استيراد السودان من القمح ودقيقه ظل باستمرار يمثل رقماً مهماً في تجارته الخارجية يتراوح ما بين 9.5% الى 11% من قيمة الواردات الكلية، فقد استورد السودان في العام 2017 قمحاً بقيمة 790 مليون دولار، انخفض في العام 2018 الى 712 مليون دولار، وقفز في العام 2019 الى 1085 مليون دولار، ثم تراجع في العام 2020 الى 917 مليون دولار، ويتوقع أن يكون قد بلغ في العام 2021 حوالي 700 مليون دولار.
اختلاف الأرقام ما بين عام وآخر يعود لتراجع الاستيراد فيما لو كان الإنتاج المحلي من القمح وافراً، وبالعكس تحدث زيادة الاستيراد إذا ما كان الإنتاج المحلي ضعيفاً. لكن في الحالتين تقوم الحكومة بإنفاق مبالغ طائلة من الخزينة العامة لدعم استهلاك مواطني السودان من القمح ودقيقه. ولهذا يمثل القمح ودقيقه معضلة في الاقتصاد السوداني.
غير أن هذه المعضلة يمكن أن تتحول لفرصة إذا ما وجه السودان انتاجه المحلي من القمح للتصدير، في ظل الاحتياج العالمي لهذه السلعة، والذي ازداد بدرجة كبيرة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، حيث يمثل صادر القمح من هاتين الدولتين حوالي 25% من حجم التجارة العالمية فيه.
لكي يتمكن السودان من توجيه انتاجه المحلي من القمح للصادر لا بد له من تقليل استهلاك سكانه من هذا المنتج، وقد ذكرنا في مقال سابق ان البديل هو الذرة الرفيعة والدخن. لقد أثبتت العديد من الدراسات والبحوث إن الذرة والدخن أفيد لصحة الانسان من القمح. وقد كتب الدكتور الراحل عبد القادر محمد عبد القادر المتخصص في الأغذية الكثير من المقالات والبحوث في هذا الشأن.
من ناحية أخرى تمكن عدد من العلماء من انتاج الخبز من الذرة، بدأ ذلك ببروفسيور ست النفر في معهد بحوث الأغذية بشمبات، حيث خلطت 50% من الذرة مع 40% من القمح و10% من صمغ القوار. وانتهي بتجارب المهندس فتح الرحمن الذي تمكن من انتاج الخبز بخلطة فيها 95% ذرة و5% مادة رابطة طبيعية فأنتج خبزاً جيد المذاق وحلوى وفطائر ومخبوزات تسر الآكلين.
انتاج الخبز من الذرة كان ينبغي أن يصبح استراتيجية للأمن الغذائي والاقتصادي، لأنه يوفر للحكومة كلفة استيراد القمح بالعملة الأجنبية، وهي كما ذكرنا كلفة باهظة. أما الدعم المقدم لمستهلكي خبز القمح فيمكن توجيهه لمنتجي الذرة فيقل سعر الخبز المصنوع من الذرة للمستهلك ويستفيد منتج الذرة، علماً بأن منتجي الذرة يبلغ عددهم حوالي 70% من الفئة المنتجة في السودان، وبالتالي يسهم هذا في التقليل من نسب الفقر في السودان.
قام جزء من القطاع الخاص المستفيد من استيراد القمح مع بعض المتنفذين والحكوميين بقتل تجربة انتاج الخبز من الذرة عن عمد وإصرار، والمؤسف أن بعض الأجهزة الحساسة في الدولة كانت على علم بهذا القتل المؤلم لكنها لم تحرك ساكناً.
نحتاج في هذه المرحلة من تاريخ بلادنا لإرادة سياسية قوية، وتخطيط استراتيجي محكم، للاستفادة من الفرص المتاحة مثل فرصة تصدير القمح وزيادة الاستثمارات فيه كمنقذ لاقتصاد البلاد. والله الموفق.
تحية لدكتور عادل الفكي الذي ظل يقدم المبادرة تلو المبادرة نحو اقتصاد معافى وسودان متقدم. والمؤكد أن التخطيط الاستراتيجي المحكم في متناول اليد وما أكثر الخبراء السودانيين الجاهزون لتقديم المطلوب وأكثر .. ولكن المعضلة في الحصول على الارادة السياسية القوية المطلوبة في ظل عدم اللاستقرار السياسي الحاصل؟