الذي فات على الفرحين بأن تصريحات السفير الأمريكي الجديد جون غودفري ظاهرها التوتر والخلاف بين الخرطوم وواشنطون أنها في حقيقة الأمر أول درجات التعافي في العلاقة، بأنها باتت مباشرة وتدور رحاها في الخرطوم وفي مسافة بين القيادة العامة وضاحية سوبا، وتقلص جدا دور المتسكعين في العواصم الغربية، وتحت رذاذ مقهى اوزون.
وجود سفير أمريكي يمثل المصالح الأمريكية بصورة مباشرة ويكون مجبرا على التعامل بنفسه ومن مكتبه على “النيل الأزرق” مع “الأسلاك العارية” و “الضغط العالي” هو تطور جديدة في العلاقة بوجود طريق طبيعي للاختلاف والاتفاق بين السودان والولايات المتحدة الأمريكية.
قبل ذلك كان ملف السودان في أمريكا معظمه في مجلس الأمن القومي الامريكي في يد مسئول لا يزور السودان أصلا وليس بطرف الخارجية، وتضائل جدا دور البعثات الدبلوماسية لصالح مكتب المبعوث والذي يحتاج أحيانا للاتفاق مع أربعة أركان أساسية في السياسة الخارجية الأمريكية ليبدأ مجرد رحلة عمل، ولولا التعاون الاستخباري في مكافحة الارهاب لقلنا أنه لا توجد علاقات من الأساس.
كان مجرد التفاوض مع أمريكا يحتاج إلى تفاوض سابق لمنح المبعوث فيزا، واستغرق هذا الأمر سنة ونصف في أحدى المرات.
جون غودفري الآن هو المعني الأول من الجانب الأمريكي بتحسين العلاقات الأمريكية السودانية وهو في ذلك شريك حكومة السودان ووزير الخارجية وسفير السودان في واشنطون لتحقيق هذا الهدف، وإذا حدث تراجع هو ملام مثله مثل شريكه السوداني.
هذا لا يعني أنني معجب بتصريحاته فيما يخص العلاقات الروسية السودانية، سيأتي نقد تصريحاته ولكنني أقرأ إعادة توزيع وتقسيم الأعباء في الجانب الأمريكي جيدا، وتأكد لي – بسبب هذه التصريحات – أن ترفيع التمثيل الدبلوماسي لم يكن خطوة ثانوية شكلية كما توهم البعض.
رأيي الشخصي أنني ضد أي قاعدة عسكرية أجنبية على ساحل البحر الأحمر روسية أو أمريكية أو صينية وبالذات في سياق الحرب الروسية على أوكرانيا، فالأفضل أن يكون السودان بعيدا عن الاستقطاب العسكري الخارجي ويكفيه ما حدث له من استقطاب سياسي خارجي أفضى إلى تضارب وضياع مصالح الدول كلها ومصالح السودان وتحولت الساحة السياسية الداخلية إلى ثقب أسود تبتلع الخير والشر.
لست متحمسا للصين ولا روسيا ولي في ذلك مقالات عديدة في مواضع أخرى ولكن أقول هنا إختصارا أن انحيازي للإقتصاد الحر في أفربقيا منذ فترة طويلة جعلني مطلعا على مقدار الضرر من الحلف الصيني الروسي على القارة السمراء.
إذن، ماذا قال جون غودفري في الملف الروسي وما هو عيب ما قال؟
قال: (إذا قررت حكومة السودان المضي قدماً في إقامة هذه المنشأة – يقصد القاعدة الروسية – أو إعادة التفاوض حولها سيكون ذلك ضاراً بمصالح السودان. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى مزيد من عزلة السودان)
ضرر حديث جون غودفري أنه مال إلى لهجة التخويف والتهديد بالعزلة على السودان، وسؤالي للسفير أين تفاهمات بنك السودان مع سيتي بانك الأمريكي في عهد البشير؟ والتي تجددت – نسخ لصق – في عهد حمدوك؟ ولكن في كل مرة النتيجة (صفر) وعدد كبير من البنوك الأوربية والدولية رددت كثيرا أن رفع العقوبات الإقتصادية الأمريكية والخروج من قائمة الإرهاب سيظل حبرا على ورق بدون دخول النظام المصرفي الأمريكي في السودان.
إذن نحن نتحدث عزلة لا تزال قائمة وموجودة، ودور السفير ازالتها وبعد ذلك يأتي التهديد باعادة السودان لها، أمريكا لم تزل هذه العزلة في عهد حمدوك وتوقيع اتفاقية ابراهام داخل السفارة وحتى بعد سداد أموال التعويضات، التقصير في نظر الرأي العام السوداني من الطرف الامريكي وليس “أبو هاجة” بالتأكيد.
أعطني شيئا ثم خوفني بنزعه، ولكن لا تخوفني بنزع شيء هو في يدك أصلا وليس في يدي.
إن الرأي الذي يرغب في التعويل على علاقات أقوى مع الصين وروسيا هو أصلا الوليد الشرعي لتطاول العزلة، وتصريحات السفير بهذه الطريقة تقوي هذا التيار ولا تضعفه، وتجدد صورة أمريكا أنها تتحجج وتلجج لابقاء السودان في العزلة، وأنا هذا يتم بقاعدة روسية وبدونها، لا فرق.
