✍️ عبدالله عبيد الله
مثل فيروس كوفيد 19 ظل تجمع المهنيين يتحور منذ ظهوره أول مرة عام في ديسمبر 2018. كانت البداية عندما أعلن التجمع عن تسيير موكب سلمي للمجلس الوطني المحلول للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور. و وصل إلى في متحوره الأخير لتقديم ميثاق سياسي يؤسس لنسخة محدثة من “ديكتاتورية البروليتاريا” التي بشرتنا بها الماركسية اللينينية البائدة في بلادها، سوى أن قوامها أصحاب الياقات البيضاء، لا الزرقاء، كما في الأصل. ويحدثنا الناطقون بإسم التجمع من مهاجرهم البعيدة في سيدني، ولندن، وباريس، وواشنطن – من أصحاب الجنسيات الأجنبية – أنهم لن يقبلوا في “سودانهم” الذي “حيبنوه” بعد أن يحطموا السودان القائم فوق رؤوس سكانه- أي إسلاميين او من يعتبرونهم قوي هبوط ناعم أو قوي تقليدية، وبالطبع لا دور فيه للقوات المسلحة، حتى لو ذهبت قيادتها الحالية، كما صرح بذلك المتحدث باسم التجمع بالداخل الوليد على للجزيرة مباشر ليل الأحد 9 يناير.
لا تسأل عزيزي القارئ كيف لكيان كانت بدايته مجرد تقديم مطالبة مهذبة لبرلمان النظام البائد في 19 ديسمبر 2018 بالنظر في زيادة الحد الأدنى من المرتبات، مما يعني ليس فقط الاعتراف بالنظام ومؤسساته القائمة بل الحرص على مخاطبته عبر قنواته التي حددها هو. كيف يمكن أن يكون له حق الفيتو لتحديد من يشارك أو لا يشارك في فترتهم الإنتقالية المتجددة، التي حددوا لها مبدئيا 4 سنوات، ينفردون فيها بالحكم وإعادة هيكلة الدولة والجيش والأمن والمؤسسات العدلية وهندسة المجتمع السوداني كما يهوون؟ إنها الطفرات الجينية للمتحور.
حدثت أولى الطفرات، عندما ظهر الطبيب محمد ناجي لإعلان ميثاق الحرية والتغيير في يناير 2019…وأصبح أيقونة للثورة.. وكان نجما خلال اعتصام القيادة.
بعدها برز القيادي في الحركة الشعبية لتحرير السودان، شمال، جناح عبد العزيز الحلو، محمد يوسف أحمد المصطفى، كزعيم للتجمع، لكنه سرعان ما اختفى عن أنشطة التجمع. ليظهر أحمد الربيع ممثلا للتجمع المهني وقوى الحرية والتغيير للتوقيع على الوثيقة الدستورية للفترة الإنتقالية مع الفريق أول محمد حميدتي في 17 أغسطس 2019…ليختفي هو الآخر بعد قليل. ثم حدث الانشقاق في التجمع في مايو 2020، حيث اتهمت مجموعة الأصم حزبا سياسيا (يقصد الشيوعي) بالهيمنة على الأمانة العامة للتجمع، وتحويله لواجهة له. ولا يعرف له الآن من قيادة سوى من يتحدثون باسمه من لندن (د. مهند مصطفى النور) وسيدني (بشرى الفكي) وأحيانا من الداخل (الوليد علي).
ما يدهش أن هذا الكيان لم ينتخبه احد. ولا يضم أي كيانات منتخبة من قواعدها. وإنما واجهات مزعومة لبعض أصحاب المهن مثل لجنة الأطباء، لجنة المعلمين، تجمع المحامين الديمقراطيين، لا يعرف حقيقة عضويتها أو معايير الانتماء إليها. ولئن كان ذلك مفهوما إبان عهد الإنقاذ الوطني، للاتهام الموجه للنقابات وقتها بأنها مستأنسة، وكونها نقابات للمنشأة، وليس الفئات المهنية، إلا أنه على مدى ثلاث سنوات تقريبا منذ انتصار الثورة، لم يفتح الله على اتحاد المهنيين للمطالبة بقيام انتخابات حرة للنقابات على أسس جديدة، أو حتى البدء في التجهيز لها. كما أنه لا يضم لجان التسيير التي شكلتها حكومة حمدوك بعد حل الاتحاد العام لنقابات عمال السودان. إنما استمرأ مواصلة ادعاء تمثيل المهنيين دون أي تفويض. وهذا يدل على أن التجمع أريد له أن يكون واجهة سياسية فقط.
