مدونتي / حسن فضل المولي

حسن فضل المولى يكتب : نصرالدين شُلقَامِي .. في موضع الجمال بلاقي ..

د. نصرالدين شلقامي
حسن فضل المولي

إن تَقَلُبي بين أصناف البشر بِتَبَصُّرٍ ، أورثني رغبة عارمة في اصطفاء أولئك الذين يعطون حياتنا معنىً و مغزىً ، بحسن صنيعهم و موصول عطائهم ..
و هم على على قلتهم ، إلا أن الواحد
منهم يساوي ألفاً ، و يَزِنُ جَبَلاً ،
و يَسَعُ بحراً ، و يتراءى لك سماءً
تمور بالكواكب و النجوم ..
و لما كان فضاؤنا يعُجُّ بالأشقياء
و الأدعياء ، و المتفانين في الإيذاء ،
من الذين يْنفُثون شروراً و آثاماً ، تستحيل معها أيامنا كدراً و طيناً ،
فإن هناك أُناس يهنأ بهم العيش
و يصفو ، ممن لا ينبغي علينا أن
نَغُضَّ عنهم الطرف و نمر عليهم
مرور الكرام و السلام ،،
فإنْ مَنَعَهُم حياؤهم و تواضُعُهم
من السُطوع ، فلا ينبغي أن يقعد بنا وفاؤنا و ظنُنا الحَسَن ، من أن نشير إليهم و نُزَكِيهم و نرفعهم مكاناً
عليِّاً في أعين خلقه ، بما أخلصوا
و صدقوا و تجَمَّلُوا و جمَّلوا ..

وأنا كلما ثَقُلَتْ موازينُ أحدٍ في نظري ،
أُشَبِهُهُ ( بالنخلة ) ، و أخلع عليه أوصاف ( النخلة ) ، بجامع النفع في كلٍ ،
و الارتفاع في كلٍ ..
و يزدحم خاطري بكثيرين ..
و من هؤلاء ( نصر الدين ) ..
لذا تجدني كلما اقتربت منه ، يتبدى
لي وجه الشبه ..
فهو مبذول فيما ينفع الناس ،،
و مترفعٌ عما يضُر و يؤذي الناس ..
فلا تقع عيناك منه إلا على ما يسر
و يُبهج ،،
و لا يلتقط سمعك منه إلا ما تزهو
به النفس و تسمو ..
ما رأيت أحداً مسكوناً بالجمال ،
معتكفاً في محرابه متبتلاً ، كما قد
رأيته و ألِفتُهُ ..
كلُّ حركاته و سكناته ، تَشِي بذلك الجمال الذي يغمر جوانحه ،،
و لا أعني بالجمال هنا بهاء الصورة ،
و ألَقِ المطالِع ،،
و لكن أعني به كل ما يجعل الحياة
راقيةً و رائعةً و نافعةً و ذاتَ طعمٍ مُستطاب ، قولاً وفعلاً و سلوكاً..
و ليس ببعيد عن ذلك ما يبذله ،
( نصر الدين ) دون مَنٍ و لا أذى ، من
أجل حماية الإنسان فيما يستهلك ) ،
و سلامة البيئة المحيطة به ، و ترقية
و تنقية ذوقه و شعوره و احساسه ،
تجاه نفسه و الآخرين من حوله ،
و ذلك من خلال موالاة الدعوة
بإلحاح لأن يتحرى الناس جودة ما يطعمون و يشربون و يلبسون ،،
و مايُمَكِّنَهم من أن يستنشقوا هواءً عليلاً،ُ غير مُلتَاث و لا موبوء ،،
و يَسْلكون طرقاً ممهدة و مُزدانة ،،
و ينعمون بحدائق ذات بهجة و ألوان ،،
و يُقبلون على بعضهم بالحُسنى ،،
و يحيطون أنفسهم بكل ما يبعث على
الرضى و الارتياح ..

