( يا ورده أحلى من الزهور
مالو القمر ياحلوه خلاهو الظهور
رسلت قلبي ليك هناك
جاني و رجع محتار معاك
احتار أنا احتار أنا ..
عمر المُعَذب كم سنة ؟؟
احترت في عمر السنين
و أنا الهِناك ولا الهِنا
بقت حياتي مقسمة
نُص في الأرض ونُص في السما
احتار انا احتار انا ) ..
لست أنت من تحتار يا سيدي ،
و لكن أنا من يحتار ..
احتار انا في يوم ( المهرجان ) الأحلى من عمر الزمان ..
و احتار أنا الذي يُذِيبُني مثل هذا التَلاشِي ، الذي يجعلني معلقاً بين الأرض و السماء ، لا من الأموات و لا الأحياء ، لا من السعداء و لا الأشقياء ..
و احتار أنا الذي أُسْلِم قيادي لمن يخاطب فيَّ ، ماخَفِيَّ و دَقَّ و رَقَّ ، من خَطَرات و تهويمات ، فلا أدري ما إذا كنت أنا أنا أو هو آخرٌ غيري أنا ..
و احتار أنا الذي تُحَدِّثُه نفسُهُ باقتفاء خُطا مُلهم هذه الفيوضات الوجدانية ،
و التوهجات الروحانية ..
وهو ( السر قدور ) ..
ذلك الإسمٌ الذي له وقعٌ و رنين ..
فما أن يُذْكَر حتى تغشاك ظِلالٌ من الجمال و الأُنس و الطلاقة و الحُبور ..
و كلما تدنو منه تجد ذلك ، و أكثر من
ما كان يصبو إليه خيالُكَ و يشتهي فؤادُك ..
و قد تيسر لي أن أكون قريباً منه ..
و هو قُرْبٌ يَحِقُ لي أن أُحَدِّث عنه وأروي ، ما استطعت إلى ذلك سبيلا ..
و قد سبق لي أن قلت في ( طرائق ورقائق ) ، والتي صدرت في العام ٢٠١٨ ..
( قصتي مع الأستاذ ( السر قدور ) ، تعود الى أيامي في ( تلفزيون السودان ) عندما نقل إلي الأخ ( شكر الله خلف الله ) ، أنه كثيرا ما يلتقي به في منزل ( مجدي حدوب ) في ( القاهرة ) ، فاتفقنا على أن يعرض عليه مقترحا ، بأن يقوم بتسجيل سلسلة لقاءات مع عدد من النجوم المصريين ، لقربه منهم ، و هو المقترح الذي إعتذر عنه ، ويومها كان يتخذ موقفا معارضا للنظام ..
و ( شكر الله ) مخرج باهر وماهر ، ذو رأي ورؤية ، و هو أشبه بالغواص الحاذق ، الذي يأتيك باللؤلؤ والمرجان ..
وعند تكرار المحاولة أبدى الأستاذ ( السر ) موافقته على القيام بتلك المهمة ، و عندها طلبت من الأخ ( شكرالله ) العودة الى ( القاهرة ) لإتمام هذا الأمر ، فكانت سلسلة حوارات ممتعة ، أجراها لنا ( السر قدور ) مع ( محمود يسن ) و ( نور الشريف ) و ( عفاف شعيب )
و (محمد منير ) و ( إبراهيم خان ) و( فاروق شوشة ) و ( فاروق جويده ) و( الأبنودي ) ، وآمل أن تكون هذه السهرات محفوظة بمكتبة تلفزيون السودان ..
وخلال فترة عملي ( بالقاهرة ) كان دائم التردد على مكتبي ، و كنت آنس بزياراته وأسعد ، و أشعر و أنا معه بانطلاقٍ وراحة و غبطة ، و كان عندما يغيب عني أسارع إليه في مكتبه الكائن بميدان عابدين ..
و عند تكليفي بإدارة ( قناة النيل الأزرق ) جاءني مبديا إستعداده للتعاون معي و قال لي : (أنا مستعد لأي شكل من أشكال التعاون معك ، وممكن أعمل ليك برنامج غنائي مع طلاب معهد الموسيقى والمسرح ، أو الذي تراه مناسباً ..
و لم يَغِب عن ذهني هذا العرض المُغري ، فبمجرد أن باشرت عملي في القناة ( مارس ٢٠٠٦ ) ، وضعت أمام الأخوين ( الشفيع عبد العزيز ) مدير البرامج ، و المخرج مجدي عوض صديق ، مقترحاً بأن نسند الى ( السر قدور ) برنامجا في رمضان ، والذي كان على الأبواب ، إذ تبقى له ثلاثة أشهر ..
و اقترحت عليهما أن نستعين بعدد من المطربين ، حددتهم ، ونقوم بتوظيف قدرات ( السر قدور ) في ( السرد ) و( الحَكِي ) للتوثيق لمسيرة الأغنية السودانية ) ..
