ليمانيات / د. إدريس ليمان

برضوا شاعر ما كفاني ..!!

فى أُمسية رمضانية باردة جمعتنى بأحد الإخوة ممن أخرجتهم الحرب من ديارهم قسراً فى إحدى مقاهى الإسماعيلة الجميلة التى يطلق عليها أهلها باريس الصغرى لنظافتها وإتساع شوارعها وحدائقها ومتنزهاتها التى تُبهِج الروح كُنَّا نُناقش الهم العام وما آلت إليه الأوضاع ببلادنا وَوَقَعَ كِلَانا فى مصيدة النوستالجيا وأفيونها القوى ودوختها اللذيذة التى لعبت بذاكرتنا المثقوبة لعبة التنويم المغناطيسي .. فكان إجترار الذكريات والعودة إلى أرض التاكا وضفاف النيل والماضى الجميل بإعتباره ملاذاً آمناً أتاح لنا هروباً مؤقتاً من اللحظات الراهنة وحقائقها المؤلمة وقساوة الغربة إلى اللحظات الهاربة فى الماضى وفى قاع الذاكرة ، تحدثنا كثيراً عن ماضينا بكل بؤسه وجماله وروعته ، وبكل أفراحه وأتراحه بالإكراه النوستالجى ..!! تحدثنا عن الراهن السياسى والأمنى ببلادنا وعن القضايا الجوهرية الجديرة بالنقاش سياسياً وأمنياً وتنموياً ، والقيم المرجعية التى ينبغى أن تحكمها .. !! تحدثنا عن شراسة الحرب ضد المواطن الأعزل وكيف أنها كانت تزدادُ يوماً بعد يوم إلى أن أصبحت فى طريقها إلى الزوال وكيف أن المواطن خاض غمارها بقلوب شجاعة وأيدٍ خالية من السلاح رغم أنها كانت مغامرة غير مأمونة العواقب مع تلك الكائنات الغريبة التى لم ترتدى ثوب الإنسانية فى مسيرتها القاصدة لإقامة المملكة الجنيدية حتى نقول أنها تجرَّدت منها فى أرض السُمُر .. وظللنا نتحدث ونحن نسترق السمع والبصر لإحدى مباريات كرة القدم حيناً ونستمتع بطنين الكركرة وتراقص الدخان حيناً آخر .. وهل نحن نُجيد أمراً غير الثرثرة ..!!؟
وقال لى محدثى إن الحرب أصابت معظم أهل السودان بالإكتئاب ، فالشفشفة أزالت الطبقية وجعلتهم والعدم سواء .. فالكل مهموم بالبحث عن لقمة العيش وتعليم الأبناء والكل قد لجأ إلى أفيون الوسائط ليتناسى به همه .. ومن وجد عملاً فى ملجأه أو مكان نزوحه فإن المقابل لايكفى لسعر الكفن .. !! وإستمر فى مرافعته قائلاً إنني لستُ من أولئك الذين يُجهدون أنفسهم في البحث عن تفسيرات و تأويلات التعديلات والترقيعات التي تشهدها الحكومة فى بلادنا من حين لآخر ، وذلك لاعتقادي بأن تلك التعديلات والترقيعات لا يمكن تفسيرها بعيداً عن المزاج السامي لسيادته ، ولا عن تلقبات ذلك المزاج التي لا يمكن تفسيرها إلإّ بعد فك طلاسمها وشفرتها .. وأنا أهز رأسى مرةً من فوق لتحت مؤمَّناً لما يقول ، وأهزه ثانيةً من الشمال إلى اليمين وبالعكس مستنكراً لما يقول ..!! وفجأةً قفز إلى موضوع آخر بعيداً عن السياسة وقريباً من الفن والوجدان السودانى قائلاً : إننى أشُكُّ بأن أولئك الأوباش يُناجون القمر وهو بدرٌ مكتمل فى ليالى الصيف فى باديتهم ..!! فالأشوذ لا يُحسن العزف على أوتار المحبة لأنه ولِدَ سِفاحَاً ورضع الخِيانة ( بالشَطُر الشمال ) لأن اليمين كان من نصيب زامر الحى الأشتر الذى ظل يردد يالمُرضعانى الطِيبة بالشطر اليمين ..!!.. والأشوذ لايُحسن الغناء لأم قرونه التى تسير منذ شهور ( أم فَكُّوا ضارباها الطراوة ) بعد أن رهنت ما تستر به عورتها وموضع عفتها ليرفرف ( كبيرق ) فى عربة قائد المليشيا ولم يسمع بالعندليب يردد : الزاهى لونكِ حبيت عيونكِ وعشقت طبعك وجمال فنونك ..!! ولا يعرف لهفة العشاق ولا لوعة الأشواق ولا حتى غاية الآمال ليُخاطب القطار متوسلاً إليه ليُسرع فى سيره للحاق ( بسيد النَّاس ) : يا قطار الشوق حبيبنا هناك يحسب فى مسافاتك .. ولو تعرف غلاوة الريد كنت نسيت محطاتك ..!! وحتى كبير الأشاوذة وكل كهنته وسحرته الذين أتى بهم بعد أن أرسل فى الضواحى وطرف المدائن الأفريقية حاشراّ لهم لا يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا المعنى العميق ولو سحروا أفئدة الناس : لو خُطاك بِخلَت علينا نحن بى شوقنا بنجيها ..!!؟
فكل الذى يعرفه الأشوذ هو شفشفة البكاسى عشان أم قرون .. مع إنوا قدامه الطريق هو عارفه يا العفينة إنقفل ( فى جبل أولياء ) فما فى ليهو قسمة ولا حتى بصيص أمل ..!! بس جغم وفتك ومتك بلغة الشباب المقاتل ..!!
وحينما إنتهينا من مسامرتنا الماتعة وأفقنا من سكرتنا الحلال وليت أنَّا لا نُفيق وجدنا أن ليفربول قد إنجغم والأهلى قد إعتذر ( رغم أننى لا أهتم بالدوريات ) فَكَسرتُ إبريقى والدَنَّ وسكبتُ على الثَّرى كأسى .. !! فيأيها الوطن الغالى : لو أحبك أنا عمرى كلو برضو شاعر ما كفاني ..!!
حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .
✍🏼 لواء شرطة (م) :
د . إدريس عبدالله ليمان
الأربعاء ١٢ مارس ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!