لقد قُلنا لأنفسنا، أنَّ الحُرُوب لا يمكن أن تتوقف ما دامت الأمم تعيش على مثل هذه الدَّرجة من الاختلاف، وما دامت قيمة الحياة الفردية تُحسَبُ على مثل هذه الدَّرجة من التبايُن، وما دامت العدوات التي تُقسِّم بينهم تمثل قُوى غريزيَّة في العقل على مثل هذه الدَّرجة من القُوَّة.
سيجموند فرويد – (أفكارٌ لأزمِنَة الحَرْب والمَوْت)
المحبوب عبد السلام
يتعلق الرَّضيع بعالم الأشياء ويرفض حتى تخليصه من فضلاته، ويحتجُّ لحدِّ البُكاء على ذلك، ولكن متى استغرق الإنسان فى النُّضج، يعلقُ الصَّبي إلى المُراهقة بأمِّه وأبيه، وتتملكه المُقارنة بينهما، بل ويُقارن العالم كله إليهما، أو إلى أحدهما، فذلك عُمرٌ ما يزال بكراً، يحيا فيه الإنسان بكامله في عالم الأشخاص، إلَّا من ومضاتٍ تُؤشر للمُستقبل، حيث يرتاد الإنسان عالم الأفكار ويرتاد الوعي ويُؤلف الرُّؤى التى ربَّما ساقت التاريخ إلى الحضارة، وقد تستمر حالة التعلُّق بعالم الأشخاص، فتفرز ظاهرة المُراهِق المُزمن المُنفعل دائماً بالمشاعر الحادَّة التي يفرزها التعلُّق بذلك العالم. حال الفرد باجتماعه تُصبحُ حالة المُجتمع فتغرق مُجتمعاتٍ لقرونٍ في طوطم الأشياء والخُرافة، وربَّما تصارعت وتفانت في عالم الأشخاص وطموحات الأفراد، وربَّما انقدحت فكرة في معادلة التراب والوقت وتبدَّلت الأفكار وتغيَّر التاريخ، أو كما لاحظ المُفكر المُسلم الكبير مالك بن نبي عندما أبصر تجلي الفرد في المجتمع، وهُو يتأوَّل حديث النبي عليه الصَّلاة والسَّلام، أنَّ المؤمن في تلقيه للرسالة قد يكون مثل أرض طيِّبة تقبل الماء وتهضمه وتُخرِجُ الكلأ والعُشب الكثير، وتبقى طائفة أخرى تمسك الماء، فيشرب منه ويسقي ويزرع ويستفيد منه آخرون، بينما فئةٌ ثالثة تبدِّد الماء المِهطال، ويأسن قيعان، فلا تمسكه ليُفاد منه ولا تهضمه فتُنبِت الزرع والكلأ، فالحديث المُتفق عليه بينهم قد يتجلى في مجتمعاتٍ تستفيد من الحضارة وتُفيد بها، بينما تحفظ مُجتمعاتٍ كسبُها الحضاري لآخرين، يأخذون منه وقد كفت منذ عهد طويل عن الاستفادة منه، وهنالك دورة ثالثة تَفسَدُ فيها الحضارة بالتمام، فلا تُحفظ ولا تُعطي ولا تستفيد.
