بقلم : خالد محمد علي
تصر الولايات المتحدة الأمريكية على مشاركة الجيش السوداني في مفاوضات جنيف التي وضعت لها سقفًا مفتوحًا من الزمن يمتد لعدة أيام بغرض ممارسة ضغوط مختلفة على قيادة الجيش لإرسال وفده إلى جنيف.
وجاء اعتراض رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان على الاشتراطات الأمريكية الخاصة بأن يكون وفد التفاوض ممثلاً للجيش وليس لمجلس السيادة، لأن في ذلك عدم اعتراف من الولايات المتحدة الأمريكية بمجلس السيادة، وهو ما يمكن أن ينسحب على كل دول العالم التي تعترف بالمجلس كسلطة تنفيذية لحكم السودان.
وجاء إصرار وزير الخارجية الأمريكي على مخاطبة الرئيس البرهان بالجنرال ليكشف عدم الاعتراف الأمريكي بمؤسسة الرئاسة السودانية وإصرارهم على أن البرهان مجرد وزير للدفاع أو قائد للجيش السوداني.
وكل ذلك مقصود ومرتب لتأسيس دولة بنظامين يكون قائد التمرد “حميدتي” جزءًا منها وشريكًا في اقتسام السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكل ما له علاقة بإدارة البلاد.
ويرى المراقبون أن الولايات المتحدة الأمريكية تخطط عبر جنيف لتثبيت محمد حمدان دقلو شريكًا رئيسيًّا في السلطة والثروة والقرار السياسي بعد انتهاء مفاوضات جنيف وليس جزءًا من دولة قائمة يترأسها رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
وربما كان الهدف الرئيسي من اختطاف منبر التفاوض من جدة السعودية إلى جنيف في سويسرا هو إزالة صفة المتمرد من محمد حمدان دقلو وإلباسه ثوب رئيس ثانٍ للدولة السودانية مع البرهان، وهو ما يعكس عدم ثقة واشنطن في البرهان ونظامه والتحايل على احتلال السودان والسيطرة عليه عبر حميدتي والدعم السريع الذي سبق أن تعاون مع واشنطن وحلفائها في مجالات كثيرة من بينها ما يسمى بمحاربة الإرهاب، ومكافحة تهريب البشر، وتسليم أمريكا وأوروبا ملفات ومعلومات كثيرة جدًّا عن الحدود وصراعات الحدود في إفريقيا.
وكانت هناك تساؤلات كثيرة قد طرحها المحللون والمتابعون للشأن السوداني تدور في مجملها حول مصير منبر جدة ومخرجاته، وتوسعة ما يسمى بدائرة المسهلين للحوار السوداني- السوداني، واستبعاد جامعة الدول العربية بالرغم من دعوة الاتحاد الإفريقي للمشاركة، إضافة إلى اعتبار مصر مجرد مراقب في جولة جنيف، وجميع هذه التساؤلات تضع علامات استفهام كثيرة على الموقف الأمريكي الذي لا يمكن أن يكون قد تصالح فجأة مع إنسانيته وضميره ويعمل جاهدًا لإيجاد فرص حقيقية للسلام في السودان.
استبعاد جامعة الدول العربية
ومن ضمن استراتيجية أمريكا في التعاطي مع الأزمة السودانية هي محاولة سلخ السودان من محيطه العربي، ونزع صفة العروبة عن هذا الشعب الذي يمثل جسرًا بين العرب وإفريقيا، وهي تمارس هذا الدور في كل محطات التفاوض والنزاع والسلام مع السودان، وهي تستبعد جامعة الدول العربية ومصر على وجه الخصوص من المشاركة الحقيقية والفاعلة في تحديد مستقبل السودان.
وهو بالضبط ما حرصت عليه في مفاوضات جنيف عندما استبعدت عمدًا دعوة جامعة الدول العربية للحضور، على الرغم من دعوتها الاتحاد الإفريقي للمشاركة، مع أن الاتحاد جمّد عضوية السودان لديه، ويرفض مشاركته في أي فعاليات ينظمها.
وفي بيانها، أكدت جامعة الدول العربية أنها لم تتلقَ دعوة للمشاركة في المحادثات المنعقدة في جنيف، على الرغم من قرار مجلس الأمن رقم 2736 الذي ينص على ضرورة التنسيق مع الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية. وأشارتِ الجامعة إلى أن دعوتها للمشاركة تعكس أهمية السودان كدولة عربية وجسر للتواصل العربي- الإفريقي.
وأكدتِ الجامعة تمسكها باحترام سيادة السودان وسلامة أراضيه، والحفاظ على مؤسساته الوطنية، بما في ذلك القوات المسلحة السودانية.