و دعوته فلبَّى ..
و جاء يملؤه الحماس والتصميم ..
فكان برنامج ( أغاني و أغاني ) ..
وهو الإسم الذي أوحى به ( الشفيع عبدالعزيز ) ..
ونزولاً عند تخوف البعض ، من انفراط عقد الحوار ، فقد استقر تقديرنا على أن نعهد بالتقديم للمذيعة ( نسرين سوركتي ) ، وبالرغم من أدائها المتميز كعادتها ، إلا أن ( السر قدور ) قد طغى بحضوره المدهش ، و سُطُوعِه المُبْهِر ، بصورة جعلتنا نُسارِع إلى أن نَعْهَد بالقوس لبارِيها ، في النسخة الثانية ..
و كان أن وقع اختيارنا على أصواتٍ قوية وندية ، لها حلاوة و بها عذوبة ، استطاعت أن تُطَوِّع الصعب من اختيارات ( السر قدور ) لأغانٍ تعكس عطاء عباقرةٍ ، في نظم الكلام وتجويد الأداء و صوغ الألحان ، من لَدُن سرور وكرومة و الأمين برهان ..
و نحن السودانيين ، يستهوينا و يهزنا الغناء الجماعي ، فهو روح تراثنا ،
و ذوب وجداننا ، و حداء مباهجنا وذَهَاب الأحزان ..
فكان ( جمال فرفور ) و ( عاصم البنا )
و ( عصام محمد نور ) و ( نادر خضر )
و ( أسرار بابكر ) ، التي اختطفها الزواج ، ومن ثم غادرت ( السودان ) ، والبرنامج لايزال غَضَّاً ، مخلفةً وراءها صدىً مابَرِح يُلامس الأسماعَ
و الوجدان ..
و خَلَفَ من بعدها خالِفاتٌ ، ذوات طلْعٍ نَضِيد ، جَعلْنَّ للغناء طعماً ، تسكن إليه النفوس . و لا زلنَّ ( يتسلْطَّنَّ ) و( يُكْرِمْنَنَا ) و( يُنصِفْنَنَا ) ، بروائع تجعل خلاياك تتجدد ، مع كلِ نغمةٍ و تَرْجِيعٍ لِمُنسَابِ الألحان ..
و لقد جرى العُرف ، على أن نَضُّخَ في البرنامج كل عامٍ دماءً جديدة ، مما أكسبه تنوعاً ، و وفر له قَدْرَاً من المُجَايَلة ، و أطلق عقيرة التنافس والتباري المحمود ، بين كل فَنانةٍ
و فنان ..
زحمةٌ و تنوع أصواتٍ تُحَرِّكُ الأبدان ..
أصواتٌ ( ذكورية ) ، ذات ترددات منخفضة ، تتقافز ما بين( الباس )
و ( الباريتون ) و ( التينور) ..
و أصواتٌ ( أنثوية ) ، ذات ترددات عالية ، تركُضُ مابين ( الآلتو ) و( الميزو سوبرانو ) و ( السوبرانو ) ..
و كل صوتٍ رنانٍ و ريَّان ..
ظلوا ، وظَلَلْنَّ ..
( كألوان الزهور زانت بعضَها
وأصبح بعضُها يُنَافِسُ بعضَها ) .
يجلسون إليه ..
و يجلسنَّ إليه في نشوةٍ تُنْبِئ عنها الأيدي و الأرْدَان ..
ومن خلفهم جموع المشاهدين ، من
كل ِ فجٍ و مكان ..
و ( قدور ) يتدفق في سلاسة و عذوبة ،
و ببساطة و تلقائية و ثقةٍ بالنفس مكتملة الأركان ..
و أخذ يتجلى عاماً بعد عام ..
كاشفاً عن عبقرية فذة ، لا تُبارى
و لاتُجارى .
و عن روح شابة ، تضج بالحيوية والنشوة العارمة .
و عن عاطفة متأججة تشِعُ بالحبِ
والمسرات .
إنه أشبه بالوَتَر الذي ينساب عذوبة ودفءً و همساً حميماً ، عند كل طَرقَةٍ ولمسة ..
وهو ماتنبض به كل أشعاره ، التي ولدت وهي أغانٍ مُنَغَمة و مُنَمَقة و مُمَوسَقة ،
سكب فيها أنضر العواطف ، و أرق المشاعر ، و أنبل ما يعتاد النُفُوسَ ، من ولَهٍ و هُيَامٍ و تَعَلُّقٍ و سُمُو ..
( ياحبيبي نحن اتلا قينا مرة
في خيالي و في شعوري ألف مرة ) ..
و ( الشوق و الريد
والحب البان في لمسة إيد ) ..
