ثقافة ومنوعات

(ثلاثة أحياء قاهرية : العَبَّاسية والمَعَادِي والأزْبَكِيَّة)

✍️ السفير محمد الطيب قسم الله

عرفتُ هذه الأحياء القاهرية الثلاثة في عهد مبكر قبل أن أزورها ، ثم شاء الله أن أراها رأي العين في أول زيارة لي إلى مصر في عام ٢٠٠٨ بمعية أسرتي ، أما حي العباسية فقد عرفته من خلال اطِّلاعي على أرشيف عمِّي مضوي ، والمعادي عرفته صبيا قارئا لكتب ألغاز المغامرين الخمسة التي كانت تَرِدُ إلينا من مصر ، وكانت جُلّ مغامرات هؤلاء الخمسة تنطلق من المعادي ، ثم عرفتُ من بعد ذلك حي الأزبكية.

لم تَحُلْ شدة الشتاء الراهن في القاهرة دون قيامي بزيارات ثقافية لبعض المكتبات المشهورة أو لمعرض القاهرة الدولي للكتاب بمعية أسرتي ، فضلاً عن حضور بعض الجلسات الدبلوماسية الاجتماعية وما يصحبها من الدردشات والمفاكهات.

ربما مررتُ في يوم من هذه الأيام عابراً حي العباسية القاهري فخطرتْ ببالي تلك العبارة التي كنت أقرأها على الدوام صبيا وشابا ، فقد كان عمِّي الأستاذ مضوي وهو طالب بجامعة الأزهر خلال النصف الأول من ستينات القرن الماضي ، كان يبعث برسائله بانتظام عبر مكتب بريد طابت إلى والده-رحمهما- ، وحين ترعرعتُ عثرتُ على تلك الرسائل في أرشيف بمكتبة الأسرة ، واستمتعتُ بقراءتها ، فإذا كل رسالة منها مختومة بالعبارة التالية :(مدينة البعوث الإسلامية بالعباسية) مرفقاً معها العنوان البريدي ، وكانت مساكن طلاب الأزهر الوافدين من السودان وغيره تقع بالعباسية. وحي العباسية يُنسب في نشأته لوالي مصر عباس حلمي الأول الذي أسسه وبنى فيه معسكرات للجيش ثم توسع الحي في عهد الخديوي إسماعيل ، ويدين حي المعادي في نشأته أيضا إلى الخديوي إسماعيل(1830-1895) ، وأما حي الأزبكية فتعود نشأته إلى القرن الرابع عشر إبان حكم المماليك عندما أهدى السلطان قايتباي مكافأة لقائد جيشه الأتابك سيف الدين بن أزبك عبارة عن قطعة أرض جرداء ليس بها سِوَى ضريحين في ناحية بركة بطن البقرة ، فأوصل إليها المياه من القناة الناصرية ، وشيّد على طولها رصيفاً من الحجارة ليتخذه الناس ممشى، وأقام منتزهًا جميلا حول البركة حمل اسمه، وأنشأ الجامع الكبير ، ثم بَنَى حول الجامع الأبنية والربوع والحمامات وما يُحتاج إليه من الطواحين والأفران، وجعل لها في كل سنة عيدًا أسماه(احتفال فتح البركة)، وبحلول عام 1495كانت الأزبكية قد تحولت إلى حي كبير يتوسط القاهرة. طُرْفتان تتعلقان بحي الأزبكية : طُرْفة فقهية وطُرْفة أدبية ، أما الفقهية فقد اشتهرت حدائق الأزبكية ومرابعها بشدة الازدحام ، وكان أحد الفقهاء المصريين حين يشرح في درسه نواقض الوضوء الخمسة على المذهب الشافعي يذكر مازحاً أن حدائق الأزبكية هي إحدى نواقض الوضوء مشيرا إلى شدة الازدحام الذي يحدث فيها وما يصحبه من تماسٍّ غير مقصود بين الرجال والنساء Touches ، وفي المذهبين الشافعي والمالكي : لمس المرأة من نواقض الوضوء ، وأما الطُّرْفة الأدبية فيُروَى أن إحدى الحفلات قد أُقيمت فى مسرح الأزبكية ، وأراد الشاعر حافظ إبراهيم -رحمه الله- أن يدخل الحفل ولم يكن بحوزته مبلغ تذكرة الدخول، فاعترضه العامل المختص بأخذ التذاكر ، فأصرَّ حافظ أن يدخل مجانا على أنه شاعر وأديب معروف، وأثناء ذلك حضر متعهد الحفل وكان يعرف حافظ فقال له: (لا أسمح لك بالدخول حتى ترتجل بيتين من الشعر)، فسكت حافظ برهة ثم قال:

رِيَاَضُ الأزْبَكِيَّةِ قَدْ تَحَلَّتْ *بِأَنْجَابٍ كِرَامٍ أنْتَ مِنْهُمَْ
فَهَبْهَا جَنَّةً فُتِحَتْ لِخَيْرٍ *** وَأَدْخِلْنَا مَعَ المَعْفُوِّ عَنْهُمْ

اترك رد

error: Content is protected !!