
من أعظم المآسي التي تصيب الإنسان في هذا العصر ـ وربما في كل العصور ـ هي عجزه عن قراءة المستقبل قراءة واعية متّزنة. فالمستقبل ليس كائناً غامضاً يولد فجأة من العدم، بل هو نتاج لما نزرعه اليوم من أفكارٍ ومواقف وقرارات. ومع ذلك، نجد أن أغلب الناس يعيشون بين تطرفين؛ فريقٌ يستسلم لواقعه الصعب متوهّماً أن الزمن كفيل بتغييره نحو الأفضل دون أن يبذل جهداً أو يصحح مساراً، فيغرق في دوامة من أحلام اليقظة التي تمنحه راحة مؤقتة، لكنها في حقيقتها تخدّر قدرته على المواجهة وتضعف إرادته في التغيير. والفريق الآخر يقرأ المستقبل بعينٍ سوداء لا ترى إلا الظلال والهاويات، فيستعجل القفز إلى المجهول بحثاً عن مهربٍ من حاضرٍ يرهقه، ظانّاً أن الهروب نوعٌ من النجاة، غير مدركٍ أنه بذلك يهرب من مشكلاته إلى مشكلاتٍ أكبر وأعمق.
أما القلة القليلة من الناس، فهم أولئك الذين يملكون شجاعة النظر المتوازن، يجمعون بين الحلم والعمل، بين الرؤية الواقعية والإيمان بالتحسين الممكن. لا يعيشون أسرى الماضي، ولا عبيداً للحاضر، ولا خائفين من الغد. هؤلاء يفهمون أن المستقبل لا يهب مجده للمنتظرين، بل يصنعه أولئك الذين يقرؤونه بعقلٍ منفتح، ويكتبونه بخطى ثابتة.
ويظهر أثر هذا الخلل في قراءة المستقبل بوضوح في العلاقات الإنسانية، وبخاصة في العلاقات التي تُبنى على الأمل والتشارك، كعلاقات الزواج والخطوبة. فكثير من الأزواج والمخطوبين يدخلون هذه التجربة بنظرة مثالية حالمة، يظنون أن الحب وحده قادر على حلّ كل التحديات، وأن ما يواجهونه من صعوبات مؤقتة سينقشع تلقائياً مع مرور الوقت. يعيشون على وعود مؤجلة وأمنيات متفائلة، لكن دون استعداد واقعي أو رؤية عملية، فيبنون بيتاً من المشاعر فوق أرضٍ من الرمال، لا تلبث أن تهتزّ أول ما تهبّ عليها رياح المسؤولية.
وفي الجهة المقابلة، هناك من يدخل العلاقة بعقلٍ مثقل بالتوجس والخوف من المستقبل، يرى في كل بادرة حبّ امتحاناً، وفي كل خطوة نحو الارتباط احتمالاً للفشل. فيبالغ في الحذر إلى أن يخنق العلاقة بيده، ويتحول الحوار إلى محاكمةٍ مسبقة للمجهول، وكأنّه يعيش على أطلال تجربة لم تبدأ بعد. وهكذا تتأرجح كثير من العلاقات بين الوهم والخوف، بين التفاؤل الأعمى والتشاؤم المفرط، وكلاهما يقتل جوهر العلاقة قبل أن تنضج.
إن قراءة المستقبل في العلاقات الإنسانية ليست تنجيماً أو توقّعاً للأقدار، بل هي وعي بالاحتمالات، واستعداد نفسي وعقلي للتعامل مع التغيرات. فالمستقبل في الزواج والخطوبة لا يُبنى بالعاطفة وحدها، بل بالقدرة على إدراك ما ينتظر الطرفين من مسؤوليات وتحوّلات. الزواج ليس لحظة وردية في حفلٍ أنيق، بل مشروع حياة يحتاج إلى رؤية مستقبلية مشتركة، توازن بين القلب والعقل، وبين الأمل والعمل.
وحين يغيب هذا التوازن، يختلّ البناء كله. فمن يرى المستقبل وردياً أكثر مما هو عليه، سيُصاب بالإحباط حين يصطدم بواقعه. ومن يراه مظلماً أكثر مما يجب، لن يمنح نفسه فرصةً ليرى النور في تفاصيله. وحدهم أولئك الذين يفكرون بتروٍّ، ويخططون بحكمة، ويتحدثون بصدق عن أحلامهم ومخاوفهم، هم القادرون على بناء علاقات تمتد جذورها إلى المستقبل دون أن تقتلعها العواصف.
إن أعظم ما يميز الإنسان الواعي أنه لا يترك مستقبله رهينة الظروف، بل يشارك في صناعته. لا يكتفي بأن يحلم، بل يحوّل الحلم إلى خطة. لا يستسلم للواقع، ولا يهرب منه، بل يواجهه بفكرٍ عميق ونفسٍ مطمئنة. فالمستقبل ليس نبوءة تُنتظر، بل مسؤولية تُحتضن.
وفي النهاية، يمكن القول إن مأساة الإنسان لا تكمن في أنه لا يعرف ما سيحدث غداً، بل في أنه لا يحسن الاستعداد له. والمستقبل لا يرحم من يسيء قراءته، ولا يكافئ من يسلّم له عينيه مغمضتين، بل يمنح مكانه في الصفوف الأولى لأولئك الذين يتقنون فنّ القراءة الواعية، ويكتبون غدهم بأيديهم لا بأوهامهم.