المتأمل فى الجغرافيا السياسية لمنطقة الساحل الأفريقى وجنوب الصحراء خلال السنوات الماضية يجد أنّ المنطقة شهدت صعوداً للمليشيات الإثنية ( بمسميات مختلفة ) فى مالى والنيجر ونيجيريا بوركينا فاسو وغيرهما تحت ذريعة مكافحة الإرهاب والتمرد على الدولة وسد الفجوات الأمنية تحت سمع وبصر حكومات تلك الدول التى صنعتها ورعتها وباركتها ومن ثم عجزت عن السيطرة عليها وضبطها بعد أن إزداد نفوذها وإتسعت أنشطتها وسيطرت على الموارد الطبيعية وملأت الفراغ الأمنى .. وبعد أن شهدت تحولاً فى عملياتها وأضحت تشكل تهديداً أمنياً لتوهمها بأنها تتمتع بسيادة شبه مطلقة للدرجة التى أعطت نفسها الحق فى إستغلال الموارد دون أن يكون للدولة الحق فى الحصول على عوائدها .
والنموذج السودانى يتفق مع تلك المجموعات فى السوء ويتفوق عليها بأنه الأسوأ .. فعند إندلاع التمرد فى دارفور فى العام ٢٠٠٣م بالهجوم على الفاشر وإحراق الطائرات فى مرابضها ، ومن ثم الهجوم على مُدُنٍ أخرى كادت الدولة أن تفقد السيطرة على هذا الإعصار المفاجئ وتوالى سقوط الحاميات الصغيرة على إمتداد الجغرافيا الدارفورية لإنشغال معظم قوة القيادة الغربية فى جبهات القتال بشرق وغرب الإستوائية آنذاك ، وفى النيل الأزرق وجنوب كردفان وشرق السودان .. بل كادت أن تفقد سيادتها على الإقليم كله .. فهداهم تفكيرهم ( أى قادة الإنقاذ ) لمواجهة خطر التمرد الذى لم يكن يتوقعه أحدٌ منهم ولم يتحسبوا له بإخراج المحكومين والمدانين والمنتظرين فى جرائم النهب المسلح وغيرها ممن ينتسبون للقبائل العربية من السجون ، وأضافت إليهم آخرين وأمدَّتهم بالمال والسلاح والمركبات والزَّى العسكرى وأطلقت عليهم لقب التائبين إبتداءًا ثم أطلقت أيديهم لمواجهة هذا العدوان كأكبر حماقة أمنية ترتكبها وأغبى قرار سياسى تتخذه ..!! وتلقفت تلك المجموعات هذه المنحة الثمينة والتى يبدوا أنها كانت تتحيَّنها فبدأت فى القتال وتحقيق إنتصارات مشهودة على التمرد ومنسوبة للقوات المسلحة ، وفى ذات الوقت عملت على تنفيذ أجندتها الخاصة وطموحها فى الإستيلاء على أملاك غرمائهم من الإثنيات الدارفورية ( الأصلية والأصيلة ) وتصفية خصوماتها القديمة معهم وشعارهم فى ذلك ( النصر لكم والغنيمة لنا ) والدولة حينها كانت تَغُضُ الطرف عن تلك التجاوزات لتقديرات تخصها ولكنها ظلت كوصمة عار إلتصقت بتأريخها ..
