توطئة ..
هذا المقال كتبته بتاريخ ..
الجمعة ٤ سبتمبر ٢٠١٥ ..
و اليوم أجدني تحت وقْع التذكُّر
و التدبُّر ، أعيد صياغته و أجدد خلاياه
و أورد ما أحجمت عن ذكره يومها ،
في حق من بَسَطتُ له في القلب محبةً لا ينقشع ظلُها و لا يخبو بريقها ..
و إلى المقال ..
أخي الكريم ( عقاد ) ..
أجدك في كل مرة ٍتُثني عليه ،
أعني ( صلاح أحمد إدريس الأرباب ) ،
وتحدثني عنه حديث مُحبٍ مشفق
وأنا موقن بما ذهبت إليه ، و أكثر يقيناً ،
و أكثر قناعة ..
وعندي لك المزيد والمزيد ، مما أفاء به الله عليه ، من كريم خصال ، و حُلو مناقب وشمائل ، تستعصِي على من أراد أن يُحْصِى و يتعَقَب ..
فأنا منذ أن أدناني و قرَّبني منه أخي ( جمال الوالي ) ، فقد خالطته في السفر ودار المُقام..
في العسر واليسر ..
في المُبكيات و المُضحكات ..
في كلٍ كنت أجده هوَ هوَ ..
( صلاح ) الذي لا يتبدل ..
و ( صلاح ) الذي لا يتحدث بلسانين ..
و ( صلاح ) الذي لا يلقاك بوجهين ..
و ( صلاح ) الذي كثيرا ماتجده يحمل همَكَ أكثر مما تحمله أنت ، و يتحمل عنك مالا تحتمل أنت ..
موطَّأ الأكناف ..
يُقبل عليك هاشاً باشاً طلِق المحُيَّا ..
وكنت آلفه في كل مُتقَلَبٍ و على أيّ حالٍ متوازناً و ثابتاً و هادئاً ..
لا يتضعضع
و لايطغى
و لايبغِي
و لايُبالي على أي جنب في الشدائد كان مَرقده ..
ذو قوةٍ وأنِفَةٍ وعزيمة
و ثقةٍ بالنفس إلى درجة الغُلُو
و الجُموح ..
لقد كان عهدي به ..
ينام ملأ جفونه عن شواردها ، في حين تصطرع حوله وفوقه عظائم الأمور
و أثقلها ، مما يزلزل القلوب و يؤزُّ
النفوس أزَّاً و يهُزها هزَّاً ..
( إن أتاني الهم جيشه دافِر
يلقى يا خلاي صبري وافِر
يلقى عزمي التام ليهو خافِر
يلقى قلبي شجاع ماجبون )
لقد كنت شاهداً عليه و هو يعالج أعقد و أعصى المشكلات ، فتراها أهون عليه و أيسر من أحدنا و هو يرتشف فنجانا من القهوة ، فيتصدى لها ثم يمضي إلى سبيله مُستبْشِراً مُسامِراً مُسْتأنِساً ..
( ما بخاف من شي برضي خابر
المُقدر لابد يكون ) ..
و لعل الذين تابعوه وهو يترافع عن ( بنك الإعتماد ) أمام أربعين من جهابذة المحامين أدركوا يومها أنهم أمام عظيمٍ فذ ، لا تضعف له حجه ،
و لا تلين له قناة ، و لا تعوزه البينات
و الشواهد على عدالة القضية التي ينافح عنها ..
( الثبات معروف لي معاصر
لو بقيت في داخل مَعاصِر
الإله دون شك ليَّ ناصر
رغم أنف الواشي الخؤون ) ..
و كان أن حالفه التوفيق و الفَوز المُبين ..
و يوم أن قذفت ( أمريكا ) بحِممها الحارقة ( مصنع الشفاء ) ، و وقف العالم بأسره مذهولا أمام هذا العدوان السافر الغَشُوم ، والناس ما بين مُكَذِبٍ
و مفجوع ، فقد روى لي من كان معه
في ( لندن ) ، أنه قد تلقى هذا النبأ الصاعق ، و كأن الأمر لا يعنيه من قريبٍ
أو بعيد ، و مضت أصابعه وهي تداعب
أوتار العود ، ولم يخرج مُنسابُ ( اللحنِ ) عن سِياقه المرسوم ..
