عثمان جلال يكتب : حزب البعث العربي وقناع الديمقراطية والاشتراكية
(1)
برزت تيارات البعث العربي في منطقة المشرق العربي وسط الأقليات الطائفية خاصة المسيحية وتحت الحماية الغربية لإضعاف دولة الخلافة العثمانية (سياسة فرق تسد)،حيث فرضت فرنسا الحماية على الأقلية المسيحية المارونية، وروسيا على طائفة المسيح الأرثوذكس، وبريطانيا على الأقليات من اليهود والدروز، وبعد هزيمة الدولة العثمانية وخروج قواتها العسكرية من منطقة المشرق العربي إثر تحالف الشريف حسين مع محور الحلفاء تم تنصيب ابنه الأمير فيصل ملكا على سوريا وفق اتفاقه مع بريطانيا العظمى ولكن تم خلعه من قبل فرنسا بعد إبرامها مع بريطانيا اتفاقية سايكس بيكو 1916 لتقسيم ممتلكات الدولة العثمانية غنائم بين الحلفاء.
(2)
تشكل حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا عام 1940 على يد ميشيل عفلق وصلاح البيطار تحت جاذبية شعارات الحرية والمساواة والاستقلال ومباديء الاشتراكية العلمانية، وتم تقزيم الإسلام كملهم لشعار الوحدة العربية، وحفز الآباء المؤسسون الأقليات الدينية المسيحية للانضمام للحزب، مما بذر حالة الكراهية والعداء بينهم والأغلبية من السنة.
(3) .
كما تعلمون تم حل حزب البعث العربي السوري عام 1958 بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا وعادت خلاياه النائمة للظهور بعد انهيار مشروع الوحدة عام 1961، وسرعان ما نفذ التنظيم العسكري انقلابا عسكريا عام 1963 وكان في طليعة قادة الانقلاب ضباط من الطائفة العلوية (محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد) وقد نزع الحزب إلى أدلجة كل قطاع الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، ولأن انتشار حزب البعث العربي وسط المحتمع السوري كان ضعيفا طفق قادة الحزب خاصة من الجناح العسكري على استقطاب المجتمع السوري على أساس طائفي وهوياتي، وتغلغت الأقليات الطائفية والمسيحية في مفاصل المؤسسة العسكرية والدولة، وتنامى الصراع بين الأقليات والسنة داخل التنظيم العسكري للحزب وانتهى بإقصاء وتصفية الضباط السنة بعد انقلاب عسكري فاشل قادوه عام 1963، ودانت السيطرة للأقليات، وللتوازن النسبي آل منصب رئيس الجمهورية التشريفي للاغلبية السنية (امين الحافظ)، وتمت الإطاحة به عام 1966، ودانت السيطرة شبه المطلقة لأقلية الطائفة العلوية بقيادة الثنائي (صلاح جديد، وحافظ الاسد)، ولأن عقلية الصراع والهيمنة كانت المحرك الاستراتيجي للحزب منذ مخاض التأسيس الاول نشب الصراع بين القائدين حيث نزع صلاح جديد على الهيمنة والسيطرة على الجهاز المدني والسياسي لحزب البعث، بينما سيطر وزير الدفاع حافظ الأسد على مفاصل المؤسسة العسكرية وحسم عبرها الصراع بانقلاب عسكري نفذه عام 1970م، ومنذ ذلك التاريخ تم اختزال الدولة السورية وشعارات حزب البعث العربي في شعار (الأسد للابد) حتى انتهت سوريا إلى دولة فاشلة على النحو الذي تعلمون.
(4).
اما تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق فبعد أن خلعت فرنسا الملك فيصل من سوريا نصبته بريطانيا ملكا على العراق وأطيح به من العرش وقتل إثر انقلاب تنظيم الضباط الأحرار الدموي بقيادة عبد الكريم قاسم، وعبد السلام عارف عام 1958م، وقد نزع عبد الكريم قاسم إلى بناء العراق الجديد على اسس الفلسفة الماركسية ولكن تنامي التيار القومي العروبي والناصري وسط الضباط الاحرار اجهض هذه التوجهات في انقلاب ما سمي بالحركة التصحيحية، أو ردة تشرين عند البعثيين عام 1963 بقيادة الاخوين (عبد السلام عارف، وعبد الرحمن عارف)، حيث نزعا لتأسيس وبناء الدولة العراقية بعيدا عن شعارات ومؤسسات حزب البعث العربي، فتم أبعاد قادة البعث السوريين(عفلق، امين الحافظ)، وبعد وفاة عبد السلام عارف عام 1966م تولى شقيقه عبد الرحمن السلطة حتى أطاح به التنظيم العسكري لحزب البعث العربي بقيادة أحمد حسن البكر في انقلاب عام 1968، وتم تعيين القائد صدام حسين نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة وسرعان ما فرض هيمنته على الجهاز السياسي والعسكري لحزب البعث العربي حتى اضطر الرئيس البكر للتنازل له عن السلطة عام 1979م، وقبلها رفع صدام حسين شعار أن حزب البعث جاء ليحكم العراق لمدة 300 عاما، واستمر القائد صدام في الحكم إلى لحظة الإطاحة به بواسطة الغزو الأمريكي عام 2003م وقد اختزل ايديولوجية وشعارات القومية العربية في مثلث الطائفة السنية وتقزمت هذه الشعارات حكما استبداديا مطلقا في ذاته وأسرته.
(5)
هذا التحليل التاريخي ينم أن تجربة أحزاب البعث العربي الاشتراكي في العراق وسوريا انتهت إلى حالة تضاد وتناقض مع شعارات التأسيس ، حيث غذت هذه التجارب النزعات الطائفية والدينية، ودحرجت تلك الدول في أتون الحروب الأهلية والفتن والاقتتال الطائفي، وعطلت مشاريع البناء الوطني والديمقراطي، والاندماج القومي والهوياتي.
ودمرت مشاريع النهضة والتنمية الاقتصادية التي شيدتها، كما ارتدت شعارات الوحدة العربية إلى دول طائفية وحكم الفرد المطلق، وأدت إلى تفاقم الانقسام داخل البيت العربي الكبير، وإلحاق الهزائم بالجيوش العربية في كل الحروب التي خاضتها ضد إسرائيل في (1948، 1967، 1973)، مما عزز من فرضية أن بريطانيا واليهود غذوا منطقة المشرق العربي بالأفكار الماركسية وتيارات القومية لإضعاف الدول العربية وزرع الكيان الصهيوني في فلسطين، وثالثة الاثافي فان هذه التجارب أدت الى تفكك وأنهيار الجيشين العراقي والسوري بعد الزج بهما في اتون الحروب العدمية، والأهلية والطائفية، كما ارتدت شعارات التحرر والاستقلال إلى فرض الهيمنة والوصاية الاستعمارية على تلك الدول وكل منطقة الشرق الأوسط.
مما أدى إلى تناسل الحركات الجهادية المتطرفة وإعلاء منهج الصدام بدلا عن الحوار الثقافي والحضاري
كما تقزم شعار الاشتراكية والعدالة في دوران الثروة وسط اقلية ارستقراطية طائفية، وارتدت مأساة هذه التجارب على ذات الأحزاب والقاعدة الاجتماعية التي شيدتها حيث انهار حزب البعث في العراق، وتلاشى من الوجدان المجتمعي في سوريا، وما طار طائر وارتفع والا كما طار وقع.