وعندما تجاوزت تلك المجموعة وقائدها هلال الدور الذى أُسنِدَ إليهم وتطاولوا على الجهة التى صنعتهم وإزدادت مطامعهم وشراهتهم للسلطة تمت صناعة مجموعة أخرى أكثر إنتهازية وأكثر ميكافيلية ( الدعم السريع ) بذات الغباء السياسى بل وبقانون وتشريع هذه المرَّة الأمر الذى جعل منها لاعباً أساسياً فى المشهد العام بعد ذهاب الإنقاذ وتَغَيُّر المعادلات السياسية وتَبَدُّل ميزان القوى ، فأُتخِمتْ بالغِنى من ذهب جبل عامر وإمتلأت خزائنها بالدولار ومعسكراتها بالسلاح والرجال .. وأصبح بعضهم يتودد إليها خوفاً من بندقيتها والبعض الآخر طمعاً فى ماعندها من جاهٍ ومال .. والكل متضايقٌ من وجودها والكل يلعنها سِرَّاً .. !! حتى إذا إزِيَّنَت وظن كبير آل دقلو ( كبير أخوانه ) أنه قادرٌ عليها لقِصرٍ فى الإدارك وضعفٍ فى البصيرة أخذه (حمار النوم ) إلى شُرفة القصر الجمهورى وهتف بطريقة عادل إمام ( أنا الزعيم ..!! ) وخرج عن طوع الدولة وإرادتها ولم يَعُد يُفَرِّق بين قُرى المساليت وقرى المسلمية فأعمَلَ فى جميع أهل السودان ذبحَاً وتقتيلاً ، ومن نجا من القتل لم يَسلَمْ من الإهانة والخروج من داره وقريته حافياً ..!! وتلك الفظائع أوردت المليشيا الهلاك ومصارع السوء وأخرجتهم من ذاكرة ووعى وإدراك ووجدان وتأريخ وجغرافية السودان للأبد .
وكل المعطيات الميدانية تُشير الآن بأنَّ الحرب تمضى إلى نهاياتها .. وسيتفاجأ الإنسان السودانى رغم متابعته ليومياتها ثانية بثانية بحجم الخراب والدمار الذِّى خلفته المليشيا عن عمد بمسح ذاكرتنا وتأريخنا وإتلاف وثائقنا ومراكز بحوثنا ومكتبات جامعاتنا .. الأمر الذى يستوجب وضع سيناريوهات لمستقبلٍ آمن حتى لا ندخل فى دوامة العنف المضاد للعنف الحضرى الذى صاحب الحرب .. فكم كان أمراً موجعاً ومحزناً وأكثر إيلاماً للنفس من مخازى المليشيا نفسها أن تنقل الكاميرات للعالم سوءاتنا وهذا الخزى لأولئك القوم من بعض أماكن الهشاشة الأمنية بالخرطوم وهم يحملون على ظهورهم كالدواب كل الأمتعة والمدخرات من المساكن المجاورة .. فعندما يعود الناس إلى منازلهم ويجدونها خاوية على أعمدتها سيستعيدون تلك المناظر من قاع الذاكرة ولربما يكون ذلك سبباً فى إشعال فتيل الإنتقام فى ظل وجود من يحمل البنزين ليصبه على النار لإستجداء التدخل الدولى .
لقد خلقت هذه الحرب الملعونة وضعاً أمنياً هشّاً وهياكل للحكم تعانى ضعفاً بنيوياً وتداعيات إنسانية مدمرة .. الأمر الذى يتطلب منا جميعاً كسر طوق المخاوف الأمنية والإستثمار فى بناء السلام والمصالحات القبلية ، والعمل على التنمية الإقتصادية وتعزيز قدرات المجتمعات المحلية بما يُمكِّن من تحقيق الإستقرار بكافة تنوعه وأشكاله والتخطيط الإستباقى وفق أسوأ السيناريوهات لتأمين البلاد من التحديَّات الداخلية والخارجية .. فهذا التنوع الإثنى الذى ننعم به وهذا الموقع وتلك الثروات يُعدُّ من مقومات النهوض من الكبوة ومن مقومات النهضة أيضاً .. وكل ذلك يتطلب إرادة صادقة وإستعداد لحماية المصالح الوطنية بحزم حتى لا تحدث كارثة أخرى فالتأريخ لن يرحمنا ويسامحنا مرتين .. فالبديل عن الإنتباهة والإستفاقة والإصلاح الحقيقى هو مستقبلٌ مظلم لايختلف عن المآسى التى أورثتنا إياها المليشيا بحربها المشئومة .. فهل نتخذ قرار الحزم اليوم لمنع تكرار سيناريو آل دقلو غداً .. !!؟
نأمل ذلك ونرجوه .
حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .
✍🏼 لواء شرطة (م) :
د . إدريس عبدالله ليمان
الإثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤م
Check out my latest blog post here. https://chemezova.ru/