و ( دي زي القمر
و الله أحلى من القمر
يا حلوة ياست البنات
يا متعة للروح والنظر ) ..
و ( حنيني إليك و ليل الغُرْبَة أضناني
و طيف ذكراك بدمع القلب أبكاني
و أقول ياريت زماني الفات يعود تاني
و القاك حبيب عمري و تلقاني ) ..
و عشرات من فَرَائد القصائد ..
و فوق أنه شاعرٌ مديد الباعِ في فنون الإبداعِ و الإمتاع ..
فهو مؤرخ موسوعي ..
و صحفي مطبوع ..
و متحدث طَلِق ..
و كاتب مسرحي ..
و ممثل مجيد ..
و مؤدٍ بارع ..
و كل نَتَاج هذه الأحاسيس المشبوبة ، والمعارف المتراكمة ، قد سكبها في برنامج ( أغاني وأغاني ) ..
البرنامج ، الذي يستغرق إعداده الأشهر الثلاثة التي تسبق رمضان ، و يتم خلالها تبادل الموضوعات ، مع الأستاذ ( السر ) قبل حضوره ، و نقوم نحن فريق العمل باختيار المشاركين من المطربين ، وفق حيثيات تقتضيها طبيعة البرنامج ، والموضوعات المطروحة ، و طرائق الأداء و تنوعها ..
و ينخرط ( يس غلام ) بجسمه المَنْحُول في تصميم الديكور ، في أنضر تصميم وأبهى صورة ، ليقوم المعلم ( تميم ) بتنفيذه على الوجه المعهود ..
ومن ثم يبدع الفكي ( أبوبكر سرور )
و هو يُهيئ المكان بألوانٍ زاهيةٍ
و ظِلالٍ موحية ليجعل كل ما هناك يسبح في الضياء ..
ولما كان عصب الغناء و الموسيقى ،
هو ( الصوت ) ، هنا يأتي دور الدينمو ( مبارك أحمد المبارك ) بلمساته التي تجعل الغناء ينساب إلى الأذن في نقاءٍ وصفاء ..
و ( مبارك ) من خلال إنفعالاته و حركته التي لا تهدأ ، تستطيع أن تحكم على الأداء ، إن كان جيداً أو دون ذلك ، فهو فنان من أسرة تعشق الفن و تهواه ..
و أذكر أثناء فترة عملي بتلفزيون السودان ، و أنا أقف عصراً في ( الحوش ) ، إذ بموظف الاستقبال يأتيني مُصْطحِبًا الفنان الرقيق ( عبد العزيز المبارك ) الذي قال لي بعد السلام : ( يا أبوعلي ، أنا جيت اليوم بطائرة خاصة مع ( صلاح إدريس ) ، وراجعين طوالي ، ومن هناك أنا جايي قاصدك في خدمة ، تنقل لَيَّ ولدنا ( مبارك أحمد المبارك ) من الإذاعة للتلفزيون ، و هو شاطر جداً في الصوت وجَدَع ، فقلت له : ( اعتبر الموضوع منتهي ، و خلي يجيني بكره ) ..
و تمضي العملية الإنتاجية مُنْسَابَةً ، تحت ترتيب و سمع و بصر و ذائقة ، المُخْرِجين العَلَمَين ( مجدي عوض صديق ) و الوجيه ( أيمن بخيت ) ..
و من قبل و في الأثناء ، يتولى الأستاذ ( الشفيع عبد العزيز ) كِبَر الإعداد ، بما أوتي من إلمام واسع بالغناء و فنونه
و فنانيهِ ، فكان خير مُعينٍ للأستاذ
(السر قدور ) ، علاوة على أن حضوره كان يُشِيع أجواءً من الثقة و السكينة في أوساط المشاركين ..
و عندما آل الأمر إلى الأخ الأصغر
( عمار شيلا ) ، أبدى من النشاط
و الحماس و الاغتباط للبرنامج ،
ما جعله يحافظ على ريادته و توهجه ،
في ظروف بالغة التعقيد ، شديدة الحساسية ، فإذا رضي عنك معاوية غضِب ( عثمان ) ، و إذا أَسْعَدتَ ( ليلى ) هَجَرَتْكَ ( بَلقِيسُ ) ..
و ( عمار ) كان قريباً من ( السر قدور ) ،
و هو يقضي المرحلة الجامعية بمصر ،
و ينتسب إلى( صحيفة الخرطوم ) ، في وقتٍ مبكر من عمره ، لينعم بمعية ، ( السر قدور ) و صحفيين عِظام ، يتقدمهم شاعر زاد الشجون ..
( مافي عِيشة بلاك بتبقى
و مافي نشوة و مافي ريد
ده الهوى الجنبك عرفتو
عاطفة مُلتهبة و جنون
وين حنهرُب منو وين !!)