و يشتط بي الخيال ، و أتصوره و هو
يغزل لحناً لكلمات الشاعر المُلْهَم
( صلاح حاج سعيد ) ، و أداء صديقي
المُلْهِم الفنان ( حسين شندي ) ..
( و لقِيت قلبي العليك مشغول
مليان ريد و حِنِية
بعد ما قلت سابني خلاص
زمان الفرحه مات فيّه
و جيت والبهجه في عينيك
ربيع أيامي عاد ليّه
ياجميل يا راقي إحساسك )
كنت أراه يُقبل على الحياة بقناعة
( محمد عبدالله الأُمي ) ..
( قول لأهل الجور و المساخر
ما في أول ما ليهو آخر
ما بيدوم العز و المفاخر
و ما بيدوم الظل و الحُصون ) ..
لا يُعظِّم المال ، و لا يكْبُر في صدره ..
قل أو كَثُر ، أتى أو ذهب ..
فتجده أبعد مايكون عن الافتتان بما
حِيز له من حُمر النعم ، و العُجب
و التباهي بذلك ، إذ لم يكن هناك
في نظره ما إذا أتى مجلَبة للفرح ،
و ما إذا ذهب مدعاة للتحسُّر
و الندامه ..
ما رأيته يوماً يُحصي ما عنده ، و هو
مما لا يُحصى ، و ما رأيته يوماً مهموماً
بصفقة آتية أو ذاهبه ، حتى تظنن أن
الرجل فارغ الفؤاد من كل ما يَمُتُّ
بصلة إلى مُعترك التجارة و المال
و الأعمال ، و هو قُطبه و رحاه
و فارسه ..
و طيلة مرافقتي له ، فإن المرة الوحيده
التي شهدته فيها ( يصطفِقُ ) عندما
كنا في طريقنا إلى مناسبة في ( الامتداد ) ، فاستغْرَقَتهُ مكالمةٌ استحوذت على كل الطريق ، و عندما
فرغ منها ، و نحن على مشارف مكان المناسبة التفت إليَّ قائلاً : ( ياخ و الله
إنت بالك رايق ) ، و كان من يتحدث
معه هو ( مو إبراهيم ) ..
و بعدها بفترة قصيرة شهد (هيلتون
رمسيس ) التوقيع على عقد انتقال
( موبيتل ) المملوكه ( لصلاح ) إلى
( مو إبراهيم ) في جلسة ضمت
( صلاح ) و ( مو ) و ( أسامه داؤود )
و كنت أنا رابعهم ( شاهد ما عندو حاجه ) ..
و الشاهد في الأمر ، أنني رأيت ( صلاح ) ، و هو يبيع ( موبيتل ) ،
و كأن أحدنا يبيع ( عَنزَةً ) أو ( حِمارًا ) ..
كان في منتهى ، لا أقول اللامبالاة ،
و لكن منتهى اليقين و الاطمئنان
و ( الروقان ) ، و كأنه لم يقتطع عزيزاً
من أعضاء مملكته ..
لقد كنت أراه و كأنه يستعجل ( نَفضَ )
ما علِق به من ثروة ..
لذا فإن تعامله مع ( المال ) ينبع من إحساسه بأنه قد وُجد للانفاق لا للاكتناز ..
كان سخيِّاً جواداً ..
فقد عالجَ
و آوى
و كسا
و أطعم
و زوَّج
و أخرج من السجون ..
و يُعطي عطاءً كثيراً يُسمن و يغني..
و عند مجرد رؤيته تستيقظ آمال ٌ،
و تتشابى أعناق ٌ، و تلتمع بالرجاء
أعينٌ ..
كان لفترة يقود سيارة ( نيسان
ماكسيما ) ، فأصبحت معلومة
لدى الكثيرين ممن كانوا يعترضونه
سائلين راجين ، و عندما سافر مرةً
كنت أقودها فعانيت كثيراً من
من المُتَعَقِبين ، حتى أن أحدهم
قد اعترضني مرة قِبالة ( كبري شمبات ) ، ظاناً أنني ( صلاح ) ،
فأُحبِط عندما انقشع التظليل ، فقلت له : ( معليش أنا ما صلاح إدريس ) ، فقال لي ساخراً : ( طيب مادام إنت
ما صلاح إدريس ، المِركِبَك عربيتو شنو؟ ) ..
و امتد إحسانه إلى المُعسرين ، و من
يطاردهم شبح الإفلاس ، و الغارِمين ..
