على شط النيل / مكي المغربي

السياسة الخارجية السودانية والخطيئة الأصلية!

مكي المغربي

في بداية هذه السلسلة لا بد من توضيح القضية ببعض الأحداث للتأكيد على وجودها ولرسم حدودها، لأن هنالك نزعة لصرف الأنظار من الخلل الحقيقي إلى شماعات وطواحين هواء.
على سبيل المثال، ما هو سبب التدخل الأجنبي الصارخ؟ وهل تلام عليه الدول المتدخلة وتتهم بالاستغلال أم يلام السودان وصناع القرار لأنهم وفروا ظروف التدخل؟ ولو أخذنا أمثلة لحالات مختلفة ومنها تدخل السعودية والإمارات لصالح السودان في رفع العقوبات الإقتصادية، ودور قطر الإيجابي في الوقوف مع السودان أيام الحصار ثم إخراج دارفور من الحرب إلى المفاوضات، ودور مصر القوي في رفض تفكيك الجيش السوداني رغم سعي بعض السودانيين لذلك، عجبا!
كل هذا يعني أن المشكلة ليست في مبدأ مساعدة الدول للسودان، ولكن المشكلة فيمن يرغب من داخل السودان في ترسيخ التدخل، ليصبح هو الأصل. مثلا، قد يفترض بعضهم جزافا أن أمريكا لن تتعامل مع السودان إلا عبر دول بعينها، ويسعى جاهدا أن تتولى هذه الدول شأن السودان الخارجي مع أمريكا أو غيرها بالكامل واخراج وزارة الخارجية السودانية والمؤسسات الأمنية من هذا الملف الأخطر. هل العيب في متخذ القرار السوداني، الذي يوافق ويهدر استقلال وسيادة السودان؟ أم في تلك الدول التي سعى لها السودان بنفسه، عبر صناع قراره، لتسليمها أمره؟ هل متخذ القرار السوداني كان عامدا أم غافلا لدرجة أنه صدق “الكذبة البلقاء” أن أمريكا لا تريد التفاوض والتواصل المباشر مع السودان إلا عبر دول بعينها؟
الحقيقة هي أن التواصل مع السودان هو قرار اتخذته أمريكا وناقشته عبر مراكز دراسات ولجنة في الكونغرس على طول العام 2014، وتوصلت إلى (سياسة جديدة تجاه السودان وجنوب السودان) وأعلنتها، ودافعت عنها في نقاش مع مجموعات الضغط هناك، ولم تتدخل أي دولة لصناعة القرار الأمريكي، ولكن متخذ القرار السوداني هو من رغب في المساعدة، وهذا يبطل أي أدعاء آخر، ويؤكد أن السودان بسبب آراء أشخاص وربما منافعهم يضيع الفرص المباشرة ويقزم دوره ودور مؤسساته، والتي بدورها يستسلم فيها كثيرون للأمر ويسبحون مع التيار، وهذا هو نصيبهم من العدوى ولكنهم ليسوا أصل الداء.
هذا مجرد نموذج لإثبات أن الخلل سوداني، مرة مع الخليج، ومرة مع المنحازين لأوربا أو بريطانيا تحديدا،
ويشبهه هذا الملف أيضا العلاقة مع إسرائيل، والتي تمر الآن بذات الإختبار وهو إما أن تكون (مباشرة ومعلنة أو عبر وسطاء وواجهات) فالوضع الحالي للسودان لا يمكنه من قطيعة كاملة مع اسرائيل. وهنا مكمن الخلل، عندما يتحول الملف إلى طلاسم غامضة ويتوهم البعض أنه كرت خطير وحاسم “تحت الطاولة” لا يخرج إلا مقابل وعود وتفاهمات سرية لتعزيز موقفهم بالداخل. هذا غير صحيح، لأن دولة مثل إسرائيل لديها أولويات إقتصادية وسياسية مع السودان والمنطقة، وإذا لم يحدد السودان بنفسه ومؤسساته مساحة (الممكن والممنوع) من التعاون الاقتصادي والأمني المباشر، أكرر المباشر مع اسرائيل، هنا ستبحث تل أبيب عن واجهة وغطاء لها وسيتم استغلال السودان في لحظات ضعفه وخلافه ووهنه عبر الوسطاء والواجهات، وستخرج بأكثر مما تناله بصورة مباشرة وأرخص، لأن الموضوع سيتم خارج المؤسسات المعنية، وبمباركة أشخاص.
هل تلام إسرائيل وتلك الواجهات أم يلام السودان وصانع القرار فيه على “طلسمة” الملفات وتشتيتها؟
بعد هذه الإستدلالات، يسهل سرد فكرتي الجوهرية، وهي وجود “خطيئة أصلية” في السياسة الخارجية السودانية، وأن الحل في مراجعة أمرنا وليس في التحريض ضد أي جهة أو دولة، فهو هروب من الواجب الأساسي في الإقرار بخطيئتنا الاصلية وعلاجها جذريا.
هذه الخطيئة، ولد السودان ببعضها، ولكن تراكمت الأخطاء عبر العهود الشمولية والديموقراطية، ليأت صانع القرار الآن وهو حبيس خيارات ويعتقد أن مبلغ الذكاء والدهاء هو المفاضلة بينها أو ضرب بعضها ببعض بينما هي كلها حلول مجربة من قبل وكلها رديئة ومتناسلة من أخطاء سابقة، ولا جديد فيها، الحل هو في الخروج من الحبس أو من هذا القيد الوهمي الناعم، وليس في اختيار لون الحرير وملمسه.
أصل الخطيئة في نظري أن السودان أصيب مبكرا بـ (التطرف والتطرف المضاد في المواقف)، كما أصيب في ممارسة هذا التطرف بظاهرة مؤقتة جدا يشتكي منها الأمريكان في سياستهم من حين لآخر ولكنها باتت هي الأصل المتمكن في السودان، وهي سيطرة الخلافات الداخلية على العلاقات الخارجية، وهو ما يعبرون عنه، بالتوقف الضروري للصراع في حافة الماء، التي تعادل”الهدام” عند أهل النيل، والذي يسقط فيه الجميع ويغرقون لو تصارعوا. Disputes should stop at the water edge
على سبيل المثال قطع السودان علاقاته مع أمريكا في العام 1967 مشاركا لبعض الدول العربية الغاضبة من العدو الاسرائيلي، بل وقطع علاقاته مع بريطانيا في ذات العام مشاركا لبعض الدول الأفريقية الغاضبة في “مسألة روديسيا”، كان السودان الديموقراطي (الاتحادي والأمة) في معسكر الغاضبين دوما منذ الستينات، وليس للأمر صلة بالأيدولوجيا، إذ لم يكن للإسلاميين سوى أربع دوائر، حتى وإن كانت الغلبة للشيوعيين في دوائر الخريجين والنقابات، ولكنهم أيضا بالرغم من أنهم أعداء الأمريكان كانوا قد تعرضوا لحل الحزب والطرد من البرلمان، وهو بدوره -حل الحزب- رأي قديم للمستعمر البريطاني كما ورد في وثيقة أو برقية أشار لها بعض الكتاب، في نقاش دار مع مبارك زروق، أن نظاما سودانيا كامل الدسم سيكون أفضل لو اتخذ قرار حظر الشيوعيين مستقبلا.
مهما يكن، الخلاصة هي، السودان في فترة ديموقراطية واحدة وعبر ذات الأحزاب، تطرف وحظر الشيوعية وطرد الشيوعيين، وتطرف النقيض لدرجة قطع العلاقات مع أمريكا وبريطانيا.
النميري في الثمانينات طبق الشريعة وأعدم محمود محمد طه، ثم خلال أقل من عامين نزع الإسلاميين من مقاعد السلطة إلى زنازين السجون مباشرة تمهيدا للقضاء عليهم إلا أن الإنتفاضة كانت أسرع منه.
إذن الأنظمة العسكرية والديموقراطية على حد سواء فيها ذات العلل في السياسة الخارجية وفي القرارات المحلية تبعا لإملاءات خارجية.
الآن تدور ذات الدراما مع تغيير أسماء الممثلين، ولن تفضي إلى أي استقرار، سوى التطرف والتطرف المضاد.
القاعدة تقول أن التطرف هو الذي يقود لنقيضه، فالسودان بسبب تطرفه مع معسكر الممانعة مع العراق وفي حرب الخليج، ثم مع إيران، وقبله تأسيس المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي، تطرف مرة أخرى في الاتجاه المعاكس للتحلل من وصف “دول مارقة” وطرد السفارة الإيرانية ودخل في الحرب في اليمن بقواته، بينما لم تدخل مصر بقواتها البرية وهي الأقرب سياسيا وإقتصاديا للتحالف من أجل الشرعية.
إذن، التدخل الأجنبي في السودان يشبه الحالة الأفغانية، لم يعد خطرا على السودان وحده بل بات خطرا على الدول المتدخلة، لأن التطرف لصالحها سينقلب ضدها، مع التغيرات سواء كانت الأنظمة المقبلة ديموقراطية أو عسكرية، وقد رصدنا حالات التطرف في النموذجين.
هذا المنهج السوداني المضرج بالخطيئة، تفاقمت في بيئته سلوكيات وممارسات مؤسسية وشخصية، لم يكن تمرد الخارجية، وانشقاف السفراء المشهور عقب قرارات البرهان إكتوبر 2021 إلا تجسيد لحالة موجودة وكامنة حتى الآن. قبل هذا التمرد وعلى مدى زمن طويل سجل سفراء ودبلوماسيون وضباط أمن وجيش وملحقين حالات من اللجوء والإقامة أو توطين الأسر ثم ترك الخدمة رويدا رويدا، أو فتح المسارين في وقت واحد، فيكون هو في الدبلوماسية أو العمل وأسرته في إجراءات التوطين والهجرة. في مقال سابق شرحنا الفرق بين الحالات الإنسانية النادرة والمصنوعة والمدعاة بما يغني عن التكرار. لكنني أكرر لا يمكن أن يكون كلهم مرضى ومصابين بأمراض خطيرة، هنالك نسبة عالية جدا من الكذب والتزوير.
هذا الأمر يحدث في عدد من الدول، لكن تختلف التبعات، حيث لا توجد في السودان أي تبعات قانونية أو إدارية سوى تسجيل الحالة غياب بالنسبة للمدنيين أو هروب من العمل بالنسبة للنظاميين.
لا يوجد فصل ولا طرد من الخدمة ولاتجريد من