الجميل ( فضل لله محمد ) ..
و هكذا تمضي الأمور ..
فكل من ضمتهم ( القناة ) ظلوا يُسهمون بنصيب مشهود و مقدر ، لإنجاح هذا البرنامج ..
و لم يكن التخصيص فيما سبق ، إلا إشارة مني إلى البعض ، الذين هم جزء من كلٍ كالبنيانِ المرصوص يَشُّد بعْضُهُ بعضاً ..
و قبل شهرين تقريباً ، يحل بيننا (السر قدور ) ، و كان مجرد ظهوره يُؤذِّن بقدوم شهر ( رمضان المعظم ) ، و مرة كنت مع جمع نتناول طعام العشاء ، بدعوة من الراحل الفريق ( محمد ميرغني ) وبمجرد أن ظهر ( السر قدور ) ، و كان أحد المدعوين ، صاحت إحداهُنَّ : ( الراجل ده مما أشوفو أذَّكر رمضان ، هو رمضان قرَّب ؟ ) ..
و يشرع في قيادة ( البروفات ) ، بحضور المطربين ، مع كوكبة من أمهر العازفين والموسيقيين ، الذين وقع عليهم الاختيار ، و التي تستغرق ثلاثة أسابيع ، تنقص أو تزيد ..
و في هذا الأثناء يوقف وقته وجهده للبرنامج إلا من بعض الزيارات و لقاء
بعض الأثيرين إلى نفسه ، و على رأسهم الراحل الإمام ( الصادق المهدي ) و إبنه اللواء ( عبدالرحمن ) ، و السيد ( مبارك الفاضل ) . ويغشى الأستاذ ( فيصل محمد صالح ) الذي كان يبدي من المحبة له والحفاوة به ماكنت شاهداً على طرفٍ منه ، وشيخ العرب دكتور ( أحمد بلال عثمان ) ، الذي أفاض علينا كثيراً من دعمه ومؤازرته للبرنامج أثناء توليه وزارة الإعلام ، و( أحمد محمد البشير) ، والأستاذ ( عبدالعظيم عوض ) ، لتسجيل حلقات للإذاعة السودانية .
و كان حبه للإذاعة جمَّاً و هو ما ترجمته في نعيها المُوجِع الإذاعية المُعَتَّقة ( محاسن سيف الدين ) .
و يذكر كثيراً صديقه ( بكري النعيم ) ،
والسفير الأديب الدكتور ( عبدالمحمود عبدالحليم ) ، والأمير ( جمال عنقره ) ، و الوَدُودين ( عبدالمنعم عبد الرحمن ) و ( محمد زكي ) ، الذي طلب منه في رسالة صوتية قبل وفاته بأيام أن يجهز له عِمَّة أنصارية بعَزَبَة و قال : ( عَزَبَة يعني عزبة ما ضَنَب كَدِيس ، عايز أصَّور بيها صورة مهمة ) .
و كان يُبادل ( وجدي ميرغني ) المحبة عرفاناً ، وهو يستوصي به و يُوصينا عليه
و يُوالي السؤال عنه .
وأكيد الفنان الفخيم ( كمال ترباس ) ، الذي كان كثير الثناء عليه ، مبدياً إعجابه بأدائه الفريد ، و قد تغنى له بعشر أغنيات أو يزيد ، و كل أغنية تفوق الأخرى سحراً وروعة ..
( لو كان حبيبي أباح
واعلن هواه صراح
كان الفؤاد ارتاح
وانا كنت ليهو مشيت ) ..
و ليته أباح ..
و عندما يُطْلِق تحيته المألوفة ..
( مرحباً بكم على شاطئ النيل السعيد )
و يصدح المشاركون ..
( ليالي لقانا جميلة
كانت كانت ياسلام
أفراح و سحر و أغاني
و الدنيا منى و أحلام ) ..
و حتى المُنتهى ..
( إن تريدي ياليالي تسعدينا
تجمعينا كما كنا ماتلمي زول علينا ) ..
كانت تتجلى عبقريته
إذ يبدأ في التوهج
و الاشتعال الوجداني
و الاشعاع المَعْرِفي و العِرفاني ..
فيرسل نفسه على سجيتها ، فلا تأخذ عليه تَصَنُّعاً أو تَكَلُّفاً أو اعْتِسافاً ..
يحكي عن تجارب الأولين ، و ما أحدثوه من تطور في مسيرة الأغنية السودانية ، فينقلك إلى عالمهم أو يحملهم إليك ، فتراهم و تحسهم و تخالطهم ، وتعرف كيف كانوا يَنظمون الكلام وتحت أي تاثير ، وكيف كانو ينْحِتون الألحان ويُلوِنونها ، و كيف كانوا يُؤدُّون ، و كيف كانوا يَطرَبون و يُطرِبون .
