
الحروب في جوهرها ليست صراعًا على الأرض والموارد فحسب، و هي ليست مجرد معارك تحسم بالرصاص و المدافع، بل تعتبر اختبارًا و امتحانًا حاسمًا و عميقًا لمنظومة القيم التي تحكم سلوك الدول والجماعات المتحاربة و تحفظ للإنسان مكانته و كرامته. وإذا كانت بعض الحروب قد أعلت من شأن الإنسان بوصفه جوهر الصراع وهدفه الأسمى، فإن الحرب في السودان جاءت لتكشف مأزقًا حضاريًا وأخلاقيًا خطيرًا وقعت فيه مليشيا الدعم السريع و داعميها و مؤيديها و المتعاطفين معها؛ إذ انهارت في هذه الحرب لدى المليشيا معايير الإنسانية، وتبدد مفهوم الكرامة، وأصبح الإنسان السوداني وفق سلوك المليشيا في مناطق النزاع؛ مجرد رقم في إحصاءات القتل والتهجير، أو ضحية للنهب والاغتصاب والإذلال.
قيمة الإنسان وقيمة الحياة
الإنسان هو جوهر عمران الارض، و هو حجر الأساس في بناء الحضارات، وكرامته هي المعيار الذي يُقاس به رُقي الأمم وتحضرها؛ وهي اساس أي مجتمعٍ راقٍ. فقد خلقه الله في أحسن تقويم، وفضّله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلًا، وأضفى على حياته قداسة لا يجوز المساس بها. فجعل حفظ النفس البشرية من المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، إلى جانب حفظ الدين والعقل والنسل والمال. وجاء القرآن صريحًا: “من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا” [المائدة: 32]، ليؤكد أن الاعتداء على حياة إنسان واحد يُعد جريمة في حق الإنسانية جمعاء.
ولم يكن الفكر الإنساني بعيدًا عن هذا الجوهر؛ فالفلسفات القديمة منذ الإغريق، مرورًا بعصر النهضة الأوروبية، وصولًا إلى الثورة الفرنسية، وضعت حرية الإنسان وحقه في الحياة في مقدمة القيم التي لا يجوز المساس بها. ومع تطور المنظومة القانونية الدولية، جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948م) ليؤكد أن “لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه”، ثم تتابعت المواثيق مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية واتفاقيات جنيف، لتضع حماية المدنيين وتجريم القتل خارج القانون والاعتداء على الأبرياء كقواعد قطعية غير قابلة للتجاوز.
لكن المأساة تكمن في أن هذه المبادئ السامية، سواء استمدت من الشرع أو من القانون الوضعي، لا تزال غريبة وبعيدة عن واقع الحرب في السودان. فقد أظهرت ممارسات مليشيا الدعم السريع وحواضنها الاجتماعية والسياسية ثقافة مناقضة تمامًا لفكرة قدسية الحياة الإنسانية؛ حيث أصبح القتل فعلًا عاديًا، والموت استسهالًا، والانتهاك قاعدة يومية، وكأن الإنسان السوداني لا قيمة له إلا بقدر ما يُستغل جسده أو ممتلكاته في مشروع الحرب والنهب.
ثقافة الاستهانة بالموت والقتل
تقوم ممارسات الدعم السريع على ثقافة استسهال الموت، والاستخفاف بقدسية الحياة، واستباحة القتل لأتفه الأسباب. لم يكن القتل عندهم نتيجة اضطرار عسكري، بل صار قاعدةً اساسيةً و نهجًا يوميًا، من اغتيال المدنيين العزل، إلى ملاحقة الناس على أساس عرقي أو جهوي، وصولًا إلى تنفيذ إعدامات ميدانية بلا محاكمات.
من أخطر ما كشفت عنه الحرب في السودان أن مليشيا الدعم السريع لا تنظر إلى الموت باعتباره آخر حدود الوجود الإنساني الذي يجب صونه وحمايته، بل تتعامل معه كأداة سهلة ورخيصة لتحقيق أهدافها، وتحول عندها القتل من فعل عسكري مبرر في ساحة قتال إلى ممارسة عشوائية تفتقد أي منطق أو شرعية.
