الرأي

د.الدرديري محمد أحمد يكتب : تعاقب الدساتير – الدوامة التي اشعلت الحرب

د. الدرديري محمد أحمد

(١)
إذا لم نعدل عن هذا النهج الذي استفحل منذ ان بدأت هذه الفترة الانتقالية، فستتناسل الدساتير لدينا كما يتناسل الفطر. فخلال أربع سنوات انتجت بلادنا دستورين هما الوثيقة الدستورية (٢٠١٩) ودستور لجنة المحامين (٢٠٢٢) الذي بني عليه الإتفاق الاطاري. ولا يزال الحبل على الجرار. إن تعاقب الدساتير ليس مما يحمد. وهو لا يدل فقط على الاضطراب الدستوري، وإنما هو نافخ الكير. بقدر ما يشتد وتتلاحق انفاسه، تزداد النار اضطراما. وحتى نتبين كم هي وخيمة دوامة تعاقب الدساتير، يكفي ان نعلم ان الدومنيكان والاكوادور وهاييتي، التي هي من أكثر بلدان الأرض اضطرابا وبؤسا، تجيء على رأس قائمة الدول الاكثر دساتيرا في العالم. ومن الامم الكبرى عرفت فرنسا في زمان سبق تعاقب الدساتير. ففي عام١٧٩١ صدر فيها الدستور الاول للثورة الفرنسية. ثم اعقبه بعد اقل من عامين دستور ١٧٩٣ الذي لم يطبق. ثم تلاه دستور ١٧٩٥، لتجيء بعده تباعا دساتير ١٧٩٧، ١٨٠٢ و١٨٠٤. ثم دستور ١٨١٤ (الذي أعاد العرش تارة أخرى لعائلة البوربورن، ناقضا غزل الثورة أنكاثا)، فدستور ١٨١٥ (دستور المئة يوم). واستمرت الدساتير الفرنسية في التعاقب لتبلغ في جملتها ستة عشر دستورا خلال ١٦٧ عاما. ثم استقر الامر اخيرا بصدور دستور ١٩٥٨ الذي هو دستور الجمهورية الخامسة الحالية. في سنوات هذا التعاقب اللاهث انطلقت طرفة في اوساط اساتذة وطلاب القانون والعلوم السياسية؛ فحواها انه لما قصد طالبٌ قسم الدساتير بمكتبة الجامعة يبحث عن نسخة من الدستور الفرنسي، طُلب منه ان ينشد بغيته في قسم الحوليات. وبينما كانت فرنسا تعاني جراء تعاقب الدساتير، كانت أمة كبرى أخرى، هي الولايات المتحدة، تختبرُ تجربة مغايرة. فبالرغم من أنها مرت بإمتخاض عنيف مثل الذي حاق بفرنسا، وفي ذات الحقبة من الزمان، لكنه لم يصدر لدى الولايات المتحدة الا دستور واحد هو دستورها الحالي الذي أقر في العام ١٧٨٩. فما الذي جعل الدساتير الفرنسية تتهاوى كأحجار الدومينو بينما يصمد الدستور الامريكي لأكثر من مئتين وثلاثين عاما. وهل من عظة نستفيدها من ذلك ان أردنا أن تجتنب بلادنا اصدار الدساتير تباعا كما تصدر الحوليات. في هذا المقال، والذي هو ليس بالقصير ومن ثم ننصح القارئ ان يجعل له نحوا من عشرين دقيقة، نوضح أن دخولنا دوامة تعاقب الدساتير هو الذي قادنا ــــ في السياق الكلي للأشياء ـــ لهذه الحرب. ونبسط رأينا في كيفية الخروج من هذه الدوامة ان أردنا لبلادنا فور انتهاء الحرب ان تسلك السكة التي تقودها للاستقرار.