و يمضى يَنْفُث في وعي هذا الجيل ،
ما كاد يندرس ، من روائع نظمها رائعون متواضعون أخفياء ، لم ينالوا حظهم
من الحفاوة و التقدير ، بما يكافئ عطاءهم ..
فهذا شاعر فذٌ ، نظم عملاً واحداً ، لو وُزِن بمائة لوزنها ، و يَذْكُر فُلاناً ، وفُلاناً ..
و ذاك شاعر أجاد الوصف ، حتى تحسب أن الموصوف شاخصٌ أمامك ببهائه
و ألقه ، و يعددهم و هم كُثُر ..
و آخر نظم شعراً ، استحال غناءً يُحْيِّي موات القلوب و يسمو بالأرواح ، وهؤلاء لا أكاد أحصيهم عدَّا لكثرة من ذكر ..
و ذكر في من ذكر ..
( حِمَّيدة أبوعشر ) ، الذي امتهن النِجَارَةَ بمدرسة ( حنتوب الثانوية ) ..
إذ أن سيرته كادت أن تندثر ..
و هو من كتب بنبض الجَنان ، قصائد تُشْجِيكَ و تُضْنيكَ و تَرْوِيك حتى تتضلع ارتواءً و تكاد تنفطر و تنشطر ..
( حَكَمَ الغرام بِتَذَلُلِي
و حكم الجمال بِتَدَلُلَكْ
الاشتياق و الاحتراق و الوَجْد لي
و الابتسام والانسجام و الحُسْن لك
عجباً تكون قاسي و وديع
على كل حال شكلك بديع
و غضبك جميل زي بسمتك )
و يُرْمِضُهُ التحسر ..
( ظلموني الأحبة في شَرْع المحبة )
و يُلَوَّح مُودعاً بفؤادٍ نازف ..
( وداعاً روضتي الغناء
وداعاً معبدي القدسي
طويت الماضي في قلبي
و عشت على صدى الذكرى )
ويمضي وحيداً يملؤه العَشَم ..
( يا مسافر براك شَاقِي المَفَازَة بِليل
لي أب قلباً طِراك أهداك المحبة دليل )
و على ذلك فقِس و ادَّكِر ..
و عندما يريد ( قدور ) توصيل فن الأداء في صورته التي نشأ عليها ،
يشدو بصوت غَنِيِّ النبرات ، و كأنه
( ابن أربعين ) يمتهن الغناء و يُلازِمُه ،
وإن كنتَ تجد إلى جانبه ( ابن الثلاثين ) ، وهو يعجز عن مجاراته
ومحاكاته و مسايرته صعوداً و نزولاً
وتَمَّدُداً و تَطْرِيباً ..
ويطلق ضحكته المُدوية ، و التي تأتي مُفْعَمَةً و مُعَبِرةً عن مخزونٍ هائلٍ من الشجِن و الانبساط ، و الانعتاق من مُسَببات الكَدَر و مُنَغِّصات البَشّر ..
و يُلاطِفُ هذا ، و يُداعِبُ تلك ، و يثني على أولئك ، و يُمازِح ( عوض أحمودي ) ، و يقف محيياً و مُشِيِداً ، وهو يُطلق عبارات التقريظ التي اختص بها ، و عندما لا يُعجبه قول أو فعل أو أداء ، يثورُ ( أيه ده ، أيه ده ) ، و لكنه سرعان ما يعود إلى سابق هدوئه
و رزانته و تألقه ..
و يمضي بذاكرة متقدة ..
حكاية ورا حكاية ..
و رواية تسبقها رواية ..
وقصة تتبعها قصة من أندر القَصَص ..
حتى إن البعض أخذ يتشكك في بعض مايقول ، فنَقَلتُ له مرة ذلك ، إذ قلت : ( ياعم السر فلان ، وسميته له ، كتب متهماً أنك تُورِد بعض المعلومات غير الصحيحة ) ، فرد : ( يعني عايزني أتكلم تلاتين يوم ، وما أغلط !! ) ..
إن كل هذا التجليات ، عندما تنتقل إليك
من خلال ( الشاشة ) ، تجد في خيالك وذهنك و روحك و دمك ، ما يشدك إلي ( السر قدور ) ليفرض تأثيره عليك وخضوعك له ..
و هي متابعةٌ مَلهُوفةٌ ، تجعل البعض يضيق بما يتخلل البرنامج من ( رعاية ) و ( إعلانات ) ، والتي لولاها لما استمتع أحدٌ بهذا الانتاج المكلف ، فهي زاد المسير و زيت القنديل ..
