الرواية الأولى

نروي لتعرف

إستنارة / العبيد أحمد مروح

بوسع الذين أشعلوا الحرب إيقافها، لكن ليس بشروطهم

العبيد أحمد مروح

لم تكن الحرب التي اندلعت في السودان في 15 أبريل 2023 وليدة ذلك اليوم أو حتى الأيام والاسابيع التي سبقته، بل هي وليدة تخطيط وترتيب لقوى دولية معروفة، سابق حتى لانقلاب اللجنة الأمنية في أبريل 2019، وخلاصة ذلك الترتيب، كما ظللنا نكتب ونكرر، هو الإطاحة بنظام الإنقاذ، وإعادة هندسة الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في السودان، بحيث يتم قطع الطريق على التمدد الروسي والصيني في المنطقة من خلال هذا البلد الواسع، وبحيث لا يصبح بوسع الإسلاميين الذين كانوا يهيمنون على السلطة العودة إليها، في غضون عقدين أو ثلاثة، إن لم يكن أبداً، وذلك في إطار تصفية ما يسمونه بـ”الاسلام السياسي”، الذي يرون فيه أحد أكبر العقبات التي تقاوم التطبيع والاستتباع للغرب.

نجحت تلك القوى في الإطاحة بالنظام، وأتت بأفراد تحت مسمى “القوى المدنية” أو قوى الثورة، نصّبتهم فوق القوى السياسية، لاستكمال تنفيذ المخطط، فكانت لجنة إزالة التمكين وكانت قوانين نصر الدين عبد الباري ومناهج القراي، وكانت الحملات الممنهجة ضد الجيش والشرطة وجهاز الأمن، وذلك لتفكيك ممسكات الدولة، وتحويل هذه المؤسسات من حامية للدولة إلى حامية للمشروع الجديد، بحجة محاربة النظام السابق.

لم يمض عامان على البدء في تنفيذ المخطط، الذي جاء تحت مظلة التحول الديمقراطي، حتى اكتشف رعاته أنه فشل، بل بدأ يأتي بنتائج عكسية، فقرروا تغيير الأسلوب والأدوات واستبدلوا أسلوب الترغيب بأسلوب الترهيب، فكان “الإتفاق الإطاري” الذي أتى بعد نجاح المخططين في شق ما كان يعرف بالمكون العسكري، وإقناع قائد قوات الدعم السريع بأنه سيصبح الرجل الأول في البلاد، وأن على قواته أن تتولى حماية النظام الذي بدأت ملامحه تتشكل، وفق تصريحات قادة الحرية والتغيير وقتها (جعفر حسن وياسر عرمان ومريم الصادق..مثالاً).

فشل أسلوب الترهيب في فرض الإطاري فلجأ أصحاب المشروع إلى فرضه بالقوة المسلحة، فكانت محاولة الاستيلاء على السلطة عن طريق الانقلاب العسكري في صباح الخامس عشر من أبريل 2023. وعلى الرغم من حسن التخطيط والترتيب لتلك المحاولة، التي كانت ستتم باسم القوات المسلحة وتحت عنوان “الحكم المدني”، إلا أنها فشلت هي الأخرى، وحينما استبان فشلها أعلن الرعاة والمخططون البدء في إجلاء رعاياهم والرعايا الأجانب من العاصمة الخرطوم، فهبطت طائرات المارينز في بهو السفارة الأمريكية في ضاحية سوبا، وسارت قوافل الدبلوماسيين والموظفين الدوليين براً إلى بورتسودان بالتزامن مع السماح لطائرات نقل عسكرية، بالهبوط في قاعدة وادي سيدنا الجوية لاجلاء رعايا عدد من الدول الغربية وحاملي جوازاتها من السودانيين بمن فيهم بعض قادة الحرية والتغيير.
وفي اليوم الثالث لاندلاع الحرب، أعلن وزير الخارجية الأمريكي وقتها، أنتوني بلينكن، أن هذه الحرب لا منتصر فيها، وأنها يجب أن تتوقف، وأوعز لمسؤولي ملف السودان بوزارته، بقيادة مولي في، أن يهرعوا إلى الرياض للترتيب لوساطة تقودها بلاده مع المملكة العربية السعودية تعنى بوقف مؤقت لإطلاق النار والإتفاق على ممرات إنسانية يتدفق من خلالها العون للمدنيين، وفي الأثناء جرى إعتماد توصيف الحرب بكونها صراع على السلطة بين جنرالين وليست إنقلاباً أو تمرداً عسكرياُ على الدولة!!