​يعتبر النهج الذي اتبعه صناع الدستور في كل من فرنسا والولايات المتحدة من الأسباب الرئيسة للاختلاف بين ما جرى في البلدين. فبينما كان صناع الدستور الفرنسي يسعون للتعبير بحماس دافق عن الحالة الثورية الماثلة بين أيديهم، فإن صناع الدستور الامريكي كانوا معنيين بالتأسيس لانتقال متدرج الى وضع سياسي جديد. وبينما تسمى الطريقة الفرنسية في صناعة الدستور “المدرسة الثورية” Revolutionary، فان الطريقة الامريكية تسمى “المدرسة التطورية” Evolutionary . والتسمية هذه حديثه، ابتكرها البروفيسور قاري جاكوبسون في مقال له نشر عام ٢٠١٢ في مجلة Tulsa Law Review تحت عنوان: Revolution or Evolution: The Challenges of Constitutional Design. وبالرغم من انه كان لجاكوبسون فضل تسمية المدرستين الا انه سبقت الى التعريف بهما حنا ليرنر بالقول: “ان الأمر كله يتعلق بالكيفية التي ينظر بها صانعو الدستور للبرهة التي يولد فيها ذلك الدستور. فهم اما يعتبرونها لحظة ثورية، او مؤشرا لبداية جديدة في عملية تطورية مستمرة ترتبط بتحول اجتماعي وسياسي تدريجي”. (أنظر في ذلك كتابها الذي طبعته دار كمبردج للنشر عام ٢٠١٢ تحت عنوان Making Constitutions in Deeply Divided Societies). ومهما قيل عن “الثورية” في علم السياسة قدحا ومدحا كوسيلة للتغيير، فإنها تناقض أساس “الدستورية” وتصادمه. ذلك ان غاية الثورية هي تحطيم ما سبق من تجارب في الحكم أيا كانت والازدراء بها. وقد عُرف بيرك وروسو وهيجل بإنتقادهم اللاذع لما سُمي “استزراع الدساتير”. فالدستور عندهم ينمو عضويا ولا يستزرع Grows organically, not implanted. وهكذا نتبين ان الثورية والدستورية مفهومان متضادان لا يلتقيان، بل يستبعد كل منهما الآخر Mutually exclusive. ومن ثم فان عبارة “المدرسة الثورية في صنع الدساتير” تتضمن مغالطة Fallacy. لكنها انما تستخدم في مقابل “المدرسة التطورية”، التي هي المدرسة المنهجية المتبعة. فإنما بضدها تمايز الأشياء.
فاذا نظرنا للدستورين الاخيرين تبين لنا ان صُناعهما كانوا يتبعون النهج الثوري في كتابتهما، الامر الذي عبروا عنه صراحة في مقدمتي ذينك الدستورين. فقد حفلت الوثيقة الدستورية بعبارات من شاكلة “وايمانا بمبادئ ثورة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة”، و”استنادا على شرعية الثورة”، “والتزاما بأهداف اعلان الحرية والتغيير”. وجاءت في مقدمة دستور لجنة المحامين عبارات “ايمانا منا بثورة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة وانطلاقا من مبادئها في الحرية والسلام والعدالة”، “واستلهاما لمواثيق لجان المقاومة السودانية”. ثم تضمنت نصا يفيد تجاوز كامل التجربة الدستورية لحقبتي مايو والإنقاذ، جاء كما يلي: “استنادا لدستور ١٩٥٦ المؤسس للدولة السودانية، ودستور ١٩٨٥ الحاكم قبل انقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩ (…) واستفادة من تجربة الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩”. وهكذا يتأكد ان صانعي الدستورين الاخيرين لا يبنون على المسيرة الدستورية السودانية المستمرة منذ الاستقلال، وانما يبتكرون دستورهم ابتكارا بالاستناد على لحظة “ثورية” لا صلة لها بأغلب الارث الدستوري السوداني، بل تعارض ذلك الميراث وترفضه.