و من ذلك أنه كثيراً ما كان يُقْدِم على
الشراء ، لا رغبة فيه ، و لكن معالجة
لأوضاع من جار عليهم الزمان ،
و جانبهم التوفيق ، فيشترى بأعلى
و أزيد ، دون أن يمُن بذلك أو يرجو
آجل منفعة ..
رافقته مرة لمعاودة أحد الأثرياء ،
و كنت أعلم أنه قد أقال عثرته بمبلغ يُقارب العشرين مليون دولار ، فكان ( صلاح ) يبذل له من التوقير ، والتلطُّف
و التجمل ، و كأنه هو المَدِين لا الدائن ..
و حدث أن ألَمَّت ضائقةٌ بأحد الوجهاء
المرموقين ، و أنا أعرفه ، فعرض على ( صلاح ) مزرعة كانت آخر مايملك ،
لتحَمُّل نفقات العلاج ، فألحَّ عليه
( صلاح ) أن يمنحه ثمن المزرعه ، إكراماً له و تقديراً ، و أن يحتفظ بمزرعته ، فأصر الرجل على البيع ،
فوافق ( صلاح ) مُكرهاً على الشراء ..
و أذكر له مثلها كثيراً من المواقف
النبيلة الناصعة ..
رجل الأعمال ( فُلان ) ..
و رجل الأعمال ( فُلان ) ..
و رجل الأعمال ( فُلان ) ..
استنكف و أبى أن يأخذ منازلهم التي
عرضوها عليه مقابل ما استدانوه ،
فمنهم من أوفى ، ومنهم من انتقل إلى الرفيق الأعلى ، و منهم من عجز عن السداد فلم يلاحقهم يوماً ..
و كثيراً ما يغشاني بمكتبي ( بتلفزيون
السودان ) ، و كان الراحل ( الطيب مصطفى ) يُكثر من انتقاده لي ، فجاءنا
يوماً الرئيس الأسبق ( عمر البشير ) لتسجيل حوار مباشر مع ( قناة الجزيرة ) ، و نحن جلوس بمكتب
الأستاذ ( الطيب ) أشار ( البشير )
عرَضاً إلى ( صلاح ) فقلت له :
لكن يا السيد ( الرئيس ) أستاذ ( الطيب ) عندو فيهو راي ) ، فاعتدل ( البشير )في جلسته وقال :
( عارف يا الطيب العملو لينا صلاح
ده ما في راجل بعملو ، و أقول ليك
مرة احتجنا لمبلغ من المال ، لأمرٍ مُلِح وعاجل ، فلجأنا إليه فركب طائرته
و جاءني فكتب لي المبلغ المطلوب ،
و عندما خرج مني ، سأله من بالمكتب فأخبرهم بما فعل ، فأخبروه أن هذا أقل من المطلوب ولعل ( الرئيس ) استحى أن يطلب منك كل المبلغ ، فعاد إليَّ و أكمل كل المبلغ المطلوب ، دون أن يطلب منا مستنداً بذلك حتى اليوم ، و ليس ذلك فحسب ، فقد اشترى لنا و اشترى و اشترى ) ..
عندما كان الكثيرون يُحجمون بل
و يأخذون ، كان هو من يُعطي ، عطاء
من لايخشى الفقر ،و هو فعلاً من
الذين لايخشون الفقر ..
و أنا أعلم جيداً أن ( صلاحاً ) كان يفعل
ذلك بدافع من وطنية راسخه لديه ،
و أنه بطبعه إذا نودي استجاب و إذا
استُغِيِث أغاث ..
و أنا أعلم جيداً أنه لم يكن على وفاقٍ
مع ( الإنقاذ ) ، لا كنظام حكمٍ و لا كتوجهٍ و سياسات ، علاوة على نهجه المناوئ و المعارض بشده لمبادئ ( الإسلام السياسي ) ، و أطروحاته ، إذ أنه يدين بالولاء للسيد ( محمد عثمان الميرغني ) ، و طريقته و حزبه ، و كثيراً
ما زرته معه ( بفيلا طيبه ) في ( مصر الجديده ) ..
و أكثر مايشدك إليه ويقربه منك ..
إحساسه بالآخرين و التصاقه بهم ..
فلا تكاد تراه إلا في نفرٍ من الأصحاب المصطفين ، يدنيهم منه ، و يفيض عليهم من روحه لطفاً و محبة ،
و يصلهم بعطاياه الغامره ..
نعم ..
