سألت، ذات مرة، بعض المعارف الوثيقة من النساء: من أين تجدن هذه الدموع المدرارة وأنتن تبكين ميتاً لا تربطكن به صلة رحم ولا سابق معرفة ؟ فقالت لي إحداهن في لحظة صدق: نحن نجامل أهل الميت باستدعاء أحزاننا ونبكي مصابنا في الموتى والأحياء!!
تذكرت تلك الواقعة، وأنا أتابع ردود الفعل الاستباقية على خبر عودة مولانا محمد عثمان الميرغني زعيم طائفة الختمية ورئيس الحزب الإتحادي الأصل إلى أرض الوطن بعد غياب دام لسنوات، ولم أجد تفسيراً لما يمكن أن أسميه حملة الترحيب الواسعة، سوى أن الجميع، ممن رحبوا، يستدعي مواجعه وينثر آماله وتطلعاته في الفضاء العام والأسافير، عسى ولعل يتهيأ الظرف بهذه العودة والحدث الذي ينتظره عشرات الآلاف من السودانيين، لتوافق سوداني طال انتظاره !!
لاحظت من خلال متابعتي لردود الأفعال الاستباقية على خبر العودة المنتظرة أن كل القوى السياسية والاجتماعية في السودان، ما عدا الحزب الشيوعي وتوابعه، قد رحبوا بعودة الزعيم الروحي الأشهر، وكبير البيت الختمي والإتحادي، وذهب البعض إلى الدرجة التي صوروا فيها أن هذه العودة تحمل في طياتها حلولاً ملائكية لمشكلات السودان، وبدا لي وكأن البعض من أنصار الزعيم الروحي يستدعون من الذاكرة عودة الإمام الخميني من باريس إلى طهران عقب انتصار الثورة الإيرانية !!
لست هنا بصدد التقليل من الدور الذي يمكن أن تلعبه عودة السيد الميرغني في رتق النسيج الاجتماعي والسياسي في السودان، سواء على مستوى البيت الختمي نفسه أو الحزب الإتحادي المنقسم إلى أكثر من ثمانية فصائل أو على مستوى التحالفات الكبرى التي تتشكل الآن في الساحة، لكني أخشى أن نذهب بعيداً في التفاؤل فنكرر ذات الخطأ الذي وقعت فيه قوى الحرية والتغيير عقب سقوط نظام الإنقاذ وإبان اعتصام القيادة العامة، إذ صوّروا أنه لن تمضي أشهر قليلة إلا وتكون كل مشكلات السودان قد تم حلها وكل عقبات نهوضه قد تم تجاوزها، وها نحن نتجاوز الشهر الرابع والأربعون والنتيجة تعرفونها كلكم بطبيعة الحال، فحتى الذين كانوا يرجون لتلك الأحلام ذهبت أحلامُهم هباءً.
لم يكن “أبو هاشم” هو الزعيم السوداني الوحيد، ممن يجمع بين القداسة والسياسة، يعود إلى أرض الوطن بعد غياب دام لسنوات، فقد سبقه إلى هذا الإمام الراحل الصادق المهدي في رحلته من جيبوتي عام ٢٠٠٢ والتي أسماها تُفلحون بعد أن كان خرج في العملية الخاصة التي أسماها “تهتدون”، لكن نتائج تفلحون لم يكتب لها الفلاح الكامل بنظر الإمام الراحل، وانتهى بها الأمر إلى أن انقسم حزب الأمة إلى مجموعة أحزاب بعد أن كان موحداً. فكيف بعودة الزعيم الميرغني وقد فعلت الخلافات في الأسرة الإتحادية ما فعله الحداد ؟!!
مهمة أبو هاشم لن تكون سهلة حتى على مستوى بيته الخاص كما أسلفنا، وهي بالمعايير الموضوعية تكاد تكون مستحيلة في توحيد ودمج الأحزاب الإتحادية، لكن هذا لا يمنع أن تنجح في تطوير ميثاق القوى الإتحادية الذي تمّ توقبعه في القاهرة فبل عدة أشهر إلى جسم جبهوي يتناوب قادة الفصائل الإتحادية على رئاسته، إن صدقت النوايا، ومن المرجح أنها ستعزز التواصل بين بين الخصمين التقليديين، الأمة الإتحادي، وقد يكون هذا أحد أهم أسبابها!!
لست مع التحليل الذي يذهب باتجاه القول أن الهدف الأساسي لعودة السيد الميرغني هو لإتمام صفقة ثنائية بينه وبين رئيس مجلس السيادة يكون الاتحاديون بموجبها هم الحاضنة السياسية “للإنقلاب”، فمن رأيي أن هذا ابتسار لموضوع العودة، ولست كذلك مع مَن يشبهها بعودة الملك حسين إلى عمان قاطعاً رحلة علاجه ليقطع الطريق أمام أخيه الأمير الحسن بن طلال في تولية العرش، ولكني أراها في إطار أوسع تتبناه الشقيقة مصر ومؤداه أن قوى الإسلام التقليدي والصوفي (الأنصار والختمية) هي الطرف الوحيد المؤهل لسحب البساط الشعبي من تحت أقدام قوى الإسلام السياسي، وأنه يتعين العمل الحثيث على توحيد صفوف هذه القوى وإعادة توجيه بوصلتها الخدمة ما تراه قوى دولية وإقليمية من أهداف لإعادة هندسة السياسة في السودان بدلاً من الأفعال الطائشة التي كان يقوم بها ناشطو قوى الحرية والتغيير.