ثقافة ومنوعات

في حضرة الشاعر النوبي الكبير محمد فضل طبق .. في قصيدته رسالة أم لابنها المغترب

✍️ محمد شريف ابوداوود



نقف في حضرة الشاعر القامة والروائي المتفرد محمد فضل طبق صاحب المعلقة النوبية الشهيرة (جلوسكوري) الذي يتكئ على مخزون لا ينضب من المفردات والمعاني والأخيلة الأخاذة . تنبعث من شعره رائحة الجروف وأصوات السواقي والمواشي والمراكبية ، يضج شعره حركة وحيوية ,فهو ابن بيئته مخلص لها ، صورها كما ينبغي ، تربال بدرجة الامتياز تدرج في المهنة من( أورتي) إلى (بيدتود) فـ(اوري كب) فـ(كدقر) فـ(تربال) حتى أصبح (سمد)ثم (انقيب) ، لا تفوته شاردة ولا واردة يهتم بتفاصيل التفاصيل. شاهد على عصره. وفوق ذلك أفندي من الطراز الأول (دجه نود دتن مكتب تور)

 عذب نفسه وعذبنا معه ببوحه وغرامه لوطنه. لا تمل سماعه، صاحب أسلوب متفرد لا يجارى؛ ويقيني لو تحولت هذه القصيدة إلى فيلم سينمائي على شاكلة الرائعة الهندية (من أجل أبنائي) لحصدت الجوائز !

قصيدة ان تود كفين امبل بدا :

أوجاع الاغتراب :

لقد عرف الإنسان النوبي الاغتراب منذ أمد بعيد فاكتوى بناره ، أجبرته الظروف القاهرة من بيئة طاردة وإهمال متعمد من كل الحكومات المتعاقبة , مما اضطره على ركوب الصعاب ,فظل يمخر عباب النيل صعوداً ونزولاً متوغلاً في السودان شرقاً وغرباً. بل تعدى ذلك إلى خارج السودان, فكان خير سفير لوطنه عاملاً وهادياً تاركاً خلفه أهله وعشيرته ومرتع صباه وأجمل ذكرياته. حاملاً مشاعل العلم والمعرفة مسكوناً في دواخله بحبه لوطنه أينما حل ، ومهما طال البعاد.

 عرف بالعفة والطهر والنبل والاستقامة, فكان نموذجاً يحتذى، وفياً لقيمه معتداً بنفسه لا يتنازل عن كبريائه وشموخه. مستسلماً لهذا المصير التاريخي المحتوم فعرف بالصبر والأناة وقوة الشكيمة والاحتمال, فأحبه كل من عرفه من شعوب الأرض.

وكذلك كانت النوبية أماً وأختاُ و زوجة قاسمته آلام الغربة و أوجاعها وسهادها بصبر لا ينفذ فملأت غيابه ، فكانت الأم والأب معاً, فلا غرو فهي الطاهرة الصابرة المدبرة صاحبة القلب الكبير سليلة سيلا والكنداكات. لذا النوبي شديد الاعتداد بأمه يدين لها بالكثير ويفتخر ويعتز كثيراً إذا نسب إليها.

ولكن ما بال هذه الأم تجزع هكذا لفراق ابنها مستنجدة بشاعرنا الفذ ليخط لها خطاباً لابنها وأحسبه وحيدها ، توضح فيه مقدار معاناتها وآلامها جراء فراقه, طالبة منه العودة على جناح السرعة ، فلبى شاعرنا النداء وتقمص شخصيتها وأبدع أيما إبداع في وصف حالها وحال البلدة والأهل والأصحاب طوال فترة غيابه بصورة مذهلة وبأسلوبه الجذّاب, تستعذب شعره وتطرب له ,فهو صاحب الخيال الخصب والأسلوب الفريد والذي لا تستطيع أن تتنبأ بما سيقول, يفجر المفاجأة تلو المفاجأة في سرد جميل. 

هيه كفين تر غربن اشوم اودي من جنقوسكون ان تور 

ان اوروى ويكي امبل تا أور  اسل اكي سوكل وي تا دور 

أر نلكونا ؟ ار سفريــروس  نقال تولي توربكون اندو بور 

دقـــــو تقور بيربون هبد  اسن تقــور الـــيب تـــرور

امبل نلدنقون بــدا ســودن  تا تيقرنقونقـــي كــــور

ايوسكونا أرقي ار وو بتان  ولاَ اكِي اقدوسكون كجور؟!

ار توليرسكون هســاني  انار بلوما بــــلن كــــرور

جكر اندي ان كان دقور  ان توبرو بون قوسن تقور

ساو تور قون ان ترب اوي بون  شقروسكون اسي تا قيتي قور 

ار ولًـــي مـــا تيقوســـكرو  نيتـــي أدو مجـــبور ان دقــــور؟!