​في المقابل فان مقدمة دستور ٢٠٠٥ الانتقالي تكشف عن ان من كتبوه كانوا يتبنون نظرة “تطورية” تقوم على التدرج في سياق مستمر. فقد جاء في تلك المقدمة ان ذلك الدستور يصدر “التزاما منا بضرورة التوجه بالحكم في المرحلة المقبلة من مسيرتنا السياسية نحو تعزيز النمو الاقتصادي وتوطيد التوافق الاجتماعي وتعميق التسامح الديني وبناء الثقة بين أهل السودان جميعا، والتزاما باتفاقية السلام الشامل الموقعة في يناير ٢٠٠٥، وإستهداء بدستور السودان لعام ١٩٩٨، والتجارب الدستورية السابقة منذ الاستقلال والتجارب الاخرى ذات الصلة”.

(٢)
​لا يقف الفارق بين المدرستين عند التعبير عن المنطلقات. وانما ينفذ الى الآليات التي تستخدم لاستنباط الاحكام والى الكيفية التي تقنن بها تلك الأحكام في شكل نصوص. ففي ذلك تكمن الاسباب التي تعجل بفناء الدستور الثوري وتهب البقاء للدستور التطوري. فبينما يعتمد النهج الثوري اسلوبا مباشرا فينتقي خيارات حاسمة ويعبر عنها بلغة جازمة، فإن للنهج التطوري مقاربة أخرى تتحاشى هذا الاسلوب من خلال الاخذ بثلاثة مبادئ في الصياغة الدستورية، لخصتها حنا ليرنر كما يلي: الأول هو تجنب الاختيارات النهائية القاطعة. والثاني هو اعتماد الغموض الخلاق creative ambiguity في المسائل الجدلية. والثالث هو تفادي الوضوح في المسائل المتقاطعة حتى لا ينتج ذلك احكاما متعارضة تصعب المواءمة بينها. درست ليرنر هذه المبادئ على ضوء دساتير لدول تعد مجتمعاتها من اشد مجتمعات العالم انقساما، منها الهند وايرلندا. واوضحت كيف ان التزام هذه المبادئ كان هو سبب توصل هذه البلدان لدساتير مستدامة عبرت عن الهوية المنقسمة او المتعددة لمجتمعاتها، ونجحت في ارجاء البت في الخيارات التأسيسية المثيرة للجدل إلى المؤسسات السياسية المستقبلية.
​من يطلع على دستوري السودان الاخيرين يتبين انهما خالفا هذه المبادئ جملةً. اذ تناول الدستوران قضايا الصراع السياسي الراهن وعبرا فيها عن خيارات فصيل سياسي واحد سمي في الوثيقة الدستورية “قوى اعلان الحرية والتغيير”، وسمي في دستور لجنة المحامين “القوى الموقعة على الاعلان السياسي”؛ وأهملا ما عداها. كما عمد الدستوران الى أعقد المسائل الخلافية فحسماها بدلا من ارجائها للمؤسسات السياسية والدستورية التي هي المكان الطبيعي لبحثها والتوافق ازائها. ومن تلك المسائل مسألة توقيت انتقال رئاسة مجلس السيادة من المكون العسكري الى المكون المدني. فما قصم ظهر الوثيقة الدستورية الا الفصل في هذه المسألة بنص قاطع. اما دستور نقابة المحامين فقد حال بينه وبين الدخول الى حيز النفاذ تدخله في مسائل من صميم عمل المؤسسة العسكرية كانت مثارا للنقع ومدعاة للاختصام. فبتَّ بنص قطعي في ما يجوز للمؤسسة العسكرية ان تستثمر فيه وما لا يجوز. واغلظ على اعضاء المكون العسكري الالتزام بعدم خوض الانتخابات. وقطع صراحة بتجريدهم من كل حصانة. وأكد بعبارة مذلة التزام القوات المسلحة بأن تنفذ “تنفيذا حرفيا” تعهدها بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، وتعدها “بعدم الاعتراض او الاعاقة” فيما يتعلق بالفراغ من التحقيق في فض اعتصام ٣ يونيو ٢٠١٩. والزم القوات المسلحة الزاما بأن تتبنى ما سماه “العقيدة العسكرية الديمقراطية”. فكان طبيعيا أن يرفض الجيش بيعة الوكس هذه. وما كان لمن وقفوا وراء تلك البيعة من القوى السياسية والعسكرية الا ان يبحثوا عن سبل بديلة. وحيث ان ذلك الدستور قد قصد به ان يحل مكان دستور سقط وشيكا، فقد كانت النفوس محتقنة أصلا في الطرفين. وهكذا افضى تعاقب الدساتير الى الحُميا التي اشعلت هذه الحرب الشعواء. ان شاهدنا في ايراد الأمثلة المذكورة أعلاه ليس ما إذا كان الخيار المعين الذي اختاره الدستوران صوابا ام خطأ. وانما هو ان الفصل القطعي في مسائل الخلاف السياسي الحاد من هذا النوع ليس مما ينبغي للدساتير. ذلك لمخالفته للمبادئ أعلاه. كما ان تناول هذه المسائل الجدلية ليس من مألوف التجربة الدستورية السودانية. فبسبب تجنب دستور ١٩٥٦ الخوض في مثل هذه المسائل عاش فينا عمرا. وعندما احتاج الناس لدستور بعد اكتوبر عام ١٩٦٤ عمدوا الى دستور ١٩٥٦ نفسه ولم يعدِّلوا فيه الا قليلا. وعندما التمسوا في ابريل ١٩٨٥ دستورا جديدا لانتقال جديد، رجعوا الى ذلك الدستور الصالح المهجور فنقحوه. وما ان خرج دستور ١٩٦٤ قليلا عن هذه الجادة حين تم جره لحلبة الصراع السياسي، وأُجرى فيه التعديل الشهير (رقم ٢ لسنة ١٩٦٦) الذي اختار خيارا حديا بأن قضى بحل الحزب الشيوعي، جر ذلك من الوبال على التجربة الدستورية والديمقراطية في السودان ما هو معلوم.
​في المقابل، فإن المتأمل في دستور ٢٠٠٥ يجد ان المبادئ الثلاثة أعلاه كانت هي المعتمدة في صناعته. فما من قضية حدية إلا وعالجها بمنهج وسط يتفادى الخيارات القاطعة، او دثرها بغموض خلاق يحتوي الجميع، أو أرجأها بتلطفٍ لأوانٍ آت. وكانت عبارة creative ambiguity من العبارات المتداولة في أروقة مفوضية المراجعة الدستورية ومثارا للقفشات. وقد نجح دستور ٢٠٠٥ في ذلك أيما نجاح رغم ان المجتمع السوداني في حقبة ما قبل انفصال الجنوب كان شديد الانقسام، وبما لا يقاس بسودان ما بعد ابريل ٢٠١٩. وكانت القضايا الخلافية فيه هي امهات قضايا الصراع السياسي والعسكري في السودان التي سهر الخلق جراها واختصموا. ومن ذلك الهوية والشريعة والحريات وكيف تحكم البلاد. وقد نجح صناع دستور ٢٠٠٥ من خلال الاهتداء بالمبادئ اعلاه في تجاوز هذه القضايا الشائكة على نحو أرضى الجميع وأوجد للبلاد دستورا متوافقا عليه ليس فيه غالب او مغلوب. بل اضافوا لهذه المبادئ مبدأً رابعا هو شمول التمثيل Inclusivity. فشاركت القوى السياسية الفاعلة كلها في اعمال مفوضية الدستور. وابتعثت المفوضية وفودا قادها رئيساها السيد ابيل ألير والدكتور عبد الله ادريس لكبار الزعماء. فاجتمعت بالترابي في داره، وبنقد في مقره، وبالصادق المهدي في داره كذلك. وشدت الرحال الى قرنق في رمبيك. واستقبلت المفوضية وفدا كبيرا للتجمع الوطني، بعث به الميرغني من القاهرة، بلغ سبعة وعشرين عضوا مثلوا كافة الفصائل السياسية لذلك التحالف. اطلع هؤلاء القادة الكبار على المسودة قبل الاخيرة للدستور وارتضوها. وابدى عليها بعضهم، كالترابي، ملاحظات صياغية وتحسينية وضعت في الاعتبار في المسودة النهائية.
