السَّفَر ..
السفر ..
نويت السفر ..
كلمةٌ معقودٌ بناصيتها المشقة ..
و مُوحية بالفِرَاق الْمُر ..
و ما أن يُذكر ، حتى يبعث من المشاعر مالا تثيره كوامن الإقامة والالتصاق بالمكان ، مهما كان باعثه ومهما كانت مطِيته ، الأمر الذي جعل الكثيرين يُوَثِّقون له بأصدق عبارة وأعمق احساس ..
( سفري السبب لي أذايا
فُرقة وفُقْدان هَنَايَا ) ..
و ( يامسافر وناسي هواك
أرواحنا و قلوبنا معاك ) ..
و ( من أهلنا سافرنا
و سفر الغربة بهدلنا ) ..
و دونك هذا الكلام الذي يَقْطُر شجناً .. ولولا لواعج ( الأسفار ) لما جادت به قريحة الشاعر الفذ ( فضل الله محمد ) ليصوغ منه الفنان ( محمد الأمين ) لحناً يقطر لوعةً و ضراعة . .
( قلنا ما ممكن تسافر
نحن حالفين بالمشاعر
لسه ما صدقنا إنك
بجلالك جيتنا زاير
السفر ملحوق و لازم
انت تجبر بالخواطر
لا لا مابنقدر نسيبك
تمشي للوحدة و تعاني
برضو ما بنقدر نقاوم
شوقنا من بعدك ثواني
و مابنغني وراك كلمة
و مابنشوف البهجة تاني
غايتو لو شفقان علينا
ما أظنك يوم تسافر ) ..
و لقد بالغ البعض و هو يتجاوز بنقمته ومَوْجِدته إلى ( الناقل ) الذي أَقَلَّ العزيز والقريب و الحبيب ، و الذي لولاه لما كان النأي و البَين و البُعاد ..
( القطر الشال ( معاوية )
يتكسر زاوية زاوية
و يسلم لي ( معاوية )
والقطر الشالك انت
يتكسر حتة حتة
و تسلم لي إنت ) ..
و ( الطيارة الشالتو وين ماراح
و خَلّتْنِي أبكي و أنوح للصباح
إن شاالله تتفرتك جناح ورا جناح )
و هذه مني ..
و إن كان نصيب ( الطائرات ) من هذه المرارة الطافحة قليل ..
و ليس كل سفر مما يَحْمِل النفس على التحسر والأسى و النحيب ، إذ أن للسفر خمس فوائد ، أوردها الإمام الشافعي ..تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ، وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِد”
وزاد عليها البعض فائدة استجابة الدعاء ..
و صحبة ماجد أو اختبار معادن الناس في السفر هو ما تُعَضِّدُه تلك المكاشفة للفاروق ( عمر بن الخطاب ) حين أتاه رجل وأرادأن يشهد لآخر فقال له: هل تزكِّيه؟ هل عرفته؟ قال: نعم، فقال عمر: وكيف عرفته؟ هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟ قال: لا؛ قال عمر: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين تعرف بهما أمانة الرجال؟ قال: لا؛ فقال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟ قال: لا، فقال عمر بن الخطَّاب: فعلَّك رأيته في المسجد راكعاً ساجداً، فجئت تزكِّيه؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ فقال له عمر بن الخطاب: اذهب فأنت لا تعرفه ..
هذه خواطر تَعِّنُ لي كلما أَزْمَعْتُ السفر أو شرعت فيه ، مع أن مقصدي يكون جَدُّ مختلف ، و إحساسي طعمه غير ، وسفري هذه المرة ، لن يطول لأكثر من ثلاثة أيامٍ و لياليهن ..
لقد كانت وجهتي ( دبي ) ..
التي أوردت عنها في مقالي ( دبي .. التجربة الراشدة ) :
( إنك إذ تهبط ( دبي )
تلقاك بألف وجه
وألف لسان
وألف جَنان
وجِنان ..
تجد كلَ من فيها ، وما فيها ، يقوم على خدمتك وراحتك وامتاعك ..
أشياءها
و كائناتها
و طرائقها
و جُموعَ أُناسِها
و سيدَها ( محمدها بن راشدها ) ..