بعد ثورة ديسمبر في السودان 2018 وسقوط نظام عُمَر البشير الآسِن وزُمرته، سطعت ظاهرتان لأوَّل مرَّة في تاريخ السُّودان المُعاصر، هُما “لجان المقاومة” التي نظمت مشاعر الاحتجاج وحوَّلتها إلى ثورة، ثم ظاهرة “قُوَّات الدَّعم السَّريع” التي احتلت فجأة المناطق الإستراتيجيَّة في العاصمة القوميَّة وانتظمت بأعدادٍ كبيرة، خاصَّة في ميدان الاعتصام أمام القيادة العامَّة للقُوَّات المسلحة السُّودانيَّة. ما يجمع بين القُوَّتين المُتقابلتين هُو العُمرُ الشاب المذخور للمستقبل بالخير الكثير، ثمَّ ما يحمله معنى المُقاومة من مرحلة ثانية تأخذه من السَّالب إلى المُوجب، من هزيمة المُستبد إلى بناء الوطن، ثمَّ السَّالب الأخطر، الذي تحمله وظيفة القتال التي هي مهنة الدَّعم السَّريع، وما تقضيه المسافة الأطول من الحرب إلى السِّلم، ثمَّ إلى البناء، ثمَّ الفارق الآخر الذي يحمله كل ما يشير إليه مُكوِّن شباب لجان المقاومة من أيادٍ تشير إلى المستقبل، وسواعد تحلم ببناء مُجتمعٍ مدني ديمقراطي، وما تُجسِّده عناصر الدَّعم من تجمُّعٍ قبلي قبل سياسي، وما تنفعل به من ماضويَّة تُناقِضُ مُقضيات المُجتمع الحديث. ولكن، هل كانت بِنيَة المُجتمع الواهية بعوامل لا تُحصى وبِنَاء الدَّولة السُّودانيَّة ذو الهَشَاشة قادرٌ على أخذ تلك الطاقات الشابَّة وقطع المسافة الشاقة في الطريق الوعر؟ ثمَّ هل كانت لحظة الثورة قادرة لتقديم ما تحتاجه تلك الطاقات، بل ما يحتاجه الوطن من فكرةٍ وقدوةٍ، أمَّا أنها كانت غارقة بعد نشوة النَّصر المُباغت في عالم الأشياء والأشخاص؟ هل كانت قيادة الثورة – مهما تكُن – جانحة للسِّلم والتسامُح، أمَّا مُتلمِّظة للثأر والانتقام؟
بقيَّة المشهد المحيط بالفئتين كان كما وصف نيلسون مانديلا الليل: “لم ينقشع تماماً والفجر لما يزل بين يديِّ الميلاد”، لحظة رماديَّة تحتاج بصراً حديداً غير أعشى، كنا أبعد ما نكون عنه بالنظر إلى أحزابنا وقُوانا الحيِّة، أو التى ينتظر أن تكون حيَّة، أغلب المُخضرمين كانوا يظنون أننا أرضاً تشرب الماء وتُنبِتُ العُشب من كثرة ما جرَّبنا الانتقال في تاريخنا المُعاصر. قال أحدُهُم – رحمه الله – بعد أسابيع من الثورة، وتحديداً عندما دعى الفريق البُرهان القُوى السياسيَّة لتقديم حُكومة خلال أسبوع فعجزوا: «كُنتُ أتوقع كل شيء إلَّا أن تكون المُعارضة غير مستعدَّة، أو بالأحرى هي مُستعدَّة لمكاسب ومكتسبات غير مُقتضيات الانتقال وأجندته الواضحة: حكومة يتصدَّى لها فنيُّون مُؤهَّلون بالتمام، ولهُم نظرٌ في السياسة واتجاه تلقاء إكمال مهام الانتقال، إذ لا تكاد تجد مُحايداً مُتجرِّداً من كل انحياز، بل بعض الانحياز والتجربة في السياسة مطلوبٌ، ثمَّ مجلسٌ تشريعي يتراصَّ فيه الوطنيون بالتساوي، أو ما يشبه التساوي، إذ لا نكاد نجد معياراً مُعيَّناً يُفضِّل البعض على البعض، إذ تباعدت السنوات بيننا وبين آخر انتخابات حُرَّة نزيهة حتى نعود إلى نتائجها، تُعيننا في حساب الأوزان، ثمَّ مُفوضيَّات على رأسها العدالة الانتقاليَّة، فالسُّودان يحتاج لاصطفافٍ تتصالح فيه كُتلٌ أعيتها الحرب، وليس استقطاب يُعيدُ إنتاج الأفكار الخاطئة تجاه بعضنا البعض».. فالثورة السُّودانيَّة كانت أحوج ما تكون إلى روح مسيحيَّة تعلي التسامُح فوق كل قيمة لحظة الانفعال والانتقال، وتلك فكرة انتبه لها المُفكرون بعد الثورات الأوروبية كافة، فكتبوا عميقاً رسائلهم في التسامُح التي تُبدِّل سيكلوجيا الجماهير الهائجة المُتلمِّظة للدماء وتُحيلها طاقاتٍ فاعلة للتعاوُن والتكامُل، ثمَّ مُفوضيَّات أخرى تحتاج لرُؤى وأفكار أقل، ولكن إلى إخلاصٍ أكثر واستبصارٍ بالفنيَّات، شأن مفوضيَّة تعداد السُكَّان ومُفوضيَّة الانتخابات، ثمَّ ما يجمع ذلك من مفوضيَّة الدُّستور التي تحدِّد وفقاً لنصِّه منظومة الحُكم وعمل المجلس التشريعي ومسؤوليَّات الحُكومة، ثمَّ قسمة الدوائر الانتخابيَّة مهما تكُن، جُغرافيَّة أو فئويَّة، ولائيَّة حُرَّةً أو نسبيَّة، ومواقيتها.