فقد تجلت هذه الثقافة عند المليشيا في صور شتى، نحصر منها مثلاً:
اغتيال المدنيين العُزَّل في الشوارع والقرى والأسواق، دون أي تمييز بين رجل وامرأة أو شيخ وطفل.
الملاحقة على أساس عرقي أو جهوي، حيث يُستهدف الأفراد لمجرد انتمائهم الإثني أو القبلي، في ممارسة تقترب من التطهير العرقي.
الإعدامات الميدانية بلا محاكمة أو حتى تهمة، حيث يُقتل الأسير أو المعتقل أمام أعين الناس لإرهاب المجتمع وإرساء سياسة الرعب.
الترويع الجماعي عبر إطلاق النار العشوائي داخل الأحياء السكنية، أو اقتحام البيوت بقوة السلاح، وكأن حياة الإنسان لا وزن لها.
النهب المقرون بالقتل، إذ لا يكتفي المسلحون بسلب الممتلكات، بل يتركون خلفهم جثثًا، في رسالة قاسية بأن الموت هو الثمن الطبيعي لأي اعتراض.
إن هذه الممارسات ليست مجرد تجاوزات فردية، بل هي انعكاس لبنية فكرية واجتماعية غارقة في الاستخفاف بقدسية الحياة. فالإنسان هنا لا يُنظر إليه كغاية لها قيمة بذاتها، بل كوسيلة يمكن التخلص منها عند أول مقاومة أو رفض، وكأن قتل النفس أمر يسير لا يكلّف سوى ضغطة على الزناد.
وهكذا، تحولت ثقافة الاستهانة بالموت إلى عقيدة لدى المليشيا، تُمارَس بدم بارد، وتُغذّى بخطاب عنيف يبرر الفظائع، مما ينذر بخطر عميق على النسيج الاجتماعي السوداني ومستقبل التعايش فيه.
انتهاكات حقوق الإنسان
لقد حولت مليشيا الدعم السريع الحرب في السودان، من صراع مسلح بين قوتين، إلى مسرح لانتهاكات ممنهجة ضد الإنسان السوداني، تُرتكب بدم بارد، في استهتار كامل بالقوانين الدولية والأعراف الدينية والاجتماعية. لقد اتخذت هذه الانتهاكات أشكالًا متعددة، يمكن إجمالها في:
1) القتل الجماعي على أساس الهوية:
حيث استُهدف المدنيون على خلفيات عرقية وجهوية، وخاصة في إقليم دارفور، حيث شهدت مدن مثل الجنينة ونيالا مجازر بحق جماعات بعينها، لمجرد انتمائهم الإثني. هذا النمط من العنف يرتقي إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي يهدد وحدة السودان وتماسكه.
2) الاغتصاب كسلاح حرب:
وُثقت عشرات الحالات من الاغتصاب الجماعي والمنهجي قامت بها قوات الدعم السريع، خاصة ضد النساء والفتيات، في انتهاك صارخ لكرامة الإنسان وحرمة الجسد. هذا السلوك، الذي تجرمه القوانين الدولية ويحرمه الدين، لا يهدف فقط إلى إذلال الضحايا، بل إلى كسر المجتمع برمته بزرع الخوف والعار، وهو ما يجعل الاغتصاب من أبشع أدوات الحرب الحديثة.
3) النهب المنظم:
لم يعد النهب مجرد أفعال فردية لجنود مليشيا الدعم السريع المنفلتين، بل صار ممارسة ممنهجة، حيث اقتُحمت المنازل والمتاجر، وسُلبت المؤسسات العامة والخاصة، بما فيها المستشفيات والمدارس والمخازن. هذه الأفعال تُظهر أن الحرب ليست فقط معركة عسكرية، بل مشروع اقتصادي غير مشروع قائم على السلب والسرقة.