أيضا أقصر الطرق لزيادة شعبية شيء في السودان هو التخويف منه، والسفير عليه ان يعلم ان ذات الأحزاب التي يمتدحها وهي تتخذ من مبادرة نقابة المحامين ساترا لها هي أول من قطع العلاقات الأمريكية السودانية في العام 1967 وبتصويت ديموقراطي في البرلمان وبتأييد من آباء الاستقلال الأزهري والمحجوب حيث كان لحزب الأمة تسعين دائرة والاتحادي قرابة الستين، ولم يكن للإسلاميين حينها سوى ثلاث دوائر ونائب مستقل وسيارة لاندروفر مستعملة، كانوا أفقر وأبأس حزب.
إذن العلة في العلاقات الأمريكية السودانية ليست الإسلاميين بل مصدرها هو العقلية السودانية والتي يجب أن يعمل لها جون غودفري ألف حساب ولا يعتبر أن عددا محدودا جدا من الناشطين طالبي اللجوء والدعم الاجتماعي يمثل الرأي العام السوداني والذي يمكن أن يعبر عن نفسه بقوة وينفجر بدون استئذان القوى السياسية في أي لحظة.
أنا لا تعجبني النزعة السودانية في ترجيح المواقف المبدئية والأخلاقية على حساب المصالح الوطنية، ولكنني ألوم اي ممثل لدولة أجنبية أو شقيقة لا ينتبه لهذه لهذه النزعة ويتسبب في استفزازها وهي هادئة ونائمة.
من جهة أخرى وفي النصف الممتليء من الكوب، أعجبني جدا إقرار السفير بأن رافضي الحوار والاتفاق لن ينتظرهم أحد، وكاد هنا أن يقول (بمن حضر).
في الحوار سؤال وجواب: (ماهو رأيكم في “تحالف القوى الجذرية للتغيير الشامل”؟
حسب معلوماتي هذا التحالف تكون في يوليو الماضي “2022” ، بقيادة الحزب الشيوعي السوداني ويضم تجمع المهنيين السودانيين ومجموعات أخرى، لا نتوقع أن نرى إجماعاً كاملاً في أية ديموقراطية ومع تقدم العملية السياسية سيكون هناك مجموعات تتوافق على حكومة بقيادة مدنية لتحقيق الانتقال الديموقراطي وأخرى لا تتفق معها). أيضا في فقرة أخرى إتضح جليا أن الموقف الأمريكي هو فتح ما يسمى وثيقة دستور نقابة المحامين للتعديلات حسب مستجدات الحوار، واستمرار فتح المبادرة نفسها وتوسعتها.
أكد السفير على نقطتين مهمتين في المبادرة: (الأولى: عندما صدرت أعلن أنها تظل مفتوحة قابلة للإضافة والتعديل.
والثانية: أن الموقعين عليها استمروا في التواصل مع باقي المجموعات لجذب المزيد من التأييد للوثيقة).
باختصار هذا الموقف الأمريكي هو التعديل والمعالجة لموقف -بكل أسف- عربي وصديق، كان يعتقد أن وثيقة المحامين يجب أن تعيد قحت للسلطة وتلغي بقية المبادرات، وأن تبارك أمريكا هذه “الفهلوة” لأن هؤلاء الأصدقاء العرب في نظرهم أن ملف العلاقات الأمريكية السودانية أصلا مجرد ورقة في قعر حقيبة ملفاتهم مع أمريكا.
ولا أذيع سرا أن البشير هو من كان يرغب في تثبيت هذا التصور عندهم، وكان يملي علينا إملاء أن ننسب أي تحسن وانجاز في العلاقات الأمريكية السودانية لهم وليس للتفاوض السوداني الأمريكي المباشر، ولدي البشير في ذلك أسباب – لا أتفق معها – لكنني سأشرح مكاسبها في التوقيت المناسب وليس الآن.
فقط أقول سيكشف التاريخ أن أكثر المتضررين من ذهاب البشير هم هذه الدول العربية التي ساندت الاطاحة به.
نأتي للنقطة التي شغلت الناس وهي رد السفير على تصريحات العميد الدكتور الطاهر أبو هاجة، وفي حقيقة الأمر لم يتداول الناس من الحوار سوى القاعدة الروسية وتصريحات أبو هاجة.
ولذلك أقول للصديق والزميل الصحفي في أخبار اليوم قبل العمل العسكري، يسرني أن أقدم لك التهنئة بأن تكون تصريحاتك التي تقولها من عطلة في الدامر بوزن قاعدة عسكرية روسية.
أيضا لا يفوتني تهنئة الزميل الأستاذ عثمان ميرغني على هذا السبق الصحفي أرخ لنقطة تحول تاريخية في العلاقات الأمريكية السودانية.
ستمر الأيام وسيحاسب الرأي العام الأمريكي السفير جون غودفري في نهاية فترته في السودان على أي تراجع في العلاقات الأمريكية السودانية لصالح روسيا أو الصين أو اي دول أخرى، ولن يحاسبه هل حكم السودان الطاهر أبو هاجة أو عثمان ميرغني أو ناجي الأصم، ايقونة الثورة التي ظهرت ثم تلاشت.