لكن فترة الانتقال كانت ممارسةً للحرب بوسائل السياسة، على نقيض المقولة الرَّائجة في عِلم السياسة للجنرال البروسي كارل كلاوزفيتز قبل قرنين من يومنا: «الحربُ هى استمرارٌ للسياسة بوسائل أخرى»، ورغم أنَّ المعهود هو الدخول من عهد الثورة إلى عهد الفوضى في سائر تاريخ الثورات الأوروبية، فإنَّ النجاح في الانتقال من الثورة إلى الدَّولة، الذى يعقُبه الفشل عبر ثورتين في تاريخنا المُعاصر (١٩٦٤، ١٩٨٦) كان يُغرينا بأنَّ الدُرُوس القاسية بعد ثلاثة عُقود ربَّما أفادت ثورة ديسمبر 2018 وألهمت قيادتها أن تنصَبَّ فوراً لمهام الانتقال بعد أن تفرغ من الثورة، ولكن أوَّل الحرب كان شعار “أي كوز ندوسه دوس”، ثم أعقبه – وربَّما نتيجة له – الحربُ الثانية الأشدَّ مضاضة لأنها تمس الجَّسد والروح، ولم تكتف برفع الشعار فقط، أعني جريمة فض الاعتصام، ورغم أنَّ القاتل والمقتول وأديب يعرف والضحيَّة، فإنَّ الحادثة الكبيرة ما تزال مُقيَّدة ضدَّ مجهول، بل ربَّما ذات الذي اختَلَقَ شعار أي كوز دبَّر جريمة فض الاعتصام، فنحن في دُنيا يسودها الشك وتغشى أهلها الرِّيَب، وهي دُنيا لا خير فيها، كما يقول المحجوب في قصيدته، فلقد شهدتُ أحد الأصدقاء الحادبين على طهارة الثورة يُؤلف الشعارات ذات المعنى، ويوزعها على التجمُّعات قبل أن يتفاجأ أنَّ كل تجمُّع زوَّده بالشعارات التي تجمع ولا تفرِّق، وبمُكبِّر الصَّوت المحمول، ظهر فيه شعارٌ أي كوز مع مكرفونين محمولين وليس واحداً.
بالطبع توالت الحُرُوب.. حرب لجنة التفكيك التي عبثت بأهم مضمونٍ للثورة، وهو حُكمُ القانون، وبأهم قيمة هي رسالة التسامُح، ثمَّ حرب الإقصاء حين كان كل الحادبين ومعهم المُجتمع الدَّولي يدعو إلى الشُمُول، كما إنَّ من أخطر الحروب هي التي تقع بالسلب والامتناع والتقاعُس عن أداء الموجب أو الواجبات، فإنَّ أخذها بقُوَّة مُقدَّمٌ على نيل الحُقوق، إذ لم يقُم المجلس التشريعي أبداً وقد كان حلاً لاستيعاب قُوى الثورة الحيَّة ومدارس المُجتمع الفكريَّة كافة والمُجتمع الأهلي، وكل أقوام وشُعُوب السُّودان – كما يسمينا عن حقٍ الدكتور منصور خالد – فإنَّ أكبر الخطل كان ولا يزال أن نُطلق عبارة الشَّعب السُّوداني ونحن نعني فئة وجهة بعينها في تجاهُلٍ، بل واحتقار لأخرى، أو يستفيض كاتبٌ فى الوسائط – المبذولة بسخاءٍ والمُبتذلة بإهمال – عن الشخصيَّة السُّودانيَّة وهي يعني واحدة من نُخبة بعينها. كما تقاعسنا أيضاً عن قيام أدواتٍ بالغة الأهميَّة والخطر، لا تقوم جهازاً فنياً فحسب، ولكن تمثل رؤية ورأي، وأعني تحديداً مفوضيَّة العدالة الانتقاليَّة، والحاجة الحاسمة لتكامُل الرُّؤى والجُهُود حولها لإنتاج نسخة سودانيَّة ذات أصالة وفرادة وإبداع، كما يحتم تاريخنا المعقد.