و لعل من أكثر ما يبعث على الرضى
و الارتياح ، هو ( المرائي ) و ( المغاني ) التي تجسد مسارحَ للأنظار و ( مسرىً ) للأفئدة و ( سُقيا ) للأنفس الظامئة إلى موارد النور و الحُبور ..
و هو ما ظل يُداوم على فِعْلِه بحبٍ
و تعَلُّق ..
فأنت حين تراه يُقْبِل على( الزروع )
و ( الزهور ) ، و يشجع على اقتنائها ،
و يحدث عنها ، حديث العارف العاشق ، تُوقِن أن حياة ( الرجل ) مزيج من رحيقٍ مختومٍ و شذىً فوّاحٍ و نَضَارٍ أخَّاذ ..
و من هذا الانجذاب ( الزهري ) ، فقد استمد تلك الروح ( المُزهرة ) ،
و الأحاسيس الزاهية ، التي تَسِمُ
سَعْيَه في الحياة و ترسم تفاصيل
يومه منذ الصباح و حتى العَشِية ..
و لقد سعدت لسنواتٍ ، و أنا أرقُب
و استمتع بتنسيقه بمُتعة و كَلَف ،
و إتقان لمعارض ( الزهور و النباتات البستانية ) ، و هي أيامٌ كان عُشاق الأزاهير و محبو الخضرة ينتظرونها ،
كما يترقب المُؤرَّق مولد الفجر ،
ليجدوا ألواناً من زينة الحياة الدنيا تُذهِبُ ما ران على النفوس من همٍ
و حزَنٍ و ضيق و كَدَر ..
و كنت من المأخوذين بتلك الأجواء
المُفعَمَة بالروائح الزكية و المناظر
الخلاَّبة و الوجوه الحِسان ، و هو غيضٌ من فيضٍ مما كان يجود به علينا ، ( أخو الزهر ) ، و ( سَادِنُ ) الرياض الوريفة الوريقة ( نصر الدين ) ..
( نصرالدين ) ، الذي إن صحِبتَهُ ،
و لازمتَه ، فلا محالة أنك صائرٌ
إلى زُمرة عشاق الزهور ، و مُتذوقي أغاني الزهور ..
الزهور بسمت لينا ،،
و زهرة الروض الظليل ،،
و زهرة السوسن لي النفوس مسكن ،،
و الزهور صاحية و انت نايم ،،
و في بنانك ازدهت الزهور ،،
و الزهور و الورد شتلوها جوه قلبي ،،
و الزهور ،،
و الزهور …
و كلٌ يُغني على زواهره و أزاهيره ..

و هو قبل ذلك موْطِنٌ لحلو النغم ،
و مُستودع مملوء بكل شهيٍ و لذيذٍ
و نفيس ، مما حفل به ( كتاب الغناء
السوداني ) ، من سيَّر ٍو قيم و مُكْرمات
و تباريح و أشواق و أمكِنة ، تجعل الأفئدة تَحِنّ و تَئنّ ، تعلو و تهبِط ،
تُسرِع و تبطئ ، تلتئم و تتلاشى ،
تُمسِك و تُمطِر ، تَنقَبِض و تنبسط ..
و هو إذ يفعل ذلك فإنما ينساق مع
طبعه النزّاع نحو الجمال و فنونه
و ألوانه ، و هذا ما حواه بين ضفتيه ( كتاب الغناء السوداني ) ، الذي أقبل عليه ( نصر الدين ) ، إقبال النَهِم
الولهان الهيمان ..
و من أراد أن يتبين صدق قولي
فليطرق بابه ملتمساً معلوة استعصت
عليه ، عن شاعرَ أو ملحنٍ أو مطرب ،
فإن لم تجد عنده بُغيتك أرشَدَك
إلى من هو قمِين بتبصيرك و تحقيق مقصدك ..
و لاأزال أتذوق طعم تلك الأمسية التي
جمعتنا في داره الرحيبة بذروة سنام الغناء ( عثمان حسين ) ، و الذي بدا يومها سعيداً بنا و كنا أكثر سعادة
بوجوده بيننا ، فانشغلنا عن أطايب الطعام ، بالتحليق مع قصص و حكايات
و تجليات ( عشرة الأيام ) ، و ( الدرب الأخضر ) ، و ( طيبة الأخلاق ) ،
و ( كيف لا أعشق جمالك ) ،
و ( شجن ) و ( وحيات عيون الصيد )
و ( الفراش الحائر ) ، و ( لا و حبك )
و ( قلبي فاكرك ) ..
( حبيبي ليه قلبي فاكرك
و انت ليه خالي قلبك خالي !!
خالي والله ما عليه ) ..
و كنت مُلِمَاً بِطَرَفٍ من تلك المحبة
التي جمعت بين ( نصرالدين ) ،
و الكروان ( التاج مصطفى ) ،،
و هو أفضل من يحدثك عمن
صيَّر الكلمات العَصِيَّة شُخُوصاً حيةً ، تُزغْرِد و تُصَفِّق و تضحك و تبكي ..
تجد ذلك في ( عازف الأوتار ) ،،
و ( يانسيم ارجوك ) ،،
و ( يا بهجة حياتي ) ،،
و ( المُلهِمة ) ..
( انا في انتظارك لم أزل
يا ملهم الشعر الغزل
عيوني يا أخت الزهر
في حبك أعياها السهر
في جسمي تأثيرك ظهر ) ..
و أنا مُمْتَنٌ له غاية الامتنان و هو
يستوصي بالقصيدة التي كتبها عني ( التاج مصطفى ) قبل مغادرتي ( تلفزيون السودان ) ، فكان كلما طال العهد يوافيني بنسخة منها ، وهي القصيدة التي غمرتني بسرورٍ تمَشَّى
في أوصالي حُباً و مودة لكليهما ..

