الرأي

تقديم كتاب (ذكرياتي) للبروفيسور احمد الامين الشيخ

السفير خالد موسي دفع الله

✍️ خالد موسي دفع الله

هذه الذكريات وان بدت مغرقة في الذاتية، فهي ليست رسما لسيرة كاتبها المهنية في مجال الطب، أو ملامح تفوقه الأكاديمي وهو يحرز المرتبة الأولي في امتحان الشهادة السودانية عام ١٩٦٤ بعد ألوان من المعاناة والمسغبة والضنك. بل هي ذكريات مليئة بصور الحياة المشرقة، تعكس تجليات النفس الإنسانية في حالة الإحباط واليأس والقنوط، ولحظة تفجر الأمل وتحقيق النجاح واعتلاء مراقي التميز،
وهي وإن اتخذت شكل الذكريات لكنها تسجيلا حيا لوقائع الحياة الاجتماعية في السودان، خاصة حياة الريف حينما كانت البندرة طفلا يتشكل في عيون المدينة. وهي تعكس من جانب آخر تقلبات الحياة عندما تضن بالقليل ثم تغدق بالكثير ، وتتميز بالصدق والشفافية علي نهج بابكر بدري في مذكراته ( حياتي) ، أو علي نهج توفيق الحكيم في كتابه ( سجن العمر) ، وهو القائل ” أملي أكبر من جهدي، وجهدي اكبر من موهبتي ، وموهبتي سجية طبعي.. ولكني اقاوم”.. فقد مضي نهج هذه الذكريات سجية طبع كاتبها، كما فعل توفيق الحكيم ، فهو( عربي) بالسليقة كما ينعته اصدقاؤه، فقد جعل الوضوح والشفافية ديدنا، والتبسط دون إغواء الرجرجة منهجا ، والإعتداد بالنفس دون غرور او انكسار جبّلة وطبعا.
وإتساقا مع ذلك لم يحتال الكاتب علي سيرته بالتجمل الاجتماعي في طفولته وسيرة حرمانه بل كانت تلك دوافعه لمراقي المجد المؤثل والنجاح الباهر.
وتستحيل المدن والجغرافيا والأمكنة والتواريخ بين طابت والحصاحيصا وخور طقت، والبرقيق ودنقلا ونيالا وبربر والخرطوم وادنبرة والمدينة المنورة ومدني ، الي عالم مملوء بضجيج الحياة والناس والمواقف ، حيث غمس المؤلف ريشته في محبرة الأيام ليصف سيرة حياته بأسلوب سلس وشيق، حفيا بصور الحياة والناس، و ما استلطفه من دراما ومفارقات المواقف وردود الفعل الاجتماعية ، مع قدرة علي التصوير ورشاقة السرد والحكي ، و ذاكرة فوتوغرافية تلتقط ادق التفاصيل في الطفولة والشباب والنضج بصورة مذهلة.
رغم خصوصية التجربة في هذه الذكريات لا سيما وهي تعكس تجربة الكاتب العملية كطبيب تنقل بين المدن المختلفة داخل وخارج السودان ، الا انها تقدم العظة والعبرة والدروس العميقة في الحياة، اذ يستخلص من تجربته أن الذكاء والنباهة والتفوق الاكاديمي لا يكفي اذا لم تزينه اخلاق واستقامة ، أو يسنده ما يسد الرمق والكفاية. وان الارادة القوية والصبر وتعلق الهمم بالثريا تقهر المستحيل ، وان الامكانات المادية لا تحقق النجاح اذا لم يدعمها نظام عمل فاعل. لكن العامل الاهم في ذلك الوقت قناعة الاسرة بأهمية التعليم وتضحيتها من اجل ذلك كما فعل والده رحمه الله وهو يقاوم تثبيط الأهل باستبقاء اولاده لمساعدته كايدٍ عاملة في الزراعة.
تبرز هذه الذكريات مقاربات ومقارنات بين الامس واليوم، لينظر الجيل الحاضر ، ما نال آباؤه وأجداده من اصطبار وجلد ورضي بأقدار الحياة.
منحه الله عبقرية التعاطي مع الحياة، والاندماج في المجتمعات المحلية ، اذ عمل في أوساط اجتماعية وثقافية ولغوية متباينة في المدن المختلفة، وظل في جميع هذه الانتقالات يتفاعل بإيجابية مع معطيات الثقافة والمجتمع المحلي بحب وتقدير دون تأفف او تهارش، وجبل علي ان يتعلم ممن هم دونه، مثل محضر العملية المخمور الذي انقذ حياته المهنية ونبهه لخطأ طبي ، ويتعلم من حوار عفوي بين اثنين من المشردين في شوارع الخرطوم ما يقوي عزمه ويشد ساعده علي الصمود والتجاوز.
تبرز شخصيته المهنية والاجتماعية في سياق هذه الذكريات بقوة، فهو حريص علي أخلاق العمل وانضباطه وقيم الستر لمن استصرخته ليستر شرف اسرتها داخل وخارج السودان ، وإدارة الموارد العامة، ويختلط مع غمار الناس بتواضع جم ، وتعامل انساني مع المرضي والمراجعين، وهو حفي بقيم الوفاء والصداقة لمن زامله وعلمه وآواه واستضافه. وأختار ان يرد بعض الفضل بالمشي علي ذات الطريق وهو أن تنفق يمينه ما لا تعلم شماله، مع علاقة خاصة بوالده الذي قطع من اجله فرصة عمل مغري في بريطانيا وفاء لبره وطاعته مع دهشة مشرفه البروفيسور البريطاني الذي منحه الوظيفة دون طلب منه أو معاينة.
لم يزين أسلوبه تقعرا واستعراضا للثقافة العلمية والمهنية ، بل كتب بأسلوب السهل الممتنع الذي يجمع بين المتعة والفائدة. وينتمي هذا الضرب من الكتب الي ما يسميه الفرنجة unputdownable
أي ما لا تستطيع معه مقاومة اغراء القراءة ولا تضعه جانبًا حتي تكمله.
انها سيرة رجل عاش المسغبة ، فكانت دافعًا للتميز والنجاح، تجافي عن حيل الحياة، واختار الصدق مرجعًا فعبر الجسر، ولما واتته الدنيا عبَّ منها كالمرتحل، وظل مستمسكا باللباب من الأخلاق والمواقف والاستقامة والوفاء وترك القشور.
إنها سيرة جديرة بالقراءة والتأمل واستخلاص الدروس والعبر ، ويكفي لكاتب الذكريات نجاحا ان تكون مدونته صورة صادقة للمجتمع دون تلوين او تجمل، وحسب القارئ لهذه المذكرات ان يظفر ليس بمتعة الحكي والسرد والمواقف والطرائف، ومنمنمات التاريخ الاجتماعي فحسب، بل برغوة الحكمة التي فاضت علي كأس التجربة والحياة.

اترك رد

error: Content is protected !!