في الفكر والسياسة / عثمان جلال

حول بناء الدولة والأمة والديمقراطية

عثمان جلال

(1)
دولة ما بعد الاستعمار في العالم الثالث بكل تجلياتها، القومية ، الملكية، الطائفية، والعقائدية،تشكلت كمؤسسات استبدادية فوقية قاهرة لإرادة المجتمعات التي قادة معركة الاستقلال والخلاص الوطني من عقابيل الاستعمار، وجاءت هذه الدولة الاستبدادية لايقاف الموجة الثانية من ثورة المجتمعات والمتمثلة في الثورة الثقافية والسياسية لإنجاز مهام البناء الوطني والديمقراطي المرتكزة على قوامة وشرعية المجتمعات فجاءت تلك الدولة الاستبدادية على تضاد مع تطلعات الشعوب في العالم الثالث ، وارتدت إلى استبدادية مطلقة، فردية لا انسانية، كما يدل على ذلك النعت الدائم بأنها شوكة في جسم المجتمع، يضرب ويتأذى منها.
إن علاقة مجتمعات العالم الثالث خاصة العربية والأفريقية بالانظمة الاستبدادية الحالية يماثل تماما وضع الشخص الذي يتعهد وحشا للدفاع به عن نفسه ولكن ما إن يفقد السيطرة والتحكم فيه حتى يغدو أول ضحاياه،فأصبحت الدولة غولا، وكائنا يمارس العدوان والإرهاب الداخلي على المجتمعات.
(2)
تلازمت عملية بناء الدولة والامة في الغرب الأوربي وتصدى لعملية البناء السياسي والاقتصادي والهوياتي المجتمع الحر في عصور التنوير والنهضة والحداثة، وثمرة ذلك الحضارة الأوربية المعاصرة بكل تجلياتها الإبداعية في مساقات الحياة، وعمودها الفقري الإنسان الحر والمبدع، وكثافة مؤسسات المجتمع المدني الخلاقة ، بينما انكمشت الحكومات في أزمنة الحداثة الفائقة في أجهزة فوقية للتخطيط والتشريع والاستراتيجيات بينما تفاعلت مؤسسات المجتمع في صناعة مشروعات النهضة والحضارة.

بينما انقلبت علاقة بناء الدولة والامة في العالم الثالث والسودان ليس بدعا منها حيث تصدت لمهام عملية البناء الوطني الدولة الاستعمارية ثم الدولة الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار في دورات الحكم الاستبدادي الأطول، مع فترات ديمقراطية شكلية لأن الأحزاب السياسية التي قادت عملية البناء الوطني ركزت على الايديولوجيا الحزبية أكثر من قضايا البناء الوطني والديمقراطي حتى انتهت إلى نموذج دولة فاشلة، ومتعازلة عن إرادة المجتمع.
هذه البينونة بين الدولة والمجتمعات،عطلت عملية البناء الوطني، وانتجت الأزمات الحدية السياسية والنزاعات الهوياتية والخراب الاقتصادي الماثل، واستمرار هذه الدولة والذهنية في الحكم يعني الانهيار الشامل للدولة، ومصطلح دولة مجازا لأن تراكم نمط الدولة الفاشلة في الحكم لا ينتج دولة حديثة متماسكة ومكتملة البناء والأركان.
(3).
هذه النهايات الماحقة للدولة السودانية تستدعي العودة إلى منصة التأسيس الأولى عند الاستقلال الوطني، وبناء الكتلة التاريخية الحرجة، والتأسيس لا يعني قطيعة تاريخية بل تعني استلهام الخيبات الوطنية المتراكمة، والحقيقة والمصالحة والتواثق على عدم تكرار التاريخ فإعادة التاريخ مأساة، والبدايات التأسيسية يصنعها دوما القادة الافذاذ (الآباء المؤسسين ) المتجردين من الذات والذين تهوي إليهم الشعوب، حتى يتصدوا لقيادة هوادي البناء الوطني والديمقراطي في السودان والمتمثلة في بناء الأمة السودانوية، وتأسيس الدولة ،وبناء نسق اقتصاد حديث مستقل ومتكامل في قطاعاته،وبناء نظام سياسي يصنع عقده المجتمع، ويحقق فرص المشاركة المتكافئة في السلطة لكل الاديان، الأعراق والاثنيات والقوميات ، وضرورة أن تمتلك الدولة ناصية السيادة وتمتلك قرارها في العلاقات الدولية وان تكون أولوية الولاء للدولة الوطنية تعلو على جميع أشكال الولاءات الأخرى العرقية والقبلية والطائفية والدينية،وان يكون للدولة وحدها الحق القانوني في احتكار العنف واستخدام ادواته ، وان تضمن أسس التمثيل السياسي عدم احتكار عصبية قومية أو عرقية واحدة على الدولة وان يغدو الانتماء للدولة هي العصبية الكبرى
(4).
إن تحقيق قومية الدولة وبسط التنمية العادلة والمتوازنة ضرورة لتشكيل هوية كلية وجامعة لمجموع الاعراق والثقافات بحيث تجد كل مجموعة عرقية واثنية ودينية ذاتها متفاعلة في حراك خلاق تأخذ وتعطي وذلك لبناء الشخصية القومية المائزة للأمة السودانية، وان كان لبعض الثقافات علو يجب أن تحقق ذاتها من خلال عملية الإثراء الثقافي الكلي دون أن يتحقق ذلك باحتكار استخدام جهاز الدولة الايديولوجي لأن ذلك سيؤدي إلى فرض وصاية ثقافية أحادية تهوي بنا في صراع الهويات القاتلة التي أدت لانفصال الجنوب، مع صيرورة الصراع الهوياتي بين المركز والهامش.