كنا نسعى ، لمقابلة متطلبات البرنامج ، بكل ما أوتينا من حرص ، لجذب ( الإعلان ) في وقت كان يعزُّ فيه ، لتواضع صناعته ، ولعدم الاقتناع بجدواه ، إلا أن البرنامج ، شيئاً فشيئاً ، أخذ يجتذب المعلنين ، إلى أن وصل الحال إلى ماهو عليه اليوم ، من إقبالٍ وتَزَاحُمٍ بالمناكب ..
و كانت الرعاية من نصيب ( سوداني ) لسنين عدداً ، وذات مساءٍ ، و البرنامج قد اكتمل إعداده ، و أنا في طريقي إلى ( بُري ) عابراً ( شارع الجمهورية ) ،
بمحازاة منزل الراحل ( جعفر سيد
أحمد قريش ) ، إتصل بي أحدهم من ( سوداني ) ، ليبلغني عن اعتذارهم عن الرعاية ، فانتحيت جانباً من الطريق ، وأَسْنَدْتُ يَدايَّ على مِقْوَدِ العربة ووضعت بينهما وجهي مغمض العينين لدقائق ، ثم عدت أدراجي ..
وبعد يوم زفَّ إليَّ المحبوب ( مالك جعفر ) رغبة ( Mtn ) في رعاية البرنامج و التي تولى متابعتها من بعد ذلك الأخ ( ياسر أبوشمال ، هلا ٩٦ ) ، فانجبر الكسر بأعجل مايكون ..
و بعد سنوات و أنا في جدة ، وقبل أربعة أيام من رمضان أخبرني ، صديق أن مدير ( Mtn ) أعلن قبل قليل ، في قاعة الصداقة ، أن المبالغ المخصصة للرعاية في رمضان ستوجه للمسؤولية المجتمعية ، و لم يكونوا يرعون غير ( أغاني و أغاني ) ..
لقد غمني هذا النبأ غاية الغم ، وأمَضَّنِي ..
إنها قوارع قاتلة ، تأتيك في وقت قاتل ،
تكاد كل واحدة منها تصيبك ( بجلطة ) .
و لكن بعد أقل من ساعة هاتفني الفريق طيار ( الفاتح عروة ) ، و بعد ضحكة مُمتدة ، أراحت أعصابي قليلاً ، قال لي : ( زمااان قلنا ليك أدينا الرعاية ، قلت مابتبيع الجماعة ، أها باعوك ، لكن نحن في ( زين ) معاك و جاهزين للرعاية ، و دعم هذا البرنامج الذي يلتف حوله السودانيون ) ..
و ( عروة ) للذين لا يعرفونه ، زول ( حارَّة ) ، و بتلقاهو في ( الحارَّة ) إلى جانبك إن لم يكن أمامك ..
و مضت الأمور على نحوٍ قاصد ..
هناك قارعة أخرى كان وقعها عليَّ أشَدَّ مَضَاضَة من وقع الحُسامِ المُهَنَّدِ ، وهي قرار إيقاف البرنامج ..
و سأذكرها ..
و لكن قبل ذلك ، أقف عند وصفٍ جامعٍ مانعٍ ، وصف به ( السرَ ) شقيقُهُ الفريق ( عمر قدور ) ، وهو أنه عاش حياتَه بطريقته و كما يُحِبُّ ) ..
و بهذا شهد عليه أيضاً صديقه المرهف ( الفاتح حمدتو ) ، شاعر ..
( بلمسة شوق
و طيب خاطر
حلاوة الريدة في الآخر
تظلل بالسماحة الفِيْك
عيون الدنيا ياساحر ) ..
و فعلا ً..
عاش حياته كما يُحب و بطريقته ..
و على كيفو ..
و قلبه مُعَلَق بجناح النسايم ..
لم تجرفه عن أشواقه و رغائبه ، طوارئ الزمان و تغير المكان و تقلبات الأحوال ،
و أضواء الاشتهار و النجومية ..
لذلك منذ أن بدأ رحلته معنا ، ظل على حال لا يحيد عنه و لا يميل ..
لقد بدا لي وأنا أرْقَبُهُ ، متحرراً من كل ثِقَل و قيدٍ وخُضُوعٍ و انقياد ..
حُرٌ ..
أبِيٌّ ..
معتدل المِزاج ..
شخصٌ فيه أشخاص ،
و في شَخْصِهِ تحترم أشخاص ..
يحافظ على هيأةٍ واحدةٍ ، و سَمْتٍ واحد ، فيجلس الجِلسة ذاتها ، واضعاً رجلاً على رجل ، و عصاه إلى جانبه أو متكئاً عليها ..
يأتي إلى الأستديو بعد العاشرة ، ويغادره حوالي الرابعة ، و في هذا الأثناء لا يبرح مقعده إلا مرة واحدة ، أو بالأكثر مرتين ..
طيلة هذه الفترة لا يُدْخِل في جوفه سوى القهوة التي يُكْثِر من رشْفِها ..
