كان من الواضح أن العرض الذي اجتهد البعض في تزيينه في تلك الندوة ليس “عرضا أمريكيا” إنما هو اجتهاد ينتظر غباءا من الجانب السوداني ليوافق عليه ويصبح “شبه رسمي”، غباء أو تذاكي يكفي، ليس بالضرورة عمالة!
والعرض هو معاقبة الدعم السريع والوعد – مجرد الوعد – بمكافئة الجيش السوداني إذا وافق.
ممثل الخارجية الأمريكية في الندوة تفادى الخروج من النص الرسمي والذي يتحدث عن “جهود أمريكية” لدعم الوفاق بين الجميع – نعم بين الجميع – ويشير للعقوبات باعتبارها احتمالا واردا ولكنه غير راجح ونبرة الحديث أنه غير محبذ.
ندوة مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة في واشنطون دي سي، والتي كانت لمراجعة تقرير “كسر الحصالة” وهذا هو العنوان الذي اتطوع به بديلا للترجمة المعيبة للعنوان الإنجليزي “Breaking the Bank” والتي جائت “حاميها حراميها”.
البنك طبعا في هذه العبارة ليس “المصرف التجاري” ولكن مقصود به المدخرات الشخصية والتي غالبا توضع في الحصالة الفخارية الصغيرة وأشهرها على شكل خنزير”piggy bank” في أفلام الكرتون، والمقصود هو الحالة من الإفلاس بسبب شراء شيء مكلف، الحالة التي تدفع إلى تحطيم الحصالة.
حاميها حراميها، يصلح عنوانا لمقال في حملة تعبئة وتحريض وليس تقريرا مهنيا من مركز دراسات (يفترض أن يكون محترما) ولكن لأن القصد أصلا هو الحملة وليس المهنية ولا الإحترام تم اختصار المرحلة.
مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة لا علاقة له بالبنتاغون ولا المجتمع الأمني الأمريكي ولا غيره، هو مركز يدور في فلك مجموعة “كفاية” وموقع “سينتري” وأصلا كل ما جاء في تقريره ورد متفرقا ومكررا في مواقع وتقارير هذا “اللوبي” والذي سماه الصحفي الأمريكي آلان بوزويل يوما ما “لوبي الدولة الفاشلة” واتهمه بأنه وراء قسمة السودان وإقامة دولة فاشلة في الجنوب والدفاع عنها والتستر على انتهاكاتها وللمراجعة يمكن قراءة Failed State Lobby ذلك المقال الممتع الذي يتهم اللوبي المعادي للسودان بذرائع حقوق الإنسان أنه غارق في التستر على جرائم حقوق الإنسان، وبمزاجه.
المهم، لوبي الدولة الفاشلة كرر الفشل في الشمال بعد عشر سنوات من الجنوب، إذ تطرف في إسناد تجربة قحت وتشجيعها على الإقصاء “وتمريغ أنوف الخصوم في التراب” ثم تنصل عنها بعد فشلها وتفرغ حاليا لإعادة السودان للعقوبات، رجع للكار الأول وكأن شيئا لم يكن.
وسيعود ذلك المتحدث عن تمريغ الأنوف وغيره ليتمرغ في العمالة لهذا اللوبي.
كان كاميرون هدسون محبطا للغاية في الندوة وقال في الوقت الذي نتحدث هنالك مؤسسات دولة عميقة وأرصدة رجعت للنظام القديم وأهله وأن المعلومات في التقرير ستفقد قيمتها لأن هنالك شركات أخرى ستعمل وأسماء عمل لا علاقة لها بالتقرير ستظهر والزمن يجري والإدارة الأمريكية لم تتخذ العقوبات، ولم يبق الا أن يقول “فشلنا”.
الناشطة خلود الخير كانت أوضح من كاميرون في تقريع ولوم الإدارة الامريكية وتوبيخها وفي المطالبة بمعاقبة الجميع، مجدي أمين أكثر من تحدث عن معاقبة الدعم السريع فورا واستخدام الجزرة والعصا مع الجيش والدولة العميقة.
الوجيهة إيفا كاهان مقدمة الندوة استقبلت سؤالي وانتقت الأسئلة الداعمة للتقرير واعتذرت لنا ضمن الأسئلة التي لا تروق لها، ولطفت الأمر باننا يمكننا إثارتها عبر مواقع التواصل الإجتماعي للمركز.
عزيزتي إيفا، لا عليك هو مجرد سؤال وأنا كاتب صحفي لمدة ربع قرن من الزمان أعرف أين أثيره وستعلمون حينها أنه كان الأفضل لكم مناقشته هناك.
عودة للعرض حول التفريق بين الدعم السريع والجيش في قائمة التربص والترصد.
أولا – لست أنا ولكن الكثير من الخبراء الأمريكان – يقولون أن العقوبات لا تفعل شيئا سوى أنها ترمي بالحكومات والدول الأفريقية في أحضان روسيا والصين.
ثانيا، بعضهم شبه العقوبات بالإفراط في تعاطي المضاد الحيوي لأنه يقضي على البكتريا النافعة وتتطور الضارة، ويفقد الجسم المناعة.