أسوأ ما في هذه الحرب، أنه كان من الممكن تجنُّب وقوعها، كما ذكر كاتبٌ غربي مُختصٌ بالكتابة عن السُّودان، وحتى لا يُسارع المهووسون بنظريَّة المُؤامرة، وأن قَدَرَ الغربيين من قَدَر الله، فإنَّ الدِّين والسياسة كلاهُما كانا يمنعان نخبة الحركة الإسلاميَّة في المؤتمر الوطني من التورُّط في صناعة الجنجويد لحرب حركات المقاومة في دارفور، ولكنهم بدافع الغضب من إخوانهم في الشعبي، وبأسبابٍ من البَطَر الذي جلبته أموال النفط، زاولوا خداع النفس، بأنَّ حرب دارفور هى معركة ضدَّ سبعُ سياراتٍ، كما أوهموا أنفُسِهِم بأنَّ معركة الخُرطوم الأخيرة هي سبعُ ساعاتٍ ،وإخوانهم يمُدُّونهم في الغي، وأنَّ الجنجويد في قولهم هُم أرخص أنواع المُرتزقة، نجمعُهُم بجوالٍ من الجُنيهات ونفرِّقهم بآخر، قبل أن يعودوا بآخرة ليقرأوا لنا التاريخ دون أن يُقِرُّوا أنهم يومئذٍ أطلقوا جِنَّاً من قُمقُمٍ، كما تقاعست ذات النخبة الإسلاميَّة عن مقاومة السيد البشير، عندما أراد تلك القُوَّات خالصةً لنفسه، في تحدٍ سافرٍ لمشروعهم، الذي مهما قلنا عنه فهُو مشروع دولة، ولكنهم تقاعسوا مرَّةً ثانيةً وسمحوا له بأن يُؤسِّس جيشاً مُوازياً في مُناقضة سافرة لأُسُس الدَّولة الوطنيَّة حتى التي كان يرعونها ويرجونها. أمَّا النُّخبة المُقابلة والمُناوئة لمشروع الإسلاميين فقد دانت لها الأمور خالصةً عامين كاملين في الزمان الخطر، الذي لا يُجدي تبديده أيامه في مقاهي الشاي والقهوة والنرجيلة، وأمسيات البيوت في الأُنس والنغم، أو في التعويل المُخزي على الأجنبيين، وقد عجزوا أيضاً ضمن قُعُودهم الكبير عن واجبات الانتقال عن استيعاب مشروع لجان المقاومة، فضلاً عن تعقيدات الدَّعم السَّريع، وقد كان مُتاحاً لهُم إذ وقف العالم القوي كله يساندهم ويمدحهم بما لم يفعلوا من ثورةٍ ملهمةٍ للعالم، كما سمحوا أيضاً لديكتاتور آخر أن يربي تلك القُوَّات ويغذيها ويمد لها أسباب البقاء والتوسُّع، حتى غدت جيشاً يصارع جيش الدولة، وغولاً التهمه والتهمهم. والذي لا يقوم بواجبه على الوجه الأتم ويُمعنُ في خطاب الحُقوق دون الواجبات، يكون واهماً مرَّةً أخرى لو ظنَّ أنَّ عدوه سيقعُد عن استغلال تلك الثغرات ويدخل منها وعبرها ليُخرِّب داخل بيته ويُعيد إليه الفوضى التي أشعلها في بيوت الآخرين، فإن كان ثمَّة مؤامرة، فهى مؤامرة مكشوفة تجري علناً بين القادرين والقابلين، بين الصف الوطنى المُتشاكس المُتباغض المُتنابذ بالألقاب، الغارق في عالم الأشخاص، وبين عالمٍ له مصالح في استغلال موارد الدُّول، بل وفي تجزئتها وتقسيمها، وآخر التقويمات التي تُؤكدها دراسات الاقتصاد السياسي، أنَّ ضعف العالم المُتخلف من ضَعف مُؤسَّسات المجتمع المدني فيه، فهي السد المنيع الذي يصُدُّ غوائل المُؤامرة وينهض بالأمة، ومتى ما ضعُفت أو اختلفت، دخل الشيطان بين ثغورها.