كما أن هناك سؤال كيف يكون تجمعا للمهنيين السودانيين، ومن يتحدثون باسمه يتوزعون على قارات العالم الخمس، وتتنوع جنسياتهم بين فرنسية وأمريكية واسترالية وبريطانية؟ هل خلا السودان من المهنيين لتتم الاستعانة بحملة الجوازات الأجنبية، أم أن من في السودان كلهم فلول؟
وحتى لو افترضنا انه يمثل المهنيين السودانيين فعلا فكم نسبة المهنيين من ال40 مليون سوداني، 80 %منهم يعملون بالزراعة والرعي في الأرياف. وحتى في المدن فإن غالبية السكان من العمال وأصحاب الحرف اليدوية والأعمال الحرة.. والطلاب.. وكل هؤلاء ليسوا بمهنيين. أقرب تقدير لعدد المهنيين في السودان ربما يكون في 40 ألف، أي بنسبة واحد من مليون من كل السودانيين. فبأي حق تحتكر شريحة متناهية الصغر في حجمها التقرير في مصير البلاد والعباد. أليس ذلك استدامة لتسلط النخب والصفوة في السودان؟ إنها المتحور الجديد من الديكتاتورية المدنية التي ظل الشيوعيون يسعون لإقامتها في السودان، منذ تجربة جبهة الهيئات بعد أكتوبر التي سيطروا عبرها على حكومة أكتوبر، ثم أعادوا الكرة مع التجمع النقابي بعد أبريل 1985 لكن على الأقل كانت الجبهة والتجمع يضمان نقابات منتخبة من قواعدها على محدودية قواعدها بالنسبة لسكان البلاد. أما أعضاء تجمع المهنيين فقد نصبوا أنفسهم أوصياء على الشعب السودان بدعوي أنهم يمثلون المهنيين، دون من اختارهم ممثلين لهم أو حتى من هم؟
لا تمكن مقارنة تجمع المهنيين باتحاد الشغل التونسي، مثلا، الذي يكمل هذا الشهر عامه ال76، ويضم أكثر من مليون عضو يضمون كل الفئات من العاملين في القطاعين العام والخاص بتونس، يمثلون عشر التونسيين. مع ذلك، لم يسع الاتحاد لدور سياسي مباشر بأن يتحول لواجهة لحزب سياسي، ولكن كان دوره الوساطة والدعوة للحوار بين القوى السياسية المتصارعة في تونس ضمن ماعرف برباعي الحوار؛ الذي ضم إلى جانبه اتحاد أصحاب العمل ، واتحاد المحامين بتونس والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، الذي كان له الفضل في الخروج من الأزمة السياسية في تونس بين 2013 و2014، وبموجب ذلك الدور منح الرباعي جائزة نوبل للسلام للعام 2015.
انظر إلى شعار تجمع المهنيين الآن :لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية. وهذا ببساطة يعني موت السياسة، والتي تقوم على التفاوض والشراكة والاعتراف المتبادل. وحين يأتي ذلك من كيان مجهول النسب، يصر على استبعاد المؤسسة العسكرية، المؤسسة الوطنية الوحيدة التي لا تزال متماسكة وموحدة وقوية، من المشهد السياسي بالكلية، ويحتكر منح صكوك الغفران والقبول للقوى السياسية، بينما له صلة مثبتة بحركة مسلحة ظلت تقاتل الجيش السوداني لحوالي 40 عاما ، ينبغي أن نستشعر الخطر، ونسعي لتحصين وطننا ضد هذا المتحور الخطير.
في ثمانينات القرن الماضي، شاعت في مصر ظاهرة الغش في مواد البناء، مما أدى لحوادث متتالية لانهيار المباني حديثة البناء. نشرت مجلة صباح الخير وقتها كاريكاتير يصور مقاولا يخبر صاحب قطعة الأرض الخالية أنه على استعداد لتنفيذ المشروع كاملا: هيكل خرصاني، وتقفيل، وتشطيب… ثم رفع الأنقاض!!
أما هؤلاء فوجدوا مبني قد اكتملت قواعده وهيكله الخرصاني ، وتبقت عمليات التقفيل والتشطيب، وبدلا من المساهمة في ذلك يريدون تدمير كل ما أنجز ومن ثم التفكير في إعادة البناء.. إن وجدوا وقتا لذلك!!