4) التعدي على الممتلكات وحرق القرى:
دمرت مليشيا الدعم السريع قرى بأكملها، وأُحرقت المنازل على مرأى من السكان، وأُجبر الأهالي على النزوح، تاركين وراءهم كل ما يملكون. هذه الأفعال تندرج تحت جريمة التهجير القسري التي يحظرها القانون الدولي الإنساني.
5) الاعتداء على الأسرى وتعذيبهم:
في انتهاك صارخ لقواعد الاشتباك واتفاقيات جنيف، مورست بحق الأسرى أعمال تعذيب جسدي ونفسي، بل وصلت أحيانًا إلى التصفية الجسدية الفورية. إن معاملة الأسير هي اختبار لمدى التزام أي قوة بمبادئ الحرب العادلة، والدعم السريع فشل في هذا الاختبار فشلًا ذريعًا.
6) الإبادة الجماعية:
تقارير حقوقية وشهادات شهود عيان وصفت ما جرى في بعض مناطق دارفور بأنه إبادة جماعية، من حيث النطاق الواسع للقتل، واستهداف جماعات إثنية محددة بهدف إبادتها جزئيًا أو كليًا. هذه الجريمة تُعد الأخطر في القانون الدولي، وتستوجب المساءلة أمام المحاكم الجنائية الدولية.
في قلب دارفور، تعيش مدينة الفاشر واحدة من أبشع فصول الحرب، يأتي حصار الفاشر و الذي تجاوز 500 يوم؛ ليبرز مثالًا حيًا و واقعيًا لما يتعرض له الانسان من ظلمٍ و قتلٍ و ترويع، حيث يجد المدنيون أنفسهم بين مطرقة القصف بالمدفعية والمسيرات وسندان الحصار والتجويع الممنهج. لم تعد الحياة اليومية مجرد صراع من أجل البقاء، بل تحولت إلى رحلة عذاب، إذ يُمنع الناس من الحصول على الغذاء والدواء، ويُعرّض الذين يحاولون الخروج للتعذيب والإذلال، فيما تُمارَس بحقهم محاولات تهجير قسري تذكّر بمآسي الحروب الكبرى في التاريخ. إنّ ما يحدث في الفاشر اليوم لا يمثل مجرد معركة عسكرية، بل جريمة جماعية تستهدف الإنسان السوداني في قيمته وكرامته ووجوده.
دلالة هذه الانتهاكات
إن ما يجري ليس فقط خرقًا لنصوص القانون أو تجاوزًا لأعراف الحرب، بل هو تدمير للبنية الأخلاقية والاجتماعية للمجتمع السوداني. فالقتل على الهوية يُقسم المجتمع إلى طوائف متناحرة، والاغتصاب يمزق نسيجه الأسري، والنهب يحطم اقتصاده المحلي، والتهجير يفرغ القرى والمدن من سكانها. وبذلك، تتحول الحرب إلى عملية إعادة هندسة اجتماعية مدمرة، لا تستهدف الخصوم العسكريين وحدهم، بل تستهدف كيان المجتمع نفسه.
القانون والدين توحيد الصوت
لم يكن مفهوم حماية الإنسان وحفظ كرامته حكرًا على الشريعة السماوية أو على القوانين الوضعية الحديثة، بل تلاقت المنظومتان معًا على قاعدة واحدة: أن حياة الإنسان مقدسة لا يجوز الاعتداء عليها، وأن الحرب مهما اشتدت، تظل محكومة بضوابط أخلاقية وقانونية لا يجوز تجاوزها.
1) القوانين الدولية:
نصّت اتفاقيات جنيف الأربع (1949م) وبروتوكولاتها الإضافية على حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، ومنعت بشكل صريح قتلهم أو استهدافهم أو استخدامهم كدروع بشرية.
أكدت على حرمة الممتلكات الخاصة والعامة، إلا إذا كانت ذات استخدام عسكري مباشر.
شددت على معاملة الأسرى معاملة إنسانية تحفظ كرامتهم، وتمنع التعذيب والإهانة والقتل خارج نطاق القضاء.
كما أن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998م) وضع إطارًا صارمًا يُجرّم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وفتح الباب لملاحقة مرتكبيها قضائيًا مهما كانت مناصبهم أو مواقعهم.
