي كإخوة شركاء. هذا السلوك الحضاري، الإنساني، الأخوي، يجعل من زيارة رئيس الوزراء المرتقبة للقاهرة أكثر من زيارة رسمية، إنها رسالة وفاء ورد جميل وتعظيم لشراكة حقيقية ينبغي أن تُبنى عليها خطط المستقبل.
مصر والسودان: شراكة الإرادة والنفوذ
▪️من المهم الإشارة إلى أن مصر ليست فقط دولة جارة، بل هي مركز ثقل سياسي في الإقليم والعالم، وقد وظّفت هذا الثقل مرارًا في صالح السودان، التي من أبرزها مؤخراً :
•دعوتها لقمة دول جوار السودان في يوليو 2023 بعد اندلاع الحرب، والتي خرجت بموقف واضح ضد التدخل في السودان وضمان سيادته وحماية مؤسساته الوطنية وعلى رأسها القوات المسلحة.
•مواقف مصر المتزنة والمساندة للسودان في المحافل الدولية والعربية والأفريقية، والمبادرات والمحافل العديدة حين سعت جهات عدة لشيطنته ونفي شرعية دولته ، أو تقزيم جيشه الوطني، أو تمرير أجندات تتنافى مع استقلاله.
السفارة السودانية في القاهرة: دبلوماسية فاعلة وخدمات متطورة
▪️ضمن هذا السياق، لا يمكن إغفال التحول الملحوظ في أداء السفارة السودانية بالقاهرة بقيادة السفير الفريق أول عماد الدين عدوي. فقد شهدت السفارة نقلة نوعية في تقديم الخدمات القنصلية، عبر تطوير أنظمتها وتقنياتها لتلبي احتياجات عشرات الآلاف من السودانيين المقيمين في مصر.
وكذلك رعاية انشطة الجهات الداعمة للسودانيين وآخرها مبادرات عودة السودانين الي الوطن .
وكانت نقلة مقر السفارة خطوة جادة في تهيئة بيئة مثالية لتقديم الخدمات بكفاءة وأمان وتيسير ، إضافة إلى تحسين مظهر الحضور الرمزي للسودان في عاصمة من عواصم القرار الإقليمي والدولي.
نحو شراكة في إعادة الإعمار
▪️لقد أبدت القاهرة – رسميًا وشعبيًا – رغبتها الصادقة في المساهمة في إعادة إعمار السودان، وهو موقف مشرف يجب أن يُقابل بخطوات تنفيذية جادة من الطرف السوداني. إذ لا يكفي الترحيب بالمبدأ، بل لا بد من تهيئة الآليات الفعلية للتنفيذ، وعلى رأسها إيجاد آلية تمويلية فعالة ومستدامة.
وهنا أجد من المهم أن أقترح، بكل وضوح، على السيد رئيس الوزراء، تبني مبادرة ورشة تمويل مشتركة بين البنوك والمصارف السودانية والمصرية، بمشاركة مؤسسات التمويل والاستثمار في البلدين، لإنشاء محفظة تمويل لإعادة الإعمار. هذه المحفظة ليست مجرد أداة اقتصادية، بل هي صيغة تكامل استراتيجية، تضمن عائدًا للطرفين، وتمنح السودان فرصة للنهوض عبر نموذج عادل وآمن ومستدام، يعيد ثقة الممولين، ويشرك القطاع الخاص في واحدة من أهم المراحل الوطنية بعد الحرب.
المبادرات المجتمعية السودانية : من رحم المحنة إلى نواة الحلول
▪️في مصر اليوم، عشرات المبادرات السودانية النشطة في مجالات العون والخدمات وحتي منتديات الثقافة والترفيه ، التي تستحق الإشادة والدعم ،لكن من باب الإنصاف، تجدر الإشارة إلى مبادرة “إسناد لدعم السودانيين المتأثرين بالحرب”، التي تأسست في الأيام الأولى للحرب، وكانت من أولى المبادرات الميدانية ذات الأثر الواضح ، والتي لعبت فيها من اختارها دولة رئيس الوزراء وزيرة لمجلس الوزراء د. ليماء عبدالغفار، دوراً قياياً وفاعلاً .
كافة هذه المبادرات، بتجربتها الغنية، يجب أن تجد من الدولة يدًا شريكة، وأن تُمنح فرص التطوير لتكون أذرعًا مدنية فاعلة في مصر وفي الداخل السوداني.
القاهرة مركز إعلامي .. والسودان حاضرٌ فيه بقوة
لا يمكن تجاهل ما تمثّله القاهرة من مركز إعلامي إقليمي ودولي، وما يحتضنه من منصات إعلامية سودانية رصينة، وقنوات فضائية صامدة، وصحفيين وكتاب وإعلاميين شكلوا – وما زالوا – خط الدفاع الأول لإنتصار الدولة السودانية. إن هذا الوجود الإعلامي الضخم في القاهرة هو قوة استراتيجية في متناول يد الدولة السودانية، إذا ما أُحسن تنظيمه وتنسيقه وتوجيهه، يمكن أن يتحوّل إلى رافعة كبرى لصوت السودان الوطني في مواجهة آلة الدعاية والتضليل التي تقودها المليشيات وحلفاؤها.
من رسم الاستراتيجية إلى تنزيل الحلم
▪️لقد كانت زيارات رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان إلى مصر، على مدى الأعوام الماضية ، محطات تأسيسية للعلاقة الاستراتيجية بين السودان ومصر، وكان لقاؤه المتكرر مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بمثابة رسمٍ لخارطة مستقبل مشترك بين الدولتين.
واليوم، تأتي زيارة رئيس الوزراء د. كامل إدريس – المحمّلة بالأمل والتطلعات – مأمول منها ان تكون ورشة تنزيل تلك الرؤية وتحويلها إلى برامج ومشاريع ملموسة، تفتح صفحة جديدة من الإنجاز والعمل، تستند إلى تاريخ من الإخاء، وتطل نحو مستقبل عنوانه: الشراكة الصادقة، والكرامة المشتركة، وإعادة البناء على أسس العدل والوفاء.
،، والي الملتقى ..
- رئيس تحرير”الرواية الاولى”