إذا مال إليك و أقبل عليك و اقترب ،
فإنه يعطيك حتى يُرضيك ..
و لعلي أنا ( حسن ) ، واحد من أولئك الذين تذوقوا نعيم أفضاله ، و تقلبوا على مِهاد وداده ، و لو كان لي ألف لسان ناطق لما كافأته امتناناً و ثناءً ..
و كثيرون مثلي يدينون له بهذا الاحساس المُفعم بالمحبة ..
و هو إذ يُقْبِل فلا مانع له ..
و إذ ينصرف فلا راد له ..
و لا يُقبِل على شخص لأنك أثنيت عليه عنده ..
و لا يُدْبِر عن شخص لأنك ذممته
و تَنقَّصْتَه عنده ..
لا ..
فقد كان يصطفي من يشاء لمَّا يشاء ،
و عن قناعة و بصدق و اخلاص ..
و يُجافي من يرى عندما يشاء ، و عن قناعة و بحزمٍ و عزم ..
و تجده أغضب مايكون إذا ذكرتَ أحداً عنده بسوء و دعوته لمفارقته أو حرمانه من صِلاته ، عندها فقطعاً
ستسمع منه قولاً فظاً غليظاً لا يُرضيك
و قد يُبكيك ..
لم أكن أجد به ميلاً لمخالطة
و مصاحبة عِلْيَة القوم و ذوي السعة
و اليسار ، إلا لمقتضيات العمل ، و إن كنت أرى كثيراً منهم يطرق بابه و يرجو نفعه ..
لقد كان ينْفُر من المجالس المصنوعه
و الموبوءة و المُتَكَلَفه ، و يجد سلوى نفسِهِ و عزاءها ، في مقاربة غِمار الناس ، و أوسطهم ، و السعي إلى الذين يمنحون الحياة معناها و ضوءها
و أريجها و ألقها ..
و وجدت ضالتي ، و أنا أنهل من حوضه
معارف و صداقات و صُحبةً لا أزال
أتنسم شذاها و أمتص رحيقها ..
فقد انعقد حبل الود بيني و بين
أشقائه ( عبدالكريم ) و ( عادل )
و المرحوم ( خالد ) و المرحوم
( حاتم ) ..
و أنِسْتُ إلى والدهم الراحل ( أحمد
محمد إدريس الأرباب ) ..
و هو من قال في إبنه ( صلاح ) ..
( الماكَلَّ مَل لا قال إنْحَمَل
يا ولدي
خيرك فاض همل
يا ولدي
يا ود العَشا و يا قمر العِشا
يا ولدي
إنت يا الحبوب و خيرك كاب شبوب
يا ولدي
ما بتدي الرَبوب و ماك البَوْ عَبوب
يا ولدي
ياحبيب العين يا اللي المحتاج تَعِين
يا ولدي ) ..
و تعرفت إلى أم أبنائه ( كوثر إبراهيم حسن النعيم ) ..
و شقيقاته ..
و نفر كريم من عصبته الأدنى
و الأبعدين ..
و تلازمنا في رحابه أنا و أخي ( عبدالله البشير ) ..
و أنا و أخي ( حسين شندي ) ، زميلي
في الدراسة بمدرسة ( الكتياب الثانوية العامه بالحُرَّه ) ..
و خاله ( عبدالرحيم النعيم ) ..
و الراحلين ( النعيم سليمان ) و ( صلاح قاضي ) و ( عبدالله ود القبايل ) ،
و ( الخير حاج حمد ) ..
و تعرفت على أناس جمّلوا حياتي ،
و ازددت قُرباً من آخرين ..
تعرفت على الأستاذ ( كمال حسن بخيت ) ، و إعلاميين كُثُر ..
( الرشيد علي عمر ) ..
( مبارك البلال ) ..
الراحل ( صلاح دهب ) ..
و رموز ( الهلال ) ..
و الزاكي التيجاني و رياضيين كُثر ..
و ( محمد عبدالله محمديه )
و عازفين و موسيقيين كُثر ..
و شعراء كُثُر ، ( ا لحلنقي ) ،
و ( محمد الحسن سالم حِميد )
و ( المكاشفي محمد بخيت ) ،
و صلاح حاج سعيد ) ، و ( عبدالله
سليمان ) ، و بن خالته ( مدني النخلي )
و ….. و ….. و ……
و ( أزهري محمد علي ) و الذي كتب ..