2) القانون الإنساني الدولي:
يقوم على مبدأ أساسي هو التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنيين. فلا يجوز مهاجمة المدنيين أو الأعيان المدنية كالمستشفيات والمدارس ودور العبادة.
يؤكد على التناسبية في استخدام القوة، بحيث لا تكون الخسائر في الأرواح أو الأضرار في الممتلكات مفرطة مقارنة بالهدف العسكري المراد تحقيقه.
يُلزم الأطراف المتحاربة بقواعد الاشتباك، فلا يجوز القتال إلا ضد المقاتلين، بينما يُستثنى المدنيون من الاستهداف المباشر.
3) الإسلام والشريعة:
جاءت النصوص القرآنية لتضع أساسًا متينًا في تكريم الإنسان: “ولقد كرمنا بني آدم” [الإسراء: 70]، فجعلت الكرامة الإنسانية حقًا أصيلًا لكل البشر دون تمييز.
وحرمت الشريعة القتل بغير حق: “من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا” [المائدة: 32]، فجعلت الاعتداء على فرد اعتداءً على البشرية كلها.
في الحروب، حدّد الإسلام قواعد صارمة، حيث أوصى النبي ﷺ الجيوش: “لا تقتلوا شيخًا فانياً، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا تهدموا بيتًا معمورًا” (رواه أحمد وأبو داود).
كما حرّم الاعتداء على الرهبان وأهل العبادة في صوامعهم، وأمر بحسن معاملة الأسرى، حتى قال تعالى: “ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا” [الإنسان: 8].
التقاء المرجعيتين
ما تكشفه هذه النصوص والتشريعات هو أن الدين والقانون يقفان في صف واحد في مواجهة جرائم الحرب. كلاهما يرفضان قتل الأبرياء، وانتهاك الأعراض، ونهب الممتلكات، وتعذيب الأسرى. وإذا كان القانون الدولي يضع إطارًا عقابيًا لمحاسبة الجناة، فإن الإسلام يضع إطارًا قيميًا وأخلاقيًا يحصّن المجتمع من الانزلاق في جرائم الحرب ابتداءً.
وبذلك، فإن الانتهاكات التي شهدها السودان على يد مليشيا الدعم السريع ليست فقط جرائم قانونية تستوجب المحاكمة، بل هي كذلك جرائم دينية وأخلاقية تهدم أسس الحضارة الإنسانية، وتتناقض مع كل ما جاء به الشرع والعقل والفطرة.
مقارنة مع التجارب الدولية
الانتهاكات التي ارتُكبت في السودان على يد مليشيا الدعم السريع، من قتل جماعي على الهوية، واغتصاب ممنهج، وتهجير قسري، ونهب منظم، ليست معزولة عن تجارب الإنسانية المؤلمة. فقد شهد العالم نماذج مشابهة:
رواندا (1994م): ارتكبت مليشيات الهوتو إبادة جماعية ضد التوتسي، حيث قُتل أكثر من 800 ألف إنسان في غضون مئة يوم، عبر ملاحقات عرقية استُخدمت فيها machetes (السواطير) كأداة للقتل الجماعي. وقد عُدّت هذه واحدة من أبشع جرائم الإبادة في القرن العشرين.
البوسنة (1992م–1995م): خلال الحرب اليوغسلافية، ارتكبت القوات الصربية والمليشيات المتحالفة معها مجازر بحق المسلمين البوشناق، أبرزها مجزرة سربرنيتسا (1995م) التي قُتل فيها أكثر من 8 آلاف رجل وصبي في أيام قليلة. كما استُخدم الاغتصاب كسلاح ممنهج ضد النساء، واعتُبر ذلك جريمة حرب موصوفة أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة.
هذه التجارب أثبتت أن المجتمع الدولي – رغم تأخره – قد تدخل لاحقًا بإنشاء محاكم خاصة، وإصدار إدانات دولية، وملاحقة الجناة. وبالتالي، فإن ما يجري في السودان اليوم لا يقل خطورة، بل يعيد إنتاج أنماط مأساوية سبق أن عُرفت وصُنفت عالميًا كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية.