مناجاة أم:

تتوسل هذه الأم الرءوم وحيدها بأن يترك تلك الغربة التي طال أمدها ولم تحقق المرجو منها والتي كانت لها نتائج مأساوية عليه وعليها, فهو كما يقول المثل: (لا طال بلح الشام ولا عنب اليمن) . ولو كان مداوماً على الحضور كبقية قومه وكان يرفدهم بين الحين والآخر ببعض المال لما كان هذا الطلب الصارخ.

فهاهي الأم تصف حالها وكيف أن السنين أرهقت كاهلها وكيف أن المرض أقعد والده . وتصف حال الأرض وكيف أنها ماتت وأصابها الجدب.

فلا شيء يبدو أكثر وحشة من منظر الجدب والقحط على نفس الإنسان النوبي الذي اعتاد على النيل والخضرة. 

وليس أدلّ على أن القحط ضرب بأطنابه من انتشار شجر العشر عديم الفائدة في كل مكان وكذلك (الإلّيب والطرور) . تأملوا جمال هذه العبارة: (اوسن توقور إلّيب ترور ). كناية لانتشار الجدب والقحط في كل مكان. كل ذلك لعدم وجود من يفلح هذه الأرض ويعيدها سيرتها الأولى . فأرادت الأم أن تحثه بهذه الطريقة المؤثرة بالإسراع والعودة ، وتأملوا معي جمال هذا البيت (أسل اكي سوكل ويك تادور -) عبارة في غاية الروعة والجمال و(أسل-) هنا بمعنى المستقبل.

وتذكره أيضاً ببعض أدواته المحببة إلى نفسه (جكر – , توبري – , تروب )

أرقي موق ار تا اينقي بادمن ؟  آقمن اكي ارنجد بـــــدور ؟

ارتـــكي تيــقود توليــنقال  بلكون ان ايــر ســــتيـنــور 

انقون كرور ويرن منن  كدقي اجد امبل بود تا دور 

شنتا اندي تارل كروس  انوسو سيكون بونقون بهور

وفي سرد جميل تقول الأم لابنها : إذا لم تكن مهتما لأمرنا ألا تريد أن تكمل نصف دينك ؟ فهاهي خطيبتك (بدور) تنتظرك في صبرٍ جميل. وقبلها نتيجة لتأخرك تزوجت (ست نور) من آخر.

ودعونا نقف عند هذه العبارات (بلكن ان نير ست نور-) , (كدي اجقي انبل بود تادور) ومن مبالغات شاعرنا المحببة (سي كون بونقن بهور), فالبخور قد يفقد رائحته العطرة ولكن إطلاقا لا يصيبه العفن ولكنه خيال الشاعر.

أوررو تيب أر كوتي تيبرو  انجنقي دول اكومن مسور 

دب نهد تيب كون موقد  اشدِ ني بيركون جرور

انقلي أبوركي آو شوندي بوق نفيكون اندور أرقي هور

اشرنكي قون تولي ورسكون  نوج أردكد توربي دور

كارقي آبكورو شبرقد  بوجر تا بوكون فرّى كور

كودي كدسونقد يا أشي سي أرماد تنجور

ولكن لابد من بعض البشريات وسط هذا الكم الهائل من التشاؤم ففي هذه السنة كانت النتيجة مختلفة تماما حيث أينعت الأرض وأثمرت ,فقد أحياها الله من بعد موتها, والأرض هي الوحيدة في هذه الدنيا التي تموت ثم تحيا بإذن ربها. قال تعالى : {وَآيَة لَهُمْ الْأَرْض الْمَيْتَة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ }. فسنين سيدنا يوسف عليه السلام قد اعتاد عليها النوبيون كثيراً. فهم أقدر الناس على مواكبة مثل هذه التقلبات, حيث اخترعوا القساسيب والمطامير تحسباً لبعض السنين التي يمسك فيها النيل عن الفيضان ، فكما أشرنا بأن شاعرنا تربال من العهد القديم فإليكم بعض العبارات التي لا تصدر إلا من تربال متخصص: 

ان جنقن دول اوكومن مسور

دب نهاد تيب كن مقد

اشدي ني بير كن جرور

ان قلو اوبركي آو شوندي بوق 

اشرنكي قون من تولي ورسكن 

كاري قي آب كروا شبرقي

بجر تا بوق كن فري كور

و هذه من مبالغات شاعرنا المحببة إذ يقول إنه و من وفرة الصيد, تقفز الأسماك خارج الماء فتصطادها بدون عناء.

اترك رد

error: Content is protected !!