لقد صادف وأنا أُنهي هذه الفقرة
أن قصدت ( حي الرميلة ) لزيارة
الصديق الصحفي الألمعي و المُنَقِّب الفني ( سراج الدين مصطفى ) ،
مطمئناً عليه بعد العِلة التي بَرَت
جسمه المنحول ، ونحن نتجاذب
شَتَات الحديث سألني ما إذا كان
هناك شخص ما سأكتب عنه ،
فأبديت له عجزي و عدم قدرتي
على الكتابة المتصلة ، إذ أني لا
أكتب إلا عندما يعِنُ لي خاطر
فانساق وراءه ، لأنتهي حيث ينتهي ،
ثم قلت له :
( لكن ياسراج و أنت تسألني ، عارف
أنا بديت أكتب عن شخصٍ قد لا
تتوقعه ) ..
قال لي : ( منو !! )
قلت له : ( نصرالدين شلقامي ، ألا يستحق ؟ ) ..
كان ( سراج ) مُكوِعاً على سريره ،
فنهض و اعتدل في جلسته ، وصاح
بأعلى صوته ..
( ياسلاااااام ..
ياخ ده أفضل من تكتب عنه ..
هل تعرف أنا لما أكتب و أكون
عايز معلومة بسأل واحد من ثلاثة ،
و هم ، ( مختار دفع الله )
و ( عزالدين أحمد المصطفى)
و ( نصرالدين شلقامي ) ..
قلت : ( صدقني هذا ما أشرت إليه ،
عَرَضاً و دون تفصيل ) ..

و قد أوصاني أن أقف عند ( كوستي )
التي نشأ و ترعرع فيها ، و أحبها ،
إلا أني أرى أن ( سِراجاً ) ، و صديقه
الأثير النَحْرِير ( طارق شريف ) ،
و غيرهم من مُرِيِدِيهِ ، من حُذَّاق
القلم و النغم ، أعْرَفُ و أجدرُ
و أقدرُ على الخوض في هذه
السيرة الغنية بجلائل الأعمال
و عظائم الإنجازات ..
و قد قد سبق للكاتب الأريب
( صلاح حبيب ) استعراض جوانب
منها في اللقاء الذي أجراه معه
في ( صحيفة المجهر ) في العام
٢٠١٣ ، حيث تحدث عن نشأته
و مراحل دراسته من ( كوستي )
إلى ( أم درمان ) ، و تخصصه في
الزراعة في ( تشيكوسلفاكيا ) ، إلى
أن نال الدكتوراه في ( في كيمياء الأغذية ) من إحدى الجامعات البريطانية ، و أهم محطاته العملية
في ( كلية الزراعة ) و ( مركز أبحاث الأغذية بسويسرا ) و ( منظمة الفاو العالمية ) ، كذلك عمله كقنصل ( لجمهورية سلفاكيا ) ، و إجادته
لفنون الفندقة و السياحة ، و تجرده للعمل الطوعي ، و اهتماماته
المتشعبة و هواياته المتنوعة ،
و التي منها ماقد ذكرت عابِراً ،
و منها مالم أذكر ، و هي كثيرة
لا تُعَدُ..
فأنا هنا لا استَجْلِي سِيرةً أو أتتبع
مسيرة أو أُنشئ دراسة ، و لكني فقط ، أُسَطِر بوجداني كلماتٍ قلائل ، أُحَيِّي
بها هذا الرجل المهذب و المتواضع
و الجميل ، و الذي درج على التصدى للعمل العام ، و هو يغشى المجالس
بلا ضوضاء و لا كبرياء و لا خُيَّلاء ، لتتحدث عنه أعماله و يتسلل
بحضوره الأنيق إلى الأنفس
كالشعاع ..
و هو الذي إذا ما طلبت منه مَنالاً
يمنحُك ابتسامةً تسبق استجابته ،
و هي استجابة تتبعها سعادة ،
كأنه هو الطالب الراغب و أنت
المطلوب المرغوب ..
و أرى أن أمثال هؤلاء الكِرام البَرَرَة ،
الذين يسعون في حوائج الناس ،
و يُمطرون حياتهم بوابلٍ من الجمال
و حُسن الفِعال ، جديرون بالصدارة،
و أن يؤول إليهم أمر البلاد و العباد ،
لا أولئك الذين يأتون من لا شيء
و بلاشيء لينجزوا لا شيء ، ممن
يهبِطون على رؤوسنا من مجاهل بعيدة ، و يخرجون علينا من
من مغاراتٍ سحيقة ، ليتزاحموا بالمناكب على المراتب
و المناصب ..

و السلام
أم درمان ١٧ سبتمبر ٢٠٢٢

تعليق واحد

  1. حقا رغم اني لا اعرفه شخصيا ولكن من خلال لقاءات عارضه احسست برقي وجمال وذوق مترع قل ان تجده مجتمعا في شخص واحد في زماننا هذا.
    فكل ما قلته عنه بعض من ما حباه الله به وامثاله من بنبقي ان ننقب عنهم في هذا الايام لتولي مقاليد هذه البلاد وانتشالها من هذا المستنقع المأساوي.

اترك رد

error: Content is protected !!