إن التشابه بين ما جرى في رواندا والبوسنة وما يجري اليوم في السودان، يؤكد أن انتهاكات مليشيا الدعم السريع ليست مجرد “تجاوزات محلية”، بل هي جزء من سجل بشري مأساوي يقتضي تدخلاً دوليًا عاجلاً، ومساءلة قانونية صارمة، وإدانة أخلاقية ودينية واضحة.
مسؤولية الإدانة الدولية والمحلية
لا يكفي أن تُسجل هذه الجرائم في تقارير منظمات حقوق الإنسان، بل ينبغي أن تكون هناك إدانات واضحة وصريحة من المجتمع المحلي والإقليمي والدولي، ومن الكيانات المدنية والحقوقية. إن الصمت أو التبرير لهذه الأفعال يعني المشاركة في الجريمة. كما إن الجرائم التي ارتُكبت في الحرب السودانية لا يجوز أن تبقى مجرد أحداث موثقة في تقارير منظمات حقوق الإنسان أو في سجلات وسائل الإعلام، لأن توثيقها بلا مساءلة ولا إدانة عملية، يعني إضفاء شرعية ضمنية عليها. المسؤولية هنا جماعية ومتعددة المستويات:
1) المسؤولية المحلية:
تقع أولًا على المجتمع السوداني نفسه: الأحزاب السياسية، القيادات الدينية، النقابات المهنية، ومنظمات المجتمع المدني. الصمت عن هذه الانتهاكات أو التبرير لها بدوافع سياسية أو قبلية، يُعد مشاركة في الجريمة أو تسترًا عليها.
كما أن على النخب السودانية واجبًا أخلاقيًا في تشكيل خطاب مقاوم لهذه الانتهاكات، يحمي القيم الوطنية، ويُعلي من شأن الإنسان وكرامته فوق أي ولاء آخر.
2) المسؤولية الإقليمية:
السودان ليس معزولًا عن محيطه؛ وأي فوضى أو جرائم إبادة أو تهجير قسري ستترك آثارها على دول الجوار (لاجئين، اتجار بالبشر، فوضى أمنية).
لذلك، فإن الاتحاد الإفريقي، الإيغاد، والجامعة العربية مطالَبة بمواقف أكثر وضوحًا، لا تكتفي بالدعوات العامة لوقف القتال، بل تصل إلى إدانة واضحة وصريحة للجرائم، ودفع باتجاه آليات محاسبة إقليمية.
3) المسؤولية الدولية:
المجتمع الدولي، ممثلًا في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية، يتحمل التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا وفق مبدأ “R2P” “مبدأ مسؤولية الحماية” (Responsibility to Protect)، الذي أُقر في 2005م لحماية المدنيين من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
إن الاكتفاء بالبيانات الدبلوماسية والإحاطة الدورية لن يوقف الجرائم، بل يشجع على استمرارها. المطلوب هو إدانة سياسية واضحة، وفرض ضغوط وعقوبات على المسؤولين عنها، وصولًا إلى إحالتهم للمحاكمات الدولية.
4)المسؤولية الأخلاقية:
إن كل صوت يصمت أو يبرر، وكل مؤسسة تساوم أو تتجاهل، تتحمل نصيبًا من العار التاريخي. وكما حُوسبت القوى التي التزمت الصمت في رواندا والبوسنة، فإن التاريخ سيُدين كل من اختار الحياد في مواجهة جرائم تُرتكب بحق الأبرياء.
إن الصمت ليس حيادًا، بل مشاركة غير مباشرة في الجريمة. إن واجب الإدانة لا يقتصر على النخب أو المنظمات الدولية، بل يمتد ليشمل كل ضمير حي. والإدانة وحدها لا تكفي ما لم تُترجم إلى خطوات عملية: من توثيق منظم، إلى مساءلة قانونية، إلى ضغوط سياسية واقتصادية على الجناة. فالإفلات من العقاب هو الوقود الأخطر لاستمرار الانتهاكات.
