قضيتان اجتماعيتان شغلتا الرأي العام الأيام الماضية، اتخذت السلطات بشأنهما قراراً متعجلاً وبدون دراسة وتروٍ، فقط بناءً على رد فعل الجهة رافعة الشكوى.
ما أنا بصدده الآن هو قرارات السلطة بإيقاف وإغلاق المقاهي أو ما يعرف بـ(الجنبات) في عدد من أحياء الخرطوم.
الموضوع الآخر، هو مطاردة الفنانين الشباب الذين لا يحملون رخصة مزاولة المهنة من اتحاد المهن الموسيقية.
في موضوع الكافيهات، أخطأت السلطات في طريقة المعالجة.. لا ننكر وجود فوضى صاحبت إنشاء هذا النوع من المقاهي لكن الحظر والمنع والعقوبات لا يمكن أن تكون علاجاً.
معلوم أن المدير التنفيذي لمحلية الخرطوم سبق أن أصدر قراراً بإغلاق الكافيهات في الخرطوم على خلفية مشكلة العمارات، بين السكان وما يعرف بـ(الجنبات)، التي لا علاقة للعديد من الكافيهات الأخرى بالممارسات التي رأى سكان تلك المنطقة أنها مزعجة في بعضها، ويجب أن تعالج في إطار جزئي وليس كلياً.
ومعلوم أيضاً أن مناطق الخرطوم كلها أو معظمها صارت تجارية، فالأسواق كالعربي والإفرنجي ما عادت تعمل إلا نهاراً، وتحولت أحياء الخرطوم في شوارعها الأساسية إلى مناطق أسواق، فهي لم تعد سكنية بالكامل بل تجارية، وتعرفة الكهرباء والمياه فيها تجارية.
أصحاب المقاهي امتثلوا لذلك القرار، وانتظروا إجراءً لإعادة تصحيح القرار المعيب الذي كان ينبغي أن يشخص المشكلة تحديداً ويضع مواصفات الخدمة، بجانب تصنيف المقاهي نفسها.
كما أن هناك استثمارات تمت، وهو قرار يصيبها في مقتل وكل منسوبيها من العاملين والطلاب الجامعيين الذين خرجوا لمساعدة أهلهم في الظروف المعلومة، بعد أن فشلت الحكومة والقطاع الخاص المعطل في إيجاد عمل لهم.
أعتقد أن التضييق على الناس كان من أكبر أسباب انتفاضة الجموع على النظام السابق، لإشكاليات ليست فقط في الحريات الشخصية، بل لوجود ملايين الشباب بلا عمل، بجانب الأسباب الأخرى المعلومة للكافة.
من المهم أن تشجع الدولة الممارسة تحت الضوء وسمع وبصر الناس وليس التضييق عليها، وإذا كانت هنالك أية مخالفات للقوانين تتم المحاسبة عليها بالطرق القانونية المعروفة.
بخصوص تعاطي الشيشة والتدخين، برغم أنني على المستوى الشخصي ضدها تماماً، لكن هنالك سؤال لأصحاب المقاهي وعدد كبير من الناس أعتقد أنه مشروع.. إذا كانت الدولة تسمح باستيراد مدخلات الشيشة وتصرح بمصانع تبغها واستيراد التباكو الخاص بها وأدواتها وتتحصل من كل هذه السلسلة إيرادات ضخمة، فلماذا يدفع آخر حلقات هذه السلسلة الثمن، وهم ملاك الكافيهات؟
من الأفضل وضع مواصفات المكان الصحية والإدارية بدلاً عن هذه القرارات المعيبة..
المقاهي صارت للكثيرين، متنفساً وسط الكآبة التي تحيط بالجو العام وضغوطات الحياة المختلفة، والأهم أسلوب حياة، ويجد البعض أن العروض التي تقدمها في الوجبات تناسب اقتصادياتهم وزمن العمل وتكاليف الحركة..
والأهم في موضوع المقاهي، أن وجود الرواد فيها تحت السمع والبصر، والإدارة الرشيدة إذا أحكمت معاييرها، وأفضل كثيراً من بلاوي المخدرات وأزقتها ومجتمعها السري.
أما قضية مطاردة الفنانين الشباب باقتحام الشرطة للصالات، وأماكن الأفراح لعدم حملهم بطاقة تصريح الغناء من مجلس المهن الموسيقية، فهي تعد عملاً غير كريم.. فما ذنب أصحاب الأفراح أن تلغى مناسبتهم بواسطة الشرطة؟ ولماذا سمح وزير الداخلية ومدير عام الشرطة بهذه الطريقة في المطاردة وتحويل الفنانين لـ(9 طويلة) وعتاة المجرمين.
الاستماع إلى الغناء يعتمد على مزاج المستمعين، وليس بالأمر والإجراء المباشر الذي يحدد ويجبر المستمع على سماع أصوات محددة تراها لجنة مكونة من عدد محدود من اتحاد الموسيقيين أنها أصوات مجازة للغناء.. كثير من المستمعين لا تستسيغ آذانهم سماع مجموعة من أعضاء لجنة إجازة الأصوات، في حين يطربون لعدد من الذين تم منعهم.
مهنة ممارسة الغناء تختلف عن بقية المهن كممارسة الطب والصيدلة، والصحافة مثلاً، فهي تعتمد على اختلاف أذواق الناس في الاستماع والتقييم للحن والأداء.
من المفترض أن يقتصر عمل مجلس المهن الموسيقية على وضع الضوابط التي ترتقي بالمهنة، وهي التي تتعلق بالسلوك المهني، بوضع لائحة ملزمة تمنع مثلاً ترديد الأغاني ذات الطابع العنصري أو التي تقلل من شأن بعض الجهات الرسمية أو الشعبية أو أي من مكونات المجتمع، كذلك حظر استخدام النقطة وتشتيت الأوراق النقدية على رؤوس المغنين والمغنيات وهو سلوك مهين للفنان وللعملة الوطنية، وغيرها من الضوابط الخاصة بسلوك الفنان، وليس حظره من الغناء فقط لأن صوته غير مجاز.
كثير من الفنانين أصحاب أسماء كبيرة في دنيا الفن، يحملون كرت مرور من مجلس المهن الموسيقية، لكنهم فشلوا في المرور عبر أذن الجمهور..
دعوا الفنانين والفنانات الشباب ينطلقون في الغناء ليحكم عليهم المستمع.. ولتركز الشرطة على قضايا أهم وأكبر للمجتمع من مسألة فنان يغني على مسرح أو قناة فضائية، طالما أنها مسألة حريات شخصية.. ولا تضيقوا واسعاً..