( على كيفك تفوت
و على كيفك تعال
و أدخل براحات البيوت
في العتمة أو نُصة نهار ) ..
و هي الكلمات التي صاغ لحنها ( صلاح ) ، أو ( علي أحمد ) ، و يؤديها
الفنان ( عادل مسلم ) ..
و كان قريباً من ( محمد وردي ) ،
و ( أبوعركي ) ، و ( كمال ترباس ) ،
و (عبدالعزيز المبارك ) ، و ( عاصم
البنا ) ، و ( محجوب شريف ) ،
و ( ياسر عبدالفتاح شقشقة ) ،
و البروف ( محمد عبدالله الريح ) ،
و ( حسين خوجلي ) ..
و ( عبدالعال السيد ) ..
( و بقيت أعاين في الوجوه
و اسأل عليك
وسط الزحام
قبال اتوه
يمكن ألاقي البشبهك
ما الليل براح
و الشوق تعالي بيندهك) ..
و قد رأيته و هو يقضي وقتاً طويلاً
يُطرِّز الألحان و أمامه ( تل مرمرٍ ) من
أعذب الأشعار لأرفع الشعراء ..
و قد ذكرت في مقالي ( هجرة عصافير الخريف ) بعضاً من ألحانه ( للحلنقي ) كواحدٍ من أبرز الذين وضع ( صلاح ) ألحاناً لأشعارهم ، قلت :
(( و قد حَظِيتُ بمعايشة ميلاد أغنيات زاهيات ، من نسج (الحلنقي) و تطريز ( صلاح ) و لمسات ( محمدية ) ..
فتغنى الكروان ( حمد الريح ) ..
( تعيش وحداني أيه ذنبك
يا عطشان و البحر جنبك ) ..
و هو ماسبق إليه طرفة بن العبد ..
( و أمرُّ ما لاقيت من ألم الهوى
قرب الحبيب و ما إليه و صول )
و الملك ( جمال فرفور ) ..
( على صفق العنب إسمين
كتبناهم بدمع العين ) ..
و المرهف ( عادل مسلم ) ..
( ما عليّ لو جات مواكب
و لا فاتتني المراكب
القمر مادام معايا
أعمل أيه أنا بالكواكب ) ..
و الفخيم ( سيف الجامعة ) ..
( أعذريني الدمعة دي
حتبقى آخر دمعة ليَّ
تاني لو قرَّبت منك
يبقى ليكِ الحق عليَّ ))
و تغنى من ألحانه صديقنا ( حسين شندي ) بكلمات الأستاذ ( محمد محمد خير ) ..
( قَطَّرتَ ليك الشوق لبن
قدمت ليك الليل هديه
لكني يا الطير الرحلت
كان زماني معاك شويه )
و عشرات عشرات الألحان ..
و يطرز الألحان على دندنة ( العود ) ،
إذ يعزف ( العود ) ببراعة قد لاتجدها عند كثير من العوَّادين ، و في ( القاهرة ) ، كنت أمضي معه وقتاً طويلا في ( شارع محمد علي ) و هو ينتقي و يختبر أجود ( الأعواد ) له
و لصحابته من الفنانين و العازفين ..
و شَهِدتُ ( صلاحاً ) عندما يكتب ،
و كأنه يُملَي عليه مايَكتُب ، فكان عندما يكتب عموده لجريدة ( الصحافه ) ، يصطحبني معه ، فيتخذ مكاناً هادئاً ،
و عندما يفرغ ، يدفع إليَّ بمقاله لمراجعته ، فلا أجد فيه ثَلمةً ، ولا ناقصاً أُكْمِلُه ، و لا ضمةً أفتحها أو أكْسِرها أو أُسَكِّنُها ، ومن كثرة ترددي
معه أن الأستاذ ( كمال بخيت ) سأل
مرةً ( عبدالله البشير ) الذي كان يشغل
منصب ( المدير العام ) للجريدة :
( إنت ياعبدالله !! ده منو الجا ورا
و مسك الضرا ؟ ) ..
و هذا يعود إلى أن ( صلاح ) كان قارئاً
نَهِماً بذاكرة ترسخ عليها المعارف كما
النقش على الحجر ، و قد عَلِمتُ أنه
عندما كان نائباً لمدير ( البنك الأهلي
السعودي ) كان يَسْتَخْرِجُ من ذاكرته
أرقام و موقف حسابات العملاء ،
هذا البنك الذي بعد أن غادره و أقام
بالسودان ، طُلب منه العودة مديراً
له فاعتذر ، و كنت شاهداً على ذلك ..