الحلول والمعالجات
إن معالجة الانهيار المريع في قيمة الإنسان لا يمكن أن تقتصر على المحاكمات الجنائية ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات – على أهميتها – بل تحتاج إلى مشروع وطني طويل الأمد يعيد الاعتبار للإنسان السوداني بوصفه مركز التنمية وغاية الدولة. ويقوم هذا المشروع على عدة محاور مترابطة:
1) الوعي المجتمعي والضمير الجمعي:
لا بد من إطلاق برامج واسعة لنشر ثقافة الكرامة الإنسانية عبر المدارس، الجامعات، المساجد، الإعلام، ومنصات التواصل الاجتماعي.
المطلوب هو ترسيخ قناعة أن حياة الإنسان مقدسة، وأن حماية المدنيين ليست خيارًا سياسيًا، بل واجب ديني وقانوني وأخلاقي، و يبدو ذلك ممكنًا من خلال نشر ثقافة الكرامة الإنسانية عبر التعليم والإعلام والخطاب الديني، لتصبح حرمة الحياة قاعدة اجتماعية راسخة.
ينبغي تفكيك ثقافة العنف والتسليح التي تسرّبت إلى المجتمع، واستبدالها بثقافة السلم والتعايش والاحترام المتبادل.
من التجارب الملهمة، ان رواندا بعد الإبادة الجماعية (1994م)، أطلقت الدولة برامج توعية ومصالحة شاملة (Gacaca Courts) قامت على إشراك المجتمع في كشف الحقيقة وتعزيز ثقافة التسامح، مما ساعد على إعادة بناء الثقة المجتمعية.
2) التعليم والتربية:
التعليم هو السلاح الأقوى في مواجهة خطاب الكراهية والتجنيد للمليشيات.
المطلوب إصلاح المناهج التعليمية بحيث تغرس وتُنمّي العقل الناقد الرافض للانخراط في المليشيات أو التبرير للعنف، وتشجع على الحوار بدل الإقصاء، وتزرع قيم المواطنة وحقوق الإنسان بدل العصبية القبلية أو الجهوية.
كما يجب دمج التربية على حقوق الإنسان و السلام في كل مستويات العملية التعليمية، حتى ينشأ جيل يرى أن الحرية والكرامة حقوق أصيلة غير قابلة للتنازل.
في جنوب إفريقيا بعد نهاية الأبارتهايد، جرى إدخال قيم العدالة والمساواة والتنوع في المناهج الدراسية، لتعويض عقود من التمييز العنصري، مما خلق أجيالًا أكثر وعيًا بحقوقها وبقيمة التعددية.
3) التنمية الاقتصادية والاجتماعية:
جزء كبير من انخراط الشباب في المليشيات نابع من الفقر والبطالة واليأس. لذلك، فإن أي معالجة لا بد أن تشمل تنمية متوازنة توفر فرص العمل والتعليم والصحة والخدمات الأساسية. فلا بد من توفير فرص عمل للشباب ومعالجة البطالة، حتى لا يكون الانضمام للمليشيات خيارًا اقتصاديًا مغريًا.
تحقيق عدالة في توزيع الموارد بين الأقاليم لتقليص الفوارق التي تستغلها الجماعات المسلحة لإشعال النزاعات، إن هذا الأمر يُعد مفتاحًا لإزالة الاحتقان الاجتماعي الذي تستغله المليشيات لتجنيد الشباب وإرسالهم للقتال.
التنمية الريفية وتمكين المجتمعات المحلية يُعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويُشعر الناس بأن حياتهم لها قيمة.
في رواندا، بعد الحرب، ربطت الحكومة بين الوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية، فتبنت سياسات توزيع عادلة للموارد، وركزت على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، مما ساهم في استقرار المجتمع ونمو الاقتصاد بسرعة.
4) إصلاح المؤسسات الأمنية والقانونية:
بشكل عام، لا يمكن بناء احترام لحقوق الإنسان في ظل أجهزة أمنية وقانونية متهمة بالقمع أو متواطئة في الانتهاكات. لذا فإن إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والقانونية لتصبح خادمة للإنسان لا أداة لقمعه؛ يعتبر امر هام و ضروري بما يجعلها مواكبة و مستوعبة ضرورات و مطلوبات المرحلة.
