مرتضى شطه
كأنما يستمد منهم السوق الاسم ،فصابرين مكتظة بالمواطنين رجالا ونساء كباراً وصغارا باعة جائلون ..فريشة على الأرض.. صبية يعرضون عليك بضع ليمونات أو كيساً بلاستيكيا أوسع لتجمع فيه بعثرة ما اشتريت في أكياس متفرقة ؛يلح البعض يتبعك أو اولئك الذين يأتونك عبر نوافذ الحافلة يغرونك بأسعار البسكويت الزهيدة والكبريت والأمواس والعلكة .صبية في سن المرحلة الابتدائية أجبرتهم الظروف على العمل لمساعدة أسرهم ؛فريشة من كل طبقات المجتمع أكثرهم جديدون على المهنة؛ شاهدنا الكثيرين منهم منذ بداية الحرب كانوا قبلها تجار جملة في سوق أمدرمان أو أصحاب متاجر في السوق الشعبي نهب المتمردون وأعوانهم من المجرمين متاجرهم فوجدوا أنفسهم بلا مصدر دخل، بعضهم اضطر إلى (البداية من الصفر) فعرض بضاعته على الارض بما تيسر من رأس مال لا يتجاوز بضع عشرات من الآلاف ؛بعضهم يدحرج (الدرداقة ) ليحمل للناس أثقالهم من المتاجر إلى موقف المواصلات مقابل خمسمئة جنيه لا تكفي لأكثر من ثلاث رغيفات من الخبز (الحافي) لا يقمن صلبه ناهيك عن صغار زغب ينتظرون عودته آخر النهار ليطعمهم .بعضهم أصحاب مهن أخرى أطباء ومعلمون وكتبة وموظفو قطاع عام ركلتهم ظروف الحرب إلى قاع المدينة ليعملوا على هامشها .هؤلاء هم من استهدفتهم مليشيا الدعم السريع بالتدوين إلى جانب مرضى عابرين إلى المشافي.. بعض طلاب المدارس.التي تحرص على استغلال يوم السبت لتحسين منافستهم في امتحانات الشهادات المرحلية القادمة .. باعة جائلون وفريشة خضار وأصحاب جزارات وباعة ومشترون لما قل ثمنه من ملحقات اللحوم من (عفشة ) وطعام الفقراء من طست ( الكمبلكسات ) .
ما ذنب هؤلاء وما علاقتهم بمحفوظات المليشيا التي ظلت ترددها من ألفاظ (الفلول )ودولة (٥٦ ) أليس هؤلاء هم من يتكسبون من هامش السوق في هجير الحر يكدون ويكدحون لأجل قوتهم ؟ هل تقتضي (ديمقراطية آل دقلو القحتية ) التي يزعمون تحقيقها تقديم هؤلاء الأبرياء الذين هم فوق الخمسين عددا وازهاق أرواحهم قربانا ؟!
هذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها المليشيا بهذه المجازر ضد المواطنين في سوق صابرين ؛فقد ارتكبتها مرات عديدة. كانت آخر مجزرة في العاشر من ديسمبر الماضي وكنت يومها في طريقي الى صابرين أصحب اثنين من أطفالي لزيارة أسرية في شمال كرري لأن صابرين مركز المواصلات ، لكن قبل بلوغ السوق تم ارجاع الحافلات فقد سبقنا التدوين إلى السوق ؛فكل مواطن يتحرك عبر السوق حتى إن لم تكن السوق وجهته النهائية يمكن أن يكون مشروع ضحية لهذا العمل البربري .
الذي يحير العقول والألباب وتدمي له القلوب أن هؤلاء لا حيلة لهم مغلوبون على أمرهم مهما كانت الحوادث مأساوية فهم سيعودون غداً من جديد يبحثون عن قوت عيالهم ليوم جديد بعد أن نفدت مداخيلهم القليلة في يومها ،في المرة الماضية عندما عدت سألت جاري الميكانيكي الذي كان شاهد عيان على ما حدث وهو يحكي لي مشاهداته وكيف أنهم هرولوا من موضع الدانة الأولى شمالاً فإذا بالثانية تباغتهم من أمامهم في مكان أكثر اكتظاظا ؛ ورسم المشهد في أسى بالغ كيف أنها المرة الأولى التي يشاهد فيها إنساناً يتحول أمامه في لمح البصر إلى أشلاء متناثرة ؛تركته للحظات المشهد المأساوي حتى رفع رأسه ثم سألته وهل ستعود لعملك غداً في سوق صابرين ؟ فأجابني بحزم : طبعاً سأعود ومن أين أجلب قوت أولادي إن لم اعمل هل سأتركهم للجوع ؟
حاشية :
هؤلاء هم الغلابة الغبش ملح الأرض الذين تدعي المليشيا زوراً وبهتانا أن مبتغاها تحقيق العدالة الاجتماعية لهم ،وتدعي الحاضنة البائسة قحت وتقزماتها المختلفة أنها تقود مسعى لرفع الظلم والتهميش عنهم وإحلال الديمقراطية لأجلهم ؛ هاهم يموتون بالعشرات في مجازر المليشيا ويصابون بعشرات مضاعفة ؛كل همهم قضاء ضروريات حياتهم من كسب للرزق أو شراء للقوت أو مرور بالسوق نحو الطبيب ، وكل ذنبهم أنهم لم يستسلموا لليأس يوماً ،لم يتركوا للمليشا فرصة أن تدعي أن الحياة في كرري مستحيلة مذ شهور التمرد الأولى أو تسمح لهم بإغلاق سوق صابرين الذي يغذي كل المدينة بالسلع مهما كان الاستهداف ،فقد سطر هؤلاء بدمائهم وصبرهم وإصرارهم صمودا لا يقل عن جهود كل من قدم في معركة الكرامة ،فلهم التحية والتعزية ؛تقبل الله الشهداء وشفى الجرحى وعجل جلاء المليشيا من كل مكان توجد فيه بحيث تكون المدينة خارج مرمى مدفعيتهم . أما هؤلاء الغبش فسيعودون في صباح الغد يعزي بضهم بعضا ويتفقد بعضهم الآخر يبتغون رزقهم الحلال يحلمون بيوم تنقشع فيه كل هذه الأحزان ؛وحتى يومئذ فسيظلون صامدين ( صابرين ) .