ثلاثون شهراً ويزيد، هي عمر الحرب الذي مضى، شهد السودان خلالها أبشع الجرائم ضد الإنسانية التي يمكن أن تُرتكب، حيث كان ملايين المدنيين السودانيين هدفاً مباشراً لمليشيا الدعم السريع المتمردة، تعرضوا خلالها للنهب والطرد من بيوتهم والاغتصاب والقتل والحصار والتجويع، وشهد السودان خلالها أكبر أزمة نزوح ولجوء وجوع على مستوى العالم، بشهادة الأمم المتحدة، إذ بلغ عدد مَن نزحوا أو لجأوا 13 مليون سوداني بمن فيهم الأطفال والنساء والعجزة وأصحاب الأمراض المزمنة، وبلغت تقديرات الأمم المتحدة لأرقام الجوعى في السودان نحو 25 مليون إنسان، أو يزيد!!
وخلال هذه الأشهر التي تزيد على الثلاثين، ظلت جميع أنواع الأسلحة المتطورة، ومعدات القتال من دبابات ومصفحات ومدافع ومسيرات، وغيرها، تتدفق على ميادين القتال، أغلبها عن طريق جوار السودان الغربي حيث تأخذ طريقها إلى مختلف مدن إقليم دارفور و إلى مسارح القتال في ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار والنيل الأبيض وإقليم كردفان. وظل الإعلام الدولي يرصد كل ذلك ويوثقه وينشره، ويسمى الطرف الذي يقف وراء ذلك، وظلت لجنة العقوبات الدولية المشكلة بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1591 ترصد ذلك وتوثقه، لكنها بقيت “عاجزة” عن الإفصاح الجهير بذلك أمام مجلس الأمن الدولي، في واحدة من أبرز “فضائح” التواطوء التي سيسجلها التاريخ، وهذا موضوع سنعود له في سياق آخر.

تعلم الدول الغربية دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وهي بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، تمام العلم مـَـن هو “الطرف” الذي أشعل الحرب، وتعلم أنه إن أراد لهذه الحرب أن تتوقف غداً لفعل، فبمجرد إشارة من دولة الإمارات العربية المتحدة لمليشيا الدعم السريع المتمردة بأن توقفوا، ستتوقف الحرب، لكن كل هذه الدول “العظمى” في فمها ماء، كما يقول المثل، فهي غير مستعدة لمقايضة مصالحها الاقتصادية ممثلة في الاستثمارات الإماراتية فيها، والتي تبلغ مئات المليارات من الدولارات، لأجل إحقاق الحق والدفاع عن قيم أخلاقية استقر عليها القانون والعرف الدوليين تقضي بتجريم الاعتداء على الشعوب وانتهاك حرماتها وحقوقها. والحق الذي كان أحق أن يتبع هو ببساطة القول لراعية المليشيا المجرمة، كفى، أو على الأقل السماح لشكوى السودان في مجلس الأمن أن تجد طريقها للتداول والنظر فيها، أو فك الحظر، غير المعلن، عن تقارير لجنة العقوبات والسماح لفريق الخبراء أن يقدم تقاريره دون التأثير على حيادهم، لأن لجنة الخبراء إن قدمت تقاريرها بنزاهة لوجد مجلس الأمن ألا خيار أمامه سوى أن يسمي الطرف الذي ينتهك حظر توريد الأسلحة إلى دارفور، ولعرف العالم مَن يشعل الحرب ويصر على استمرارها، ولترتب على ذلك تصنيف مليشيا الدعم السريع كمجموعة إرهابية مرتكبة لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن “هذا ممنوع” لأنه يُعرض المصالح المادية مع أحد الحلفاء للضرر!!

الآن، وبعد كل الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في حق السودانيين، من قتل ونهب وسرقة واغتصاب واسترقاق جنسي، وبعد كل الدمار الذي طال البنى التحتية والخدمات الأساسية من محطات كهرباء وأنظمة توصيل وتوزيع، ومستشفيات ومدارس وأسواق ومصارف ومدخرات أفراد وشركات خاصة، وبعد مئات الآلاف من الشهداء المدنيين والنظاميين، يقول الذين أشعلوا الحرب، وأصروا على استمرارها، وحجبوا عن العالم ما استطاعوا حجبه من الحقائق الخاصة بها، أنهم يريدون إيقافها..
حسن، بوسعكم أن توقفوها بالفعل لأنكم أنتم مَن وقف مع المعتدي، وأعانه على فعلته، ولأن الجيش السوداني والقوات المساندة له والشعب الذي التف حوله، هم الذين تعرضوا للاعتداء وظلوا في موقف الدفاع عن مقارهم العسكرية وعن مدنهم التي تمت استباحتها وعن أعراضهم التي تم انتهاكها ، ولأنهم كانوا هم الضحية فلا مصلحة لهم في استمرار الحرب، لكن وقف الحرب ليس كإشعالها، لأن واقع الحال اليوم ليس كما كان قبل الخامس عشر من أبريل 2023، ولن يكون بالإمكان عودة الأمور إلى ما كانت عليه وقتها، ولهذا فإن الثمن الذي يتعين أن يدفعه المعتدون يجب أن يكون هو الشرط الأساسي لوقف الحرب، وهو ليس ثمناً مادياً فحسب وإنما هو ثمن سياسي كذلك.

اترك رد

error: Content is protected !!