المطلوب إعادة هيكلة هذه المؤسسات و مراجعة نظمها و لوائحها و قوانينها و حتى عقيدتها العسكرية و القتالية لتصبح حامية للإنسان لا أداة لترويعه. يشمل ذلك تدريب القوات النظامية على القانون الدولي الإنساني، وتضمين معايير حقوق الإنسان في عقيدتها القتالية وأدوات و سياقات عملها اليومية لضمان المامها و التزامها بمبادئ القانون الدولي الإنساني وقواعد الاشتباك.
كما يتطلب الأمر قضاءً مستقلًا قادرًا على إنفاذ العدالة ومحاسبة كل من ينتهك حقوق الإنسان، بغض النظر عن منصبه أو انتمائه.
في البوسنة بعد الحرب، كان تأسيس محكمة لاهاي الخاصة ليوغسلافيا السابقة (ICTY) خطوة مفصلية في محاسبة مرتكبي الجرائم، مما أرسى رسالة واضحة أن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
5) المصالحة الوطنية وإعادة بناء الثقة:
لا بد من برامج للمصالحة تعترف بالضحايا و تعيد الاعتبار لهم و تفتح باب المصالحة المجتمعية، وتُعلي من قيمة العدالة الانتقالية، وتمنح المجتمع فرصة لتجاوز جراح الماضي.
إن ترميم و اعادة رتق النسيج الاجتماعي الممزق ضرورة لبناء وطن متماسك، يمنع عودة ثقافة القتل والانتقام و الكراهية.
في جنوب إفريقيا، لعبت لجنة الحقيقة والمصالحة دورًا بارزًا في جمع الضحايا والجلادين على طاولة واحدة، حيث جرى كشف الحقيقة والاعتراف بالجرائم مقابل العفو، مما ساعد على تجاوز الماضي وبناء مجتمع جديد قائم على التسامح.
إن بناء مجتمع يعلي من قيمة الإنسان في السودان يتطلب معالجة جذرية متعددة الأبعاد: إصلاح الوعي، والتربية، والاقتصاد، والمؤسسات، والمصالحة الوطنية. فالمحاكمات وحدها لا تكفي إذا لم تُدعّم بمشروع شامل يعيد للإنسان مكانته كأغلى ما في هذا الوطن.
كما إن استعادة قيمة الإنسان في السودان تتطلب رؤية شاملة تتجاوز العقاب الجنائي إلى مشروع وطني يعيد بناء الوعي، ويصلح التعليم، ويحقق التنمية المتوازنة، ويعيد هيكلة المؤسسات، ويقيم مصالحة وطنية حقيقية. والتجارب الدولية – من رواندا إلى جنوب إفريقيا والبوسنة – تقدم دروسًا مهمة يمكن للسودان أن يستلهم منها طريقًا نحو مستقبل يضع الإنسان في صدارة الأولويات.
لقد أثبتت حرب السودان،أنها مقبرةً للإنسان ومحرقةً للقيم. وأن قِيمَةإنسان هذا البلد و قِيَمَهُ أصبح آخر ما يُفكر فيها و يُراعى لها في حسابات المليشيا وحواضنها الاجتماعية و روافعها السياسية. وإذا لم تُسترد قيمة الإنسان كأولوية مطلقة، فلن يكون هناك مستقبل لسلام أو استقرار. إن المعركة الحقيقية ليست فقط في ميادين القتال، بل في إعادة بناء الضمير الجمعي الذي يعترف بأن الإنسان هو أقدس ما في الوطن، وأن الحرب لا تبرر أبدًا سقوط القيم، و مهما ارتفعت الشعارات؛ إن لم يُسترد الإنسان واقعه كقيمة عليا في السودان، فسيبقى الوطن ساحة حرب بلا معنى، وخرابًا بلا نهاية.
السبت 30 اغسطس 2025م