دعونا نستعرض امثلة للكيفية التي عالج بها دستور ٢٠٠٥ اعقد مسائل الصراع السياسي والدستوري في السودان مما استعصى واستغلق منذ ستينات القرن الماضي. ولنبدأ بمسألة تحكيم الشريعة الاسلامية لننظر كيف توصل دستور ٢٠٠٥ لنص فيها أرضى الترابي ونقد وقرنق. اذ نصت المادة الخامسة من ذلك الدستور في فقرتها الاولى على ان “تكون الشـريعة الإسلامية والإجماع مصدراً للتشـريعات التي تُسن على المستوي القومي”. ثم اعقبت تلك الفقرة فقرة تقرأ “يكون التوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب السوداني وتقاليده ومعتقداته الدينية التي تأخذ في الاعتبار التنوع في السودان، مصدراً للتشريعات التي تُسن على المستوى القومي”. فبينما أثبت النص الاول الشريعة مصدرا للتشريع، جعل النص الثاني “التوافق الشعبي وقيم واعراف الشعب السوداني” مصدرا آخر. وما ذلك الا لإستصحاب من كانوا يعترضون على مصدرية الشريعة وتسهيل قبولهم بسبب وجود المصدر الآخر. وهكذا عالجت هذه الصيغة المتوازنة هادئة النَفَس قضية لطالما اهتزت لها المنابر، وتحشدت بسببها أركان النقاش، وسُودت من اجلها الصفحات. قارن هذا النهج بالنهج الحدي الذي اتبعه الدستوران الاخيران بإسقاطهما مادة مصادر التشريع جملةً واحدة. وحين تقرأ ذلك الاسقاط على ضوء النص الذي جاء في الاتفاق الاطاري القائل: “وتقف الدولة على مسافة واحدة من الهويات الثقافية والاثنية والجهوية والدينية (…) وتكون الدولة غير منحازة فيما يخص الشؤون الدينية وشئون المعتقد والضمير”، تعلم ان القصد من اسقاط مصادر التشريع ليس رفع الخلاف، كما يقول الفقهاء، وانما هو حسم النزاع بتبني وجهة نظر معينة واستبعاد أخرى. بل هو بمثابة اعادة وضع العقدة في المنشار بعد ان نجح دستور ٢٠٠٥ في فكها. وهذا، ولا شك، استخفاف بخطر ذلك الخلاف السياسي المعمر واستهتار بأحلام الرجال والنساء.

(٣)
​انظر ايضا الى الشمول الذي استوعبت به النصوص التالية من دستور ٢٠٠٥ مسألة الخلاف المتشعب حول اللغة الرسمية للبلاد؛ والذي كان من اسباب إشعال الحروب في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور: “جميع الُلغات الأصلية السودانية لغُات قومية يجب احترامها وتطويرها وترقيتها. العربية هي اللغة القومية الأوسع انتشاراً في السودان. تكون العربية، باعتبارها لغُة رئيسة على الصعيد القومي، والإنجليزية، اللغتين الرسميتين لأعمال الحكومة القومية ولغتي التدريس في التعليم العالي. يجوز لأي هيئة تشريعية دون مستوى الحكم القومي أن تجعل من أي لغة قومية أخرى، لغة عمل رسمية في نطاقها وذلك إلى جانب اللغتين العربية والإنجليزية. لا يجوز التمييز ضد استعمال أي من اللغتين العربية أو الإنجليزية في أي مستوى من مستويات الحكم أو في أي مرحلة من مراحل التعليم”. وهكذا وجد الجميع متسعا في هذا النص المتسامح واعترافا بهوياتهم الثقافية