ثالثا – وبكل أسف – هنالك وهم بأن هذه العقوبات من أجل حقوق الإنسان وأنها ستشكل ضغطا على أي حكومة في العالم الثالث لتحسين سجلها في حقوق الإنسان وستساهم في إيقاف القتل وتمكين المعتدلين والديموقراطيين من الحكم ونحو ذلك.
العقوبات بعد إجازتها تدخل في اليوم الثاني في المقايضات الأمنية والسياسية مع الدول المستهدفة، سيقال للناشطين شكرا على جهدكم معنا في معاقبة بلادكم وعندما نحتاج لكم مجددا سنناديكم وما نشوفكم في خير أبدا بإذن الله.
وسيقال للحكومة السودانية في المفاوضات القائمة أصلا، هنالك طلب قديم وأنتم تعرفونه – ولا صلة له بما تكرهون من اتهامات حقوق إنسان – وقد رفضه البشير وهو تطوير مكافحة الإرهاب من تعاون معلوماتي إلى تعاون عملياتي، أي من تبادل التقارير معنا إلى أشهار السكاكين السودانية في الإقليم ودول الجوار لصالح أمريكا.
حسب المصالح والأولويات الجيوسياسية والأمنية الأمريكية فإن تسليم السودان لمعلومات مستمرة عن الإرهابيين أمر مفيد ولكنه غير كاف لأن هنالك “عمليات” مكافحة إرهاب على الأرض في أقليم شرق افريقيا والساحل لكن السودان لا يتعاون إلا داخل حدوده الجغرافية فقط ولم يقصف يوما ما الجماعات الإرهابية في الصومال بالطائرات ولم يرحب بالمقبوضين منهم في سجون سرية ولم يبعث بعناصر قتالية إلى مالي أو نيجريا.
أيضا المطلوب من السودان الدخول في مواجهة مع روسيا في أفريقيا الوسطى ومطلوب منه كذا وكذا في جنوب السودان.
من الجانب السوداني سبب الرفض أن تكلفة هذا التعاون هو أن تجعل من السودان هدفا للإنتقام من جماعات لا حصر لها وأن هذا الأسلوب في مكافحة الإرهاب مجرب وفاشل والدليل “أفغانسان”.
المساكين – من الناشطين – قايلين أمريكا طالبة من الحكومة رفت كيزان من وزارة التربية والتعليم وتعيين قحاتة، وأن السي آي إيه داعمة للقراي وعرض الأزياء في جامعة الأحفاد.
أمريكا – وأقصد الإدارة الأمريكية – غير مهتمة بأجندة التغيير الاجتماعي والحريات الجنسية، بريطانيا ممكن، وفقط إلى حد صناعة كوادر حكم مرنة ولينة وقد مضت في هذا الإتجاه في المنظمات ثم حكمت بهم فترة وفشلوا وفشلت و”نست الفكرة”!
الإتحاد الأوربي قدم مرتبات لعدد 15 موظف في مجلس الوزراء وكان مجبرا على نشر التقرير بعد أن كشفه أحد الوزراء قبيل استقالته في صراعات قحت الداخلية، وهنالك طرف أوربي يترجى الحكومة عدم إثارة هذه القضية وعدم كشف أسماء الـ 15 موظف وحجم مرتباتهم وقصة مبلغ ال 7 مليون يورو لأنه سيعصف بكل الشبكة التي يعتمدون عليها في النقابات ومنظمات المجتمع المدني.
الخلاصة يا اعزائي السودانيين الموهومين بجدوى حملات العقوبات، تأكدوا أن الأمر سينتهي إلى مفاوضات لا صلة لها من قريب ولا من بعيد بدماء الشهداء ولا أحزان اهلهم.
هل العقوبات مفيدة في موضوع حقوق الإنسان وأيقاف الإنتهاكات في السودان والتحول الديموقراطي؟ الإجابة ليست فقط أنها غير مفيدة، بل ضارة للغاية، لأن المقايضات التي تأتي بعدها ستمكن للمكون العسكري أكثر وأكثر، وفي حالة عدم التفاوض مع أمريكا فإن الخيار أسوأ بكثير وهو التبعية لروسيا.
هل الصفقة التي تروق للبعض بمعاقبة الدعم السريع ومكافئة الجيش السوداني مقابل التغاضي والتسهيل لذلك مفيدة للسودان أو حقوق الإنسان أو التحول الديموقراطي؟ أولا هل هي صفقة مكتملة أم استدراج من اللوبي إياه مقابل سمسرة من شركات علاقات عامة أو لوبينغ؟!
بعض هذه الشركات – خاصة عندما تجد زبونا كسولا وغشيما – تكون مثل التاجر الذي يشتري الديك من رجل الغابة بقرشين ويبيع له ريشه بعشرة قروش.
ونعود لاحقا بتفصيل عن العقوبات والموقف الأمريكي من الحوار الجاري الآن، ولكن يستحسن مراجعة مقالي في مركز مبادرات السلام والإعلام الأمريكي عن تقييم السياسة الأمريكية تجاه الفترة الإنتقالية في السودان.