والآن ما العمل؟
يبدو السؤال مُلحَّاً، إذ أنَّ المرء قد يفقد أسرته الصغيرة ويُغني الله كلاً من سعته، وقد يفقد حزبه فيرتاد عالماً أرحب، أما أن يفقد وطنه، فسيفقد معنى أن يكون، كما يقول بدر شاكر السيَّاب، ورغم أن الحروب لم تتوقف منذ الاستقلال وقيام الدَّولة الوطنيَّة في الجنوب وفي الشرق والغرب، ثمَّ مأساة دارفور المُريعة التي استقبلنا بها القرن الحادي والعشرين، فإنَّ حربنا الرَّاهنة تبدو تعليماً كاملاً تخرَّجنا فيه إلى البيداء والمجهول بعد أن كانت ثوراتنا وحُرُوبنا الماضية تُلهِمُنا دروساً وعِبَر مُتفرِّقة، فحربُ أبريل قد أصابت الرَّأس، وقد كانت حُروبنا الماضية تشتعل في الأطراف، وما أصدق الشاعر عندما قال: «ما أتعس رأساً مشلول القدمين»، لكن رأسٌ على كُلِّ حالٍ، فقد يكون تعليمنا ناقصاً ولكنه ما يزال قابلاً للتمام، وقد تكون مُؤسَّساتنا الصحيَّة متدهورة ولكننا نملك الخبرات والرُّؤى التي تجعل من المُمكن إصلاحها في كافة ربوع السُّودان، وقد يكون فننا مبتذلاً، ورياضتنا ضعيفة، ولكن لنا ميراثٌ من الأصالة والقيمة قد نعود إليه فنرقى بهما، وقد تكون قُوَّاتنا المسلحة أصابها ما أصابها، ولكنها تبقى قُوَّاتنا، أمَّا أن يتطلع المرء لهزيمة ما تبقى من دولة السُّودان ليبدأ من التيه، فمنطقٌ مُعوجٌ تعوزه الوطنيَّة والإيجابيَّة، فما تزال قضيَّتنا هي البحث عن بندر شاه، كما يقول الطيب صالح: «قضيَّتنا هي البحث عن صيغة لحُكم أنفسنا وعن المدينة»، ولا ريب إذا تغاضينا عن حجم المأساة المهول، الذى خلفته الحرب الرَّاهنة، فما يزال التطلع للبداوة لتجلب المدنية فضلاً عن الديمقراطيَّة قبل أن تثبت فعلاً إرادتها في التحوُّل لمجتمع سياسي هو ضرب آخر من الخبل السياسي ممَّا يصيب السياسيين خاصةً مع اندلاع الحروب وسيطرة أشد الغرائز العقليَّة وحشيَّةً.
والحق، أنَّ أمماً متقدمة دخلت حروباً طاحنة في تاريخنا الرَّاهن وخرجت أكثر قوَّة وأفضل أخلاقاً، أو بالأحرى ديمقراطيَّةً، وتلك عبرة الحربين الأوربيتين الأخيرتين، لا سيَّما الثانية، حيث استمدَّ من ذلك مالك بن نبي نظريته في القابليَّة للاستعمار، فألمانيا رغم الهزيمة المُذِلَّة، ورغم أنَّ أربعة جيوش أجنبيَّة كانت تجثُم على صدرها، سُرعان ما نهضت مع مشروع مارشال، وأصبحت أقوى اقتصاد في أوروبا، فالحالة الأوربيَّة الحضاريَّة مُنذُئِذٍ وإلى اليوم حالةً غير قابلة للاستعمار، بل حالة أمَّة فائضة بالطاقات الإيجابية والبحث والمعرفة، ومسارعة للنهوض والعمل الجاد، فقد نخرُج من مأساتنا الرَّاهنة بدون عظةٍ واعتبار، وقد نتخرَّج بدرسٍ عظيم في الأفكار الحاضَّة على الاصطفاف لإنجاز مشروع الأمَّة السُّودانيَّة الكريمة المُتحضِّرة، وقد نتورَّط مرَّة ثانية في الغرائز الداعية للاستقطاب الإثني والمناطقي، فجُذُور الأسباب المُفضية للحُرُوب في الوطن هي ذات أصول تأسيس الدَّولة، أو هو علاجها وبلسمها الأشفى.. فهل نعود لمنصة التأسيس.. وكيف؟!