ويبدو أن هذا الموقف الواضح للحفاظ على وحدة السودان وسلامة أراضيه، والحفاظ على جيش السودان، هو السبب الرئيسي لرفض واشنطن دعوتها للمشاركة في جنيف، وهو نفس الموقف الذي تحاول به أمريكا حصار الدور المصري في السودان ووضعه مجرد مراقب وليس مشاركًا في جولة جنيف.
هل تنجح أمريكا؟
وفي اهتمام مفاجئ، وغير مسبوق بالأزمة السودانية بعد مرور عام من الصراع بين الجيش والمتمردين، حشدِت الولايات المتحدة الأمريكية كل قوتها لدعم مفاوضات جنيف، واختطاف منبر جدة، والزعم بأن هذه الجولة كفيلة بأن تُنهي الصراع، وتحقق السلام.
وقال مبعوثها الخاص للسودان، توم بيرييلو، إن المشاورات التي تُجرى في جنيف تركز على التزام الأطراف بالاتفاقات المبرمة في جدة وتطبيقها، بالإضافة إلى احترام القانون الإنساني الدولي، وتمكين تقديم المساعدات، وإسكات الأعمال العدائية، كما تهدف المشاورات إلى إنقاذ الأرواح وتخفيف معاناة السودانيين، وتحقيق وقف لإطلاق النار، وتعزيز وصول المساعدات، وإنشاء آليات تنفيذ تضمن تحقيق نتائج ملموسة.
وأكد أن الأزمة في السودان بلغت “درجات غير مسبوقة من الخطورة، حيث يواجه الملايين جوعًا حادًّا ونزوحًا، في حين أدى الصراع المستمر إلى ارتكاب فظائع واسعة، بما في ذلك الاعتداءات على النساء والأطفال”.
وجاء حديث بيرييلو متوازيًا مع صخب إعلامي غربي حول المجاعة في السودان، وعمليات قتل ونزوح المدنيين، وكأنها قد انطلقت فقط خلال الساعات الماضية، بغرض لفت أنظار الرأي العام العالمي إلى ما يسمى بالمجاعة الأسوأ في التاريخ حتى يحتشد الفاعلون خلف الموقف الأمريكي لإنهاء الأزمة السودانية ولكن على الطريقة والتطبيق والتصميم الذي وضعته واشنطن وليس على ما يريده الشعب السوداني من إنهاء حقيقي للأزمة عبر طرد التمرد ومعاقبة المتهم الحقيقي بارتكاب كل تلك الجرائم ووقف التدخل الدولي، ومنع تمزيق السودان، إضافة إلى إعادة القرار إلى أصحابه في الخرطوم بدلاً من واشنطن وعواصم الغرب.
وأمريكا التي خصصت مبعوثًا لها في السودان لم تتوقف عند هذا الحد، ولكن اهتمت في أعلى سلم دبلوماسيتها بالسودان، وعاود وزير خارجيتها أنطوني بلينكن الاتصال بعبد الفتاح البرهان مرة ثانية لحثه شخصيًّا على ترؤس فريق التفاوض من قيادات الجيش السوداني إلى جنيف، وطلب منه المشاركة في صيغة أمر أمريكي لقائد الجيش السوداني الجنيرال عبد الفتاح البرهان، وكانت المهاتفة الأولى للبرهان في الشهر الماضي قد تضمنت إهانات شخصية من الوزير الأمريكي لرئيس مجلس السيادة السوداني، حيث رد البرهان بقوة وأكد أنه ليس جنديًّا أو موظفًا لدى بلينكن حتى يُصدر إليه الأوامر.
وفي اتصاله الثاني، الأسبوع الماضي، لبس بلينكن ثوب رجل السلام، وأكد ضرورة المشاركة في محادثات السلام الجارية في سويسرا لتحقيق التنفيذ الكامل لـ”إعلان جدة” بشأن حماية المدنيين، وقال إن المجتمع الدولي اجتمع دعمًا لهذه المفاوضات التي تستضيفها سويسرا والمملكة العربية السعودية من أجل التوصل إلى الامتثال لإعلان جدة، ووقف الأعمال العدائية ووصول المساعدات الإنسانية وإنشاء آلية لمراقبة التنفيذ.
وفي رده على بلينكن، أكد البرهان رفضه توسيع دائرة المشاركين في جنيف، مشددًا على موقف السودان الثابت من الالتزام بتنفيذ إعلان جدة وفقًا للرؤية التي تم تقديمها لأطراف منبر جدة، وإن كان قد ترك الباب مفتوحًا للمشاركة في جنيف في حال تنفيذ الاشتراطات السودانية الخاصة برفض توسعة المشاركين في الحوار، ومشاركة الوفد السوداني ممثلاً عن الحكومة ومجلس السيادة وليس عن الجيش.