لا يهتم بالتفاصيل كثيراً ، فمرة اقتربت منه ، قبل أن يُنادي المخرج ، إيذاناً ببدء الحلقة ، و قلت له : ( عم السر كدي خليني أصلح ليك الكرفتة دي ) ، فاشاح عني بوجهه قائلاً : ( خليها كده ، لو صلحتها ده ما أنا السر قدور ) ..
يستجيب لرجاءاتنا في بعض الأحيان ، فمثلاً عندما كان يُصِّر على بعض الشباب أن يتقيدوا بالأداء ، كيَوْمِ وَلِدَتهُ أُمُّه ، كنت أطلب منه أن يتجاوز عن ذلك ، ويدَعَهُم يؤدون بطريقتهم التي ألِفوها ، فكان يستجيب ..
يأتي تُلازِمُه إبنتُهُ ( زينب ) ، و واحدة من أخواتها الثلاث ( ثريا ، نبيلة ، أمل ) ، وكان يُبْدِي من الحميمية نحوهن مايُليِّن الصخر ، ويجعل اليابس أخضراً ..
( البنات مهما اتجملوا
زي جمالِك ما بلحقوا
الله مِنِك يازينبو
الله مِنِك يازينبو ) ..
و من خلفهم ، من على البعد ، زوجته الوفية ، تلك المرأة التي لم تعتقله في ( مصريتها ) ، بل مدت له في ( سودانيته ) مدَّا ، و حفظته لنا بنكهته
و بياض سريرته و استقامة لسانه ..
منذ أول حلقة ، و إلى أن غادرتُ القناة ، لم يشترط مبلغاً بعينه ، أو توقيع عقدٍ معه يحفظ حقوقه ، بل كان يرضى بما نقسمه له ، و أذكر مرة ، و نحن جلوس في مكتبي ، قال لي أحد الفنانين : ( ياحسن قروشكم شوية ) ، فرد عليه ( قدور ) : ( ما تقول كده ، البرنامج ده فضله علينا كبير ، و بنلَّقِط بيهو السنة كلها ) ..
وكان ..
و كان ..
و للذين لايزالون يتابعونني أُفْضِي إليهم ، بماهو معلومٌ بالضرورة ، وهو أن البرنامج كان دائماً في مرمى النواسِف
و العواصِفِ و القواصِف ..
و من ذلك ..
كان البعض يسعى لإيقافه ، عبر استصدار قرار يأتي من عَلٍ ..
و في عهد شاعر ( رجعنالك ) ..
( رجعنالك عشان تاه الفرح من دارنا
رجعنالك وانت ديار فرحنا ) ..
( عبدالباسط سبدرات ) ..
كان يُمَثِّل حائط صدٍ للهجمات المتتالية ، التي تستهدف ( البرنامج ) بمواقف مشهودة و مقدرة ..
و ( سبدرات ) كعهده دائماً ، عندما يَحزِبُك أمرٌ ، و تلوذ به ، لا يَخْزِلُك ، وتجده يقترب منك ، و يخاطبك بوُدٍ يُريحُك ، و هو يأخذ بيدك : ( يا مولانا الموضوع كده وكده فما تجزع وما تشيل هم ) ..
و جاء الدكتور ( كمال عبيد ) ..
و لم يكن مقتنعاً بأدائي ، و يَصِفُنِي
بقوة الراس و الاكثار من الغناء في ( القناة ) ، و يوماً قرر إزاحتي ، و كلف صديقي دكتور ( عبدالماجد هارون )
باستلام القناة ، و لم أكن أعلم بذلك ، فجاءني ( عبدالماجد ) قَلِقاً و منزعجاً
و غير سعيد ، ليستجلي حقيقة الأمر ، فعَجِلت إلى الأستاذ ( محمد حاتم ) ،
وحمَّلْتهُ استقالتي ، ولكن حدث بعد ذلك ما أبقى عليَّ ..
ليس هذا هو الموضوع ..
دُعِيتُ يوماً لاجتماعٍ بمكتب الوزير ( كمال ) ، وكنا على وشك أن نُنْهِي تسجيل حلقات ( البرنامج ) .
وجدت عدداً من مديري الإذاعات المسموعة و المرئية ، لنستمع للوزير ( كمال ) و هو يطيل الحديث عن الغناء في رمضان ، فأخذ قلبي يخفق ،
وازدادت وتِيرَةُ خَفَقَانِه ، عندما توقف طويلاً عند الغناء بعد الإفطار ..
لقد بدا لي جَلِيَّاً أن المستهدف بكل هذه ( المُرافعة ) الطويلة هو ( برنامج
أغاني و أغاني ) ، وليس سواه ..
و قد كان ، إذ سرعان ما وجه بإيقافه تماماً ..