و له تواصل حميمٌ مع عدد مقدر
من المثقفين و الساسة و المفكرين
و قادة الرأي ..
و أذكر منهم الأخوين ( هشام )
و ( محمد علي حافظ ) ، الناشرين
لجريدة ( الشرق الأوسط ) و قد اشترى
منهما مسكنه في( الجيزة ) قِبالة
النيل ( بالقاهره ) ، و الذي اتخذنا
منه لزمنٍ موْئِلاً للصُحبة الجميله ..
و كان موصولاً بالأستاذ ( عثمان العمير ) الكاتب السعودي المرموق ،
و الذي ترأس تحرير (جريدة الشرق الأوسط ) ، و ترأس تحرير ( مجلة المجلة ) ، وقد تَمَلَّكَ ( صلاح ) نُزُلَه في ( بيروت ) ..
و كان أول من هَدَاني إلى الكاتبه
الجزائرية ( أحلام مستغانمي ) عندما
أهداني ( ذاكرة الجسد ) و من بعد
أصبحت أتردد على ( مكتبة مدبولي ) لشراء نسخ منه أقوم بإهدائها ، مع
( الأسود يليق بك ) و ( فوضى الحواس ) ، و ( نسيان ) و ( شهياً كفراق ) ، و أمضي معها ..
( كنا نريد وطناً نموت من أجله ، و الآن
صار لنا وطن نموت على يديه ) ..
و ( الحب هو ذكاء المسافة ، أن لا تقترب كثيراً فتُلغى ، و لا تبتعد كثيراً فتُنسى ) ..
و ( لم يعد يُغْريني أحدٌ ، فجميعهم في
البداية رائعون ، و في النهاية حَدِث
و لاحرج ) ..
و معه زرت الكابتن ( صالح سليم ) ،
رئيس النادي الأهلي ، والذي كان
كان قريباً منه ..
و معه تعرفت على المفكر الأنيق الدكتور ( منصور خالد ) في( القاهره ) ، فوقفت على مِزاج ( منصور ) ، و كلَفِه بالقراءة و الكتابه ، و كيف أنه كان متذوقاً لجيِّد الغِناء و عَذبِهِ ، و باشرت شحن أغراضه من ( القاهره ) عندما قرر الإقامة في ( الخرطوم ) بمنزله التُحفَه جوار شارع ( المك نمر ) ،
بتكليف من أخي ( جمال الوالي ) ،
و كثيراً ما كنت أزوره فيه ، و أقضي
معه وقتاً في ( مكتبته ) ، و عندما قال لي بأنه يجلس يومياً للكتابة في هذا المكان من الساعة الثانية عشرة إلى الخامسة مساءً ، قلت له مازحاً : ( يادكتور إنت بتكتب لي منو ؟ ،
و البِقرا منو ؟ كفايه الكتبتو ، خليني أجيك كل مره أوديك ( عِرس )
و ( بِكا ) ، عشان تشوف البلد دي عامله كيف ) ، و في آخر زيارة لي
طلبت منه تسجيل سلسلة حلقات لقناة ( النيل الأزرق ) ، تتناول فترة الحقيبة و عطاء الرواد ، فوافق بشرط أن يجري معه الحوار الفنان ( عاصم البنا ) ، فاتصلت و أنا معه ( بعاصم ) ، و اتفقنا ، إلا أن ظروفه الصحية حالت دون ذلك إلى حين وفاته ، عليه الرحمه ..
و ( صلاح ) تجده يتوخى البساطة في
ملبسه و مأكله و مشربه ..
ففي الخرطوم يتردد على ( مطعم البربري ) ..
و في القاهره يدعوننا إلى فول ( الجحْش ) في ( السيده زينب ) ..
و ( صلاح ) له قدرة فائقة على التأقْلُمِ مع البشر و الأمكنة ..
في السعوديه تحسبه من سلالة
( الأوس و الخزرج ) ..
و في مصر ( إسكندراني ) الهوى ، ( صعيدي ) الملامح ، ( قاهري )
اللسان ..
و في ( بيروت ) ، حيث ( هَيْدَا الجو بيَعَئِّد ) ، يردد مع ( فيروز ) ..
( حبيتك بالصيف
بأيام البرد
و أيام الشِتي ) ..