ويرى المراقبون أن مضمون الأهداف التي دعا إليها بلينكن في اتصاله بالبرهان حول وقف إطلاق النار، وفتح ممرات آمنة للإغاثة، ووضع آلية لمتابعة التنفيذ، جميعها مطالب شدد عليها منبر جدة، وبالتالي كان من الأولى أن يتم تنفيذ هذه المطالب وفقًا لمنبر جدة دون الحاجة إلى نقل المفاوضات إلى جنيف لتنفيذ نفس المطالب، وهو ما يكشف عن أن الموقف الأمريكي يسعى إلى تحقيق أهداف أخرى غير تلك المعلنة على لسان بلينكن أو المبعوث الأمريكي في السودان.
جبريل إبراهيم يفضح
كشف جبريل إبراهيم، وزير المالية السوداني، عن لقاءٍ جمعه بالسفير النرويجي أكد فيه أن أمريكا والغرب يرغبون في تجميد الوضع كما هو، مما يعني استمرار وجود الدعم السريع بين المدنيين، وهو أمر غير مقبول للشعب السوداني.
وقال “إبراهيم”، “المبعوث الأمريكي أخبرنا أن لا تظنوا بأن أمريكا تستطيع فرض قرار على الإمارات لوقف تقديم الأسلحة للدعم السريع، أو منعها من تقديم دعم مالي له، لأنها دولة قوية بمواردها المالية، لكننا نقوم بممارسة ضغوط عليها”.
وكشف جبريل إبراهيم عن محاولة إيقاع فتنة بين السودان والسعودية، حيث قال إن المبعوث الأمريكي أبلغنا أيضًا أن السعودية لا ترغب في تحقيق بيان جدة الداعي لانسحاب الدعم السريع من المدن والمؤسسات المدنية السودانية، وفتح ممرات آمنة للإغاثة، وأن الولايات المتحدة الأمريكية لا تريد من السعودية سوى تمويل ودفع فواتير الوفود المشاركة في المفاوضات في جنيف.
وأوضح أن “البرهان” أصر على أن يمثل الوفد الحكومة وليس الجيش، وأن يتولى قيادته وزير من الحركات المسلحة التي تقاتل إلى جانب الجيش.. مشددًا على أننا لن نرسل وفدًا من الجيش إلى أي مفاوضات.
وهكذا يتضح من خلال كل تلك المحاولات الأمريكية لاختطاف منبر جدة إلى جنيف أن الإدارة الأمريكية قررت عدم تنفيذ بيان جدة الداعي للسلام، وأنها تخطط لتشريع وجود الدعم السريع كقوة عسكرية وسياسية فاعلة بعد الحرب عبر حشد دولي كبير خلف مطالبها.
فشل جنيف
ويرجح المراقبون للشأن السوداني فشل مفاوضات جنيف للأسباب التالية:
1 ـ عدم مشاركة مجلس السيادة يفرغها من مضمونها، لأن القوة الفاعلة الحقيقية التي تسيطر على مفاصل الدولة وهي الجيش غير ممثلة في هذه المفاوضات.
2 ـ أن الأهداف الأمريكية من الجولة تتعارض تمامًا مع ما هو معلن من رغبة في تحقيق السلام، وأن جميع الأطراف العسكرية والسودانية أصبحت على معرفة تامة بهذا الأمر.
3 ـ أن هناك مَن يرى أن أمريكا تحاول تجميد الوضع عند حدود إبقاء الدعم السريع بقوته الحالية، ووقف انتصارات الجيش السوداني إلى حين الانتهاء من انتخابات الرئاسة الأمريكية ربما تجهيزًا لتدخل عسكري مساند للدعم السريع مع الرئيس الأمريكي القادم.
4 ـ تغييب جامعة الدول العربية ومحاولة تهميش الدور المصري، مع استبعاد الفاعلين السودانيين يرجح فشل هذه المفاوضات التي يبدو وكأنها تدور بين طرف واحد.
أخيرًا، أظهرت مناقشات الأيام الأولى للمفاوضات توقفها عند المستوى النظري الذي لا يدفع في اتجاه الحل، ولكن فقط هي خطوات تجميد لوضع السودان حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، واستباقًا لإجهاض العلاقات السودانية المتنامية مع روسيا من ناحية، ومع إيران وخاصة في مستوياتها العسكرية من ناحية ثانية.