و بعد أن تفشى الخبر ، انطلقت حملة عارمة مساندة للبرنامج ، ابتدرها الأستاذ ( مصطفى أبوالعزائم ) ، وتبعه فيها كثيرون ، إلا أن الرفض ظل سيد الموقف ، حتى ليلة الأول من رمضان ،
و بسعي مقدر من دكتور ( محمد مختار حسين ) و الذي كان يَتَنَقَل عبر الهاتف بيني و بين دكتور ( كمال ) و قد يكون هناك طرف ثالث ، لا أدري ..
و قبل أن ينتصف الليل ، جاءني بإفراج مشروط ، و هو أن يبث البرنامج عند العاشرة مساءً ، ولم يكن أمامي غير أن أوافق ، فشيءٌ أفضل من لا شيء ..
و ( كمال عبيد ) كان محل تقديري ،
فهو عالِمٌ و ورِعٌ و زاهدٌ و متحدثٌ زَلِق اللسان ، لا تملك إلا أن تحترمه و تُجِلُهُ حتى لو كان رأيه فيك سالباً ..
و في العام الذي تلا ، عاد البرنامج إلى سابق توقيته ..
و واصل أستاذنا ( السر قدور ) رحلة الإبداع والتألق حتى طال النسخة ( السادسة عشر ) ، بعدد أربعمائة وثلاثين حلقةً ، و متوسط ( خمس ) أغاني في الحلقة ..
هذا ( البرنامج ) ، الذي أقبل عليه من هم بالديار ..
و هفَت إليه أسماع من نأت بهم الأسفار فيما وراء البحار ..
و قد بلغ صِيتُه دول الجوار ..
و كثيراً ما كان يحدثني السفيران ( عبدالله الشيخ ) و ( الدكتور عبدالعزيز حسن صالح ) ، وقد عمِلا في تشاد ، عن المتابعة الكثيفة التي يحظى بها البرنامج هناك ، من الرئيس وزوجته ، وكثرة غالبة من التشاديين ..
و أصبح يُعد من أكثر البرامج ثراءً وأطولها عمراً و أعلاها رُتبةً ، مخلفاً للأجيال القادمة ، ( مَنْجَماً ) ، يحوي أمتع وأروع وأبدع ، ما حَفلت به مسيرة الغناء في السودان ، و مخلداً لسيرة ( رجل ) غادر الدنيا ، تاركًا وراءه ، في كل قلبٍ تِذْكار ، و في كل نفس فيضاً من جمالٍ مِدْرَار ..
إنه ( السر أحمد قدور ) ..
فيااابني السودان
هذا رمز من رموزكم الزواهر
من طينتكم
و بلون غالب بِشْرَتِكم
و بطعم أحلامكم
و برائحة ما تشتهي نفوسكم
و بجمال ما تنطوي عليه جوانحكم
يُقهْقِهُ كما تُقَهقهون
و يعشق كما تعشقون
و ينعل ( أبو خاش ) الذين يتطاولون
عبَّر عنكم بلسان مبين
و عاش بينكم بقلب سليم
و غرس في ربوعكم الحب و الحنان
و رفع ذكركم عالياً ..
( أنا أفريقي أنا سوداني
أرض الخير مكاني
بلد النور و العزة مكاني
أرض جدودي جباهم عالية
مُواكب ما بتتراجع تاني
أقيف قدامه واقول للدنيا أنا سوداني ) ..
فاذكروه بكل خير
و ادعوا الله أن يغفر له و يرحمه
إنه إذ يشاء قدير ..
و أن يجعل البركة في عزيزنا الأديب الراسي الراوي ( مصعب الصاوي ) ..
و يااا أخي ( هيثم التهامي ) ..
ها أنذا أستجيب لندائك في الكتابة عن ( السر قدور ) ، و لكن يُقَّدِر الله أن يأتي ذلك بعد مغادرته الدنيا ..
و هي محاولة متواضعة ، تمثل جهد مُقِلٍ ، نابَهُ الفقدُ ، و الذي ليس هو فقد رجل فحسب ، بقدر ما هو رحيلُ عَلَمٍ وهبه الله عمراً طويلاً و عريضاً ، فظل قائماً و مِعْطَاءً و مُضِيئاً ، إلى أن لَقِيَّ ربَه ..
وياااا ( السر قدور ) ..
حاولت أكتب عنك و أصور الاحساس
و أقول فيك كلام زي النجوم و الماس
و لكن ، آآآه تعبت ..
تعبت ألقا كلام ماسمعوا بيهو الناس
و سبت الكلام و مشيت
و أقول ياريت
أقول ياريييييييت
بأوجع و أحرَّ مما يُنْشِدُ ( ترباس )
ياريت ياريت ياريت ..
حفظ الله زماناً أطلعك
و وطناً أنبتك ..
و السلام ..
أم درمان … الثاني من مايو / ٢٠٢٢