و في ( بريطانيا ) ، إنقليزي عديل ، يتحدث الإنجليزية كما ولدتها أمها ،
و مسكنه يُطل على ( نهر التايمز ) ،
و يمتلك ( بوتاً ) كما النبلاء ..
و عندما يأتي إلى السودان ، رغم تغرُبِهِ
الطويل ، ( تجده ود بلد ) قُحاً ، و كأنه
لم يغادر مسقط رأسه شندي يوماً ..
كان يذكر ( شندي ) كثيراً ..
و كذلك ( الدويم ) ، التي عمِل بها في
بداية حياته العملية ، فعند مشاركتنا
لأخي ( عبد العزيز برجاس ) أفراح
زواجه في العام ( ١٩٩٩ ) ، طفِقَ
( صلاح ) يحدثنا عن ( الدويم ) حديث
الصبّ العاشق الولهان ، عن أهليها
و مراتعها ، و أوجه حُسنها و حِسانِها ..
و ( ليالي يا ليالي
ليالي عودي تاني
هبَّ النسيم غمرني
جاب لي خبر أليم
ذكرني أيام سعودي
و ناسي الفي الدويم ) ..
نعم ..
كان شديد التعَلُّق ..
و هو تَعَلُّق يتجاوز البشر و الأمكنه إلى
الهوايات و مناط الأرواح ..
ففي زحمة مشاغله ..
و غمرة إبحاره في زورق ( الألحان ) ..
أقبل على قيادة ( الهلال ) بكل قوة
و تَعَلُّق ، و كنت أحاول إثناءه ( طبعاً أحمد دوله حيقول لي إنت مريخابي حاقد ) ، و لكني كنت أفعل ذلك خشية التفريط في مصالحه ، و إشفاقاً عليه من عداوات قد تكتنفه و هو يُوغِل في هذا البحر اللُّجِي ، و عندما ضاق ذرعاً بمجادلتي ، قال لي مرة :
( يا حسن أليس بإمكاني أن انتحي
مكاناً أعيش فيه مُرَفهاً مُنَعَماً خالي البال ؟ ) ..
قلت له : ( نعم ، بإمكانك ذلك ) ..
قال : ( و لكني لا أريد هذا النوع من
الحياة ) ..
و بعدها أمسكت عن مناقشته في
هذا الأمر ، و إن كنت أُظهِرُ له مرةً
بعد مرةٍ ، عدم رضائي عن خوضه
أحياناً في عِراكٍ مع أناسٍ هم لكثيرين
محل تقديرٍ و ثناء ..
هذا هو ( صلاح ) ..
إذا اقتنع بفعلٍ أو موقفٍ أو إنسان ،
فإنه أهون عليك أن تُزحزِح الشُّم الرواسي من أن تزحزحه أو تُحَيِّده ..
و هو قبل ذلك كالصوفي المجذوب
يستغرقه تماماً الفعل أو الإحساس الذي يعيشه ..
يَجِّدَّ فتخاله قد جُبِل على البأس
و الصرامة ..
يطرب و يبتهج فتظنن أن حياته تخلو
من البأس و الصرامة ..
و هكذا هوَ و هوَ يؤدي عباداته
و هكذا هوَ و هوَ يُعبِّر عن قناعاته
و هكذا و هو يقترب و يبتعد
و هكذا و هو يُخاشن و يُمازِح ..
فهو في كل أحواله
صادق و متصالح مع نفسه
و صادق و واضح مع من حوله ..
و لعل أكثر ما يرفع من قدر الإنسان
هو الصدق و الوضوح ، و الاستقامة على المحجة البيضاء ..
( عن سبيل الحق ماني نافر
و ما جحدت الخير ماني كافر
ما ضمرت السوء ماني حافِر
للصديق هاويات السجون )
و هذا قليل من كثير
و أنا هنا ، و إن كنت أنظر إلى ( صلاح ) فيما كتبت بعين الرضى ، و التي هي عن كل عيب كليلة ، إلا أنني قد اجتهدت في إبراز ما بدا لي من محاسن وفضائل
و جميل جمائل ، و هذا لايعني أن الرجل خِلوٌ من النقائص و العيوب ، ذلك أن كل بني آدم عرضة للزلل
و الخطل و تنكِّب الجادة و التقصير ،
و كل بني آدم خطَّاء و خير الخطّائين التوّابون ..
و السلام ..
أمدرمان ١٠ يناير ٢٠٢٣ ..