لذلك ينبغي تجاوز حالة الصدام الهوياتي بثنائيته المورثة في السودان بين المدرسة العروبية المثالية والتي ترى أن تاريخ السودان السياسي والثقافي والاجتماعي يبدأ بدخول العرب في السودان وان اي هوية أخرى يجب أن تعبر عن ذاتها بالذوبان في الهوية العربية،والمدرسة المقابلة الافريقانية والتي ترى ضرورة مقاومة الهوية العربية وتجاوزها بفرض الهوية الأفريقية.إن استمرار حالة التضاد الهوياتي يعني استمرار حالة الصراع والصدام ولذا يجب تجاوز هذه الثنائيات المدمرة في مسألة الهوية وضرورة بلورة هوية ثقافية سودانوية نسيج وحدها تعبر عن هذا التنوع والثراء في التربة السودانية ،ويجب أن يوجه جهاز الدولة البيروقراطي وحشد كل طاقات المجتمع لتدعيم وغرس هذه الهوية ،والتي ينبغي ان يدرك أي فرد في المجتمع ان له سهم في تشكيلها وأنها تعبر عنه ومدعاة للفخار الوطني.
(5)
لن تكتمل عملية بناء الدولة والأمة والهوية الوطنية الا ببناء أحزاب سياسية نظامها الأساسي مؤسس على هوادي البناء الوطني والديمقراطي، ومتحررة من الإيديولوجيات الوافدة ، أحزاب برامجية، تنموية سودانوية محضة،قاعدتها الاجتماعية منتشرة في كل اصقاع السودان، مع تنوع الأجيال، ولا ثابت لها سوى غرس المشروع الوطني الديمقراطي المستدام أحزاب ديمقراطية تتداول فيها القيادة دوريا دون حكر في أسرة، أو طائفة أو اثنية.
إن اطراد وتلازم هذه العمليات سيؤدي إلى بناء دولة الوطن، والتي تستمد قوام المشروعية والنهضة من المجتمع، فهذه الدولة بمثابة المجتمع المنظم ذاتيا، أنها دولة تتجذر بالتفاعل مع المجتمع،أنها دولة لا قانون لها سوى قانون المجتمع ،ولا غاية لها سوى غايات المجتمع، هكذا دولة ، تحقق ما يعرف (بالسلطة الانسانية)والتي يمارسها بشر ، وتحديد صلاحيات هؤلاء البشر ، وضبط سلوكهم ، وتعيين طرق محاسبتهم وتدريبهم على مغزى المسئولية الجماعية، وتعليمهم ملكات الإدارة والحكمة والفضيلة والحكم، سواء كانوا متدينين أو غير متدينين ، لان مهمة المجتمع البشري هي تنظيم مصالح المجتمعات الدينية والدنيوية على الأرض وانفاذ القانون والعقاب من بشر على بشر، وعندها ستتحقق عملية بناء الدولة والأمة السودانوية. عندها ستتحول حالة التنافر والتناحر إلى ثقافة الوحدة الوطنية والديمقراطية المستدامة.

اترك رد

error: Content is protected !!