و كانت بُغيتي لقاء صديق عزَّ بيننا التلاقي لثلاثة سنوات بعد أن كنا لا نفترق و هو أخي ( جمال الوالي ) ..
و كانت وسيلتي ( بدر ) ..
ذلك أنني منذ أن اجتذبتني الأسفار وجدت أن نفسي تألف ( الناقل الوطني ) ، وتستريح على متن مطاياهُ ..لقد كنت ، في سابق عهدي لا أرضى ( لسودانير ) بديلاً ..
يوم كانت سودانير بخير ، وعلى أتم صحة و عافية ، حتى انفرط عقدها ، وصارت تُخلف الميعاد ، و تُضاعِف من وعثاء السفر ، وأصبحت من ما يُضرَب به المَثَل في خلف المواعيد ..
فعندما شاع اختطاف الطائرات ، ذهب البعض إلى أن سودانير بمنجاة من ذلك ، لأن الله وحده يعلم ، متى تغادر ومتى تعود ، وهو ما يُفشل كل خطة لتغيير مسارها المرسوم ..
و أسجل بكل فخر أن ( سودانير ) كانت يوماً فريدة في عصرها الذهبي بَازَّة لقريناتها ، وتصدى لقيادة ركائبها ( قَبَاطِنَةٌ ) عِظام لا يشق لهم غبار ، أذكر منهم صديقي كابتن ( أسامة حَمُو ) والذي أعرف حبه لِجَيِّد الغِناء و عذبه ، لذا فقد كان يقود الطائرة بالاستمتاع ذاته الذي يغشاه وكأنه يجلس للعزف على آلة ( الأورغن ) ..
ومن لايذكر كابتن ( شيخ الدين محمد عبدالله ) !! و الذي كان أول من صدع في الفضاء بدعاء السفر و هو ..
كان النبي محمد “صلى الله عليه وسلم” يقول: “الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، سبحان الّذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البرّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل”.
و أقول ..
بكل صدق و تأكيد و اصرار ..
إنني منذ فترة ، ورغم قلة أسفاري ، إلا أني قد وجدت ضالتي في ( بدر ) ..
و ( بدر ) مسيرة تُثْلِج صدر كل وطني يسره أن يرى في بلاده قَبَسَاً وهَّاجاً من نجاحٍ ينهض به نَفَرٌ من بنيه الأماجد .. وأي مُنصِف لا يملك إلا أن يرى فيها جهداً وطنياً خالصاً و تميزاً مرموقاً ، يداني إن لم يكن يكافئ صنيع أقوامٍ ننظر إليه بكل الدهشة والانبهار ..
و إن كان بيننا من لا ينظر إلا بعين السخط والريبة ، التي تُبْدي المساويا ، وتُنقِّب عن مواطن الخلل ، حتى تلك التي لا تُرى بالعين المجردة ..
و الحياة تبدو أقصر من أن ننفقها في أن نبخس الناس أشياءهم و نتَعَّقبُ أخطاءهم ، و هي أخطاء لا يتنزه عنها جهد بشري ..
و الأدعى و أبقى و أنفع لنا و لبلادنا ..
أن ندع الأشجار تنموا حتى ننعم بطيب ثمارها ..
و أن نغني لكل جميل و جمال مما تحيا به النفوس و تصفوا ..
و أن نشجع ( اللعبة ) الحلوة
و أن نُحيِّي ( بدراً ) ..
و التي أجد أن من أسباب ترقيها وسبقها ..
إدارة آخذة بكل أسباب التطور التي تنتظم مجال الطيران ، و مجاهيل الفضاء .
و نُظُم عمل مرنة و محكمة و خلاَّقَة ، تشجع وتؤهل وتمهد المسالك وتُجنب
المزالق .
و طُرُق استيعاب اجتذبت جموعاً من الشباب ( الطامحينا ) حيث تجد كل واحد منهم منهمكاً في أداء واجبه باتقانٍ وحُبٍ وإلفة .
و تقاليد تُعْلِي من قَدْر العُملاء و الاقبال عليهم بكل حرصٍ و دِفْءِ روح .
وهنا مَرْبَطُ الفَرَس ..
و من هنا يأتي التميز ..
و بذلك يتأتى التألق و البريق ..
و لمثل هذا فليعمل العاملون .
و في سفري الأخير هذا على ( بدر ) ..
و كالمرات السابقة ..
وجدت أن النظام محفوظ .
و العناية تُلازِمك .
و الجمال يلفحك من كل ناحية .
و التوقيت يُلامس الدقة .
و الإجراءات تتم في سهولة ويسر ، فما أن ولجْتُ صالة المغادرة و خطوت نحو ( الكاونتر ) حتى ابتَهَجَت روحي برؤية مجموعة مصطفاة من الفتيات ، يجلسن متجاورات ، كزهراتٍ تفتحت عنها الأكمام ، تتوسطهن كواسطة العقد ( ملاذ ادريس ) وهن يباشرن الإجراءات ، بظرف و لطف ، يخفف ما علق بالنفوس من ( توتر ) يظل ملازماً للمسافر حتى يبلغ مقصده ..
و هو مشهد جميل أفسده عليَّ مظهر بعض المسافرين الذين يرتدون ويَحْتَذون ، مالا يليق من الثياب والنَّعل ، و هو مالايصلح لأن تستقبل به أحداً و أنت في دارك ، ناهيك عن أن تغشى به المطارات و تمتطي الطائرات ، ذلك أن المظهر الخارجي ، رغم أنه ليس كل شيئ ، إلا أن الاعتناء به ، كثيراً ما يَشِي عن جوهر صاحبه و ما ينطوي عليه من جمال و تقدير للآخرين ، الذين ينجذبون و ينساقون لمن حسُن مرآه وتوهجت صورته ..
ثم من بعد ذلك ، تضيق نفسي كثيراً بأسلوب التدقيق المتبع في المطارات ، فأنت مجبر على الامتثال له ، إذ تخلع نَعْليك وكل مابه مَسٌّ من معدن أو ماشابه ذلك ، ثم تجد من يأمرك بأن ترفع يديك وتباعد مابين رجليك ، و قد لا تسلم بعد ذلك من أن تُجَسَّ جَسَّ الخِراف ، وأنت راضٍ تمام الرضى ، فالمسافر في حالة شك و اشتباه ، لا ينجو منهما أحد ، بحجة الحرص على سلامتك وسلامة الآخرين ..
و نسأل الله السلامة ..
و بالسلاسة ذاتها و الأريحية نفسها تجد من يسحب منك بطاقة السفر و يدخلك إلى صالة الانتظار إيذاناً بالمغادرة إلى الطائرة التي وجدتها رابضة و حولها كوكبة من أخواتها ، مما يشير إلى أن أسطول ( بدر ) في تعاظم ٍ و ازدياد ، الأمر الذي جعلني أوقن أن الغد موعود ( بنبتة سودانية ) خالصة و باسقة ، تخطو نحو ( الشمس ) و تمتد آثارها إلى مشارق الأرض و مغاربها ، تحت راياتٍ خفاقة شعارها ..
أنا سوداني أنا ..
تحت قيادة تعمل في صمتٍ و أناةٍ وصبر ، دون جَلَبة أو ضوضاء أو استدرارٍ للعواطف ، لكيل المدح و تطريز الثناء ، إذ أن قلة قليلة هم الذين يعرفون من هم وراء هذا ( الطَّوْد ) الشامخ الأشم ، وهل يجنون من وراء ذلك مكاسبَ أو يتكبدون خسائرَ ، في ظل هذه الأوضاع المأزومة و المتقلبة ، التي يصبح فيها الحال على غير ما أمسى عليه !!
و عند مدخل الطائرة ، و التي لا أذكر من أي طراز ، وقف ( مضيف ) أجنبي لم أتبين جنسيته و ( مضيفة ) سودانية مليحة ، أخذا يُرشِدان ( الركاب ) إلى مقاعدهم ..
و تبوأت مقعدي ، هذه المرة في درجة ( رجال الأعمال ) ، و كثيراً ما أسافر على الدرجة السياحية ..
و عَبَر بي بعض المغادرين الذين يتوزعون مابين زائرٍ و مغترب و عابر وتاجر ، و عروس ، رأيت خارج (الصالة) لفيفاً في وداعها ، طيبة الشميم أشاعت في مدخل ( الطائرة ) جواً من البهجة والارتياح ، لنصَاعَتِها و لما تفوح به من عطرٍ هادئٍ أخَّاذ ، و تمنيت أن تجد عريسها كما ترجو و تأمل ، و أن يجدها كما يتمنى ويشتهي و هو يستعجل الثواني والدقائق و الساعات منتظراً ، وهي حَالٌ لا يُكَابِدها و يعايشها إلا مُجَرِب ، عبَّر عنه بنغمٍ شَجِيٍّ الحُوت ( محمود عبدالعزيز ) ..
( عُمْرِي
عمري بَعِّدُو بالساعات
عشان خاطر مواعيدك
أماني اللقيا في عيوني
متين القاك و اضم إيدك
دي حتى عيوني ياغالي
بقت ولهانة بتريدك
عمري
تمر اللحظة و الساعات
واقيف ياغالي وحداني
أمني عيوني بي شوفتك
تعود الفرحة من تاني
عمري ) ..
وبعد أن أحكمنا ربط (الأحزمة) و غُلِّقت الأبواب انبرت ( المضيفة ) الفارِعة، التي يسر العين مرآها ، والتي تنافس أجْعَص مضيفة في أجعص طيران ، وأخذت توحي بإجراءات السلامة حتى أتت إلى ما يلزم فعله ، عند الهبوط الاضطراري ، من أماكن تَوَفُر سترة النجاة ، وطريقة استخدام كمامات الأكسجين ، و كيفية التصرف ..
و عند الإشارة إلى أماكن مخارج الطوارئ الأمامية الأرضية كانت تقفز إلى الأمام برفق ( كالغزالة ) ، مع انحناءةٍ خاطفةٍ وإشارة باليدين في استواء يجعلك ، لا إرادياً ، تميل حيثما مالت ، متناسياً أن الأمر متعلق بدرء الأخطار لا نيل الأوطار .
لقد خيل إليَّ و هي تفعل ذلك و كأنها ( مايسترو ) ماهر ، يقود فرقةً موسيقيةً تتوارى عن الأنظار ..
و ظلت من بعد ذلك تقوم على خدمتنا ، بابتسامة لا تفارق مُحيَّاها ، وحيوية دافقة ، فما أن تطلب شيئاً حتى تأتيك به مسرعةً مُحتفيةً ، و كأنك تعطيها الذي أنت سائله ..
قلت : أين هذه من هاتيك التي تُبَاشِرك بجَبِين مُكْفَهِر و هي جامدة كلوح زجاج أو صفحة حجر !!
و تلك التي عندما طلب منها أحد الركاب ( كوب ماء ) ، في زمن غابر ، زجرته قائلة : ( عليك الله ما تفتح لي باب ( موية ) من هسَّع ) !!
و لما كنت لا أخفي إعجابي بمن يُحسن أداء ما أوكل إليه من عمل ، مستفرغاً فيه كل ما في و سعه ، لم يَفُت علي و أنا أهم بالنزول أن أسألها :
( لو سمحتي إسمك منو ؟ ) ..
قالت ( آثار عبدالله حسن ) ..
فهنيئاً ( لبدر ) ، ولنا ، ( بآثار ) ورصيفاتها و رُصَفِائها ..
و غادَرْتُ (الطائرة) و أنا مُوقِنٌ بأن ( بدراً ) تُسارع الخُطى نحو ( الثُريَّا ) ، ومن تعلق مناطُه ( بالثُريَّا ) نالها ..
بقي أن أقول : إنني نشأت في بيئة ، كان عندما يعجبنا فعل أو يأسرنا موقف ، ويُعْجِزنا التعبير عنه لا نملك إلا أن نصيح : ( أبو الزِّفْت ) ، يقولها الواحد
منا وهو يقفز إلى أعلى ، أو يشير بقبضة يده فَارِداً أصبع الإبهام ..
و هو ذمٌّ يُراد به المدح و التقريظ
و الثناء ..
و هذا قصدي ..
و بالله التوفيق ..
أم درمان ٨ مارس ٢٠٢٢م