واقرارا بحقهم في التعلم والعمل باللغة التي يختارونها، دون ان ينتقص ذلك شيئا من وضعية اللغة العربية. بل انظر الى النص الذي يقول بشأن حقوق الانسان انه “تعتبر كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزءً لا يتجزأ من هذه الوثيقة”. فاذا ما ارضت عبارة “كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات” اقواما، فقد طمأنت عبارة “المصادق عليها من قبل جمهورية السودان” اقواما آخرين؛ كونها أجلت النزاع حول العديد من الحقوق والمعاهدات للبرلمان. وكانت مسألة العاصمة القومية من أكثر المسائل إثارة للجدل، فحشد لها الأطراف حججهم وخبرائهم، بل وجماهيرهم. وتشددت الحركة الشعبية في الإصرار على استثناء الحزام الممتد من النيل الازرق الى شريط السكة الحديد من تشريعات ولاية الخرطوم ليحكم بقانون قومي خاص. وكان المخرج ايضا نصا توافقيا غاية في الابداع أرضى الجميع واشعرهم بالانتماء لعاصمتهم والفخر بها. فقد عمد صناع الدستور لتوظيف مفردات كل طرف واستخدامها بما يرضي الطرف الآخر. اقرأ معي: “يعتبر السلوك الناشيء عن الممارسات الثقافية والأعراف، الذي لا يسبب إخلالاً بالنظام العام واحتقاراً لأعراف الآخرين ولا تكون فيه مخالفة للقانون، ممارسة للحريات الشخصية في نظر القانون (…) تراعي المحاكم عند ممارسة سلطاتها التقديرية في توقيع العقوبات على غير المسلمين، المبدأ الراسخ في الشريعة الإسلامية أن غير المسلمين من السكان لا يخضعون للعقوبات الحدية المفروضة وتُطبق عليهم عقوبات تعزيرية وفقاً للقانون. الرأفة وتفسير الشك لصالح المتهم مبدآن قانونيان مطبقان على نطاق العالم ومطلوبان في ظروف السودان”. فتأمّل!
ولا يظنن ظان ان دستور ٢٠٠٥ لم يتضمن نصوصا قطعية. ففي غير مسائل الخلاف الكبرى عمد ذلك الدستور الى التجربة الدستورية السودانية الثرة وأمتاح منها دون تحفظ مدونا الكثير من الاعراف والممارسات الدستورية السودانية ومرسخا لها. فدستور ٢٠٠٥ هو الدستور الأطول في التاريخ الدستوري السوداني. اذ جاء في سبعة عشر بابا تضمنت ٢٢٦ مادة واختُتم بخمسة جداول ويغطي في مجمله ١٧٦ صفحة. قارن بين هذا الدستور والدستورين الاخيرين الذين لم يتجاوز الواحد منهما ٧٨ مادة ولم ترفق بهما جداول، ويطبع الواحد منهما في ٢٤ صفحة! وهذا يجعل أيا منها أقصر من النظم الأساسية للشركات. نعم ليست كل الدساتير الطويلة ناجحة، ولا كل الدساتير الناجحة طويلة. لكن طول الدساتير مؤشر على جديتها وعلى استيعابها مختلف شئون الدولة. فأطول دساتير العالم هو الدستور الهندي الذي جاء في ٣٩٥ مادة وثمانية جداول. وبسبب هذا الطول، وبسبب اتصافه بالمرونة في مكان المرونة والجمود في مكان الجمود، عرف بلقب “الدستور الباهر” The Brightest Constitution. ونشير فيما يلي باقتضاب لبعض المسائل غير الخلافية التي توسع فيها دستور ٢٠٠٥ وأورد ازاءها نصوصا قطعية.
من أمثلة التجارب التي تناولها دستور ٢٠٠٥ تفصيلا تجربة النظام الرئاسي التي طورت الى نظام شبه رئاسي، أي نظام فيه رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء. فقد استندت التجربة في اول عهدها الى دستوري ١٩٧٣ و١٩٨٧. ثم اضيف اليها ما تم التوافق عليه في الحوار الوطني لاحقا. ومن ذلك تجربة الحكم الاتحادي التي بدأت منذ عهد مايو، ثم تقوت تدريجيا. فأورد فيها دستور ٢٠٠٥ نصوصا تفصيلية ضابطة للإطار الكلي. وحتى لا يقيد تلك التجربة بنصوص جامدة وهي لا تزال في مستهلها جعل تنظيم عدد الولايات وحدودها واسمائها وعواصمها “لقانون اساسي” يصدره مجلس الولايات وترك المجال لدساتير الولايات لتنظيم خصوصياتها. كما طور دستور ٢٠٠٥ الاختصاصات الحصرية للولايات والسلطات المشتركة والمتبقية والتي ظهرت لأول مرة على نحو مقتضب في دستور ١٩٩٨. فتوسع فيها انطلاقا من فلسفة ترمي لعدم اضعاف المركز، من خلال الاحتفاظ له بسلطات قوية في مجالات معينة، وفي ذات الوقت تقوية الولايات عبر تخويلها اختصاصات واسعة. كذلك جعل دستور ٢٠٠٥ استقلالية المحكمة الدستورية من المسلمات التي لا يمكن تجاوزها، اللهم الا بحلها جُزافا كما حدث. وقد افاض دستور ٢٠٠٥ في تفصيل احكام إجازة التشريعات والموازنة العامة والمراسيم الدستورية في البرلمان بانيا في ذلك بشكل أساسي على دستوري ١٩٧٣ و١٩٩٨.
وهكذا نتبين ان دستور ٢٠٠٥، وخلافا للدستورين اللاحقين له، لم يَسقط بسبب سوء صنعته. وانما سقط لما يسمى “العوامل البيئية لسقوط الدساتير”، أي الاعتبارات التي تتعلق بالسياسة الداخلية او المناخ الدولي السائد حينها. (انظر في ذلك كتاب زاكاري ايلكينز وآخرين The Endurance of National Constitutions، دار كمبردج للنشر، ٢٠٠٩). وليس ذلك مما يحسب على دستور ٢٠٠٥ او يعيبه.
ختاما، يجيء هذا المقال في هذا الوقت لأن أوان النظر في الوضع الدستوري للبلاد قد أزف على ضوء التقدم الوئيد المطرد الذي يحرزه الجيش. ويجيء أيضا لأن الترتيبات تجري في أديس أبابا ونيروبي لتكون احداهما مقرا لتفاوض جديد. والافتراض السائد لدى الوسطاء هو ان القوات المسلحة تتطلع الى دستور “ثوري” يعبر عن لحظة انتصارها وانكسار الدعم السريع! أي أن القوات المسلحة ترضى من الغنيمة بأن تنتصر لنفسها؛ فتملي ما تريد في مسائل الخلاف السابق وتنال ما مُنع عنها في دستور نقابة المحامين. ان قَبِل الجيش بذلك فإنما يكون قد سِيمَ خطة خَسفٍ ليس فيها ما ينفع البلاد. فهذا زبد يذهب جُفاء. بل يكون الجيش قد باع نصره الغالي بثمن بخس، نصوصَ معدودة. فالتفاوض الذي يزمعون انما يجعل البلاد توغل في دوامة تعاقب الدساتير. فيأتي الدستور الثالث، ثم يعقبه سراعا الدستور الرابع. ويكون كل دستور منها أضعف من سابقه، وليس له من صفات الدساتير الا اسمه ورسمه. ويشتد نافخ الكير، فيؤجج نيرانا تمنع الاستقرار وتأكل الأخضر واليابس. ما نراه هو ألا يعير السودان، عسكريون ومدنيون، هذا المشروع الوبيل أدنى إلتفاته. اذ آن للبلاد ان تنأى عن الألاعيب الصغيرة التي تولد الدساتير قصيرة النظر، قصيرة العمر. وآن لها، بعد هذه الحرب الضارية، ان تؤوب الى ما يسع الجميع، فتعكف على ارثها الدستوري الحافل تتعهده وتبني عليه. ذلك حتى يكون ما حدث من تعاقب في الدساتير اثناء السنوات الأخيرة انحرافا aberration قصيرا عن مألوف مسيرتنا الدستورية وليس دوامة لا فكاك منها.
٩ أغسطس ٢٠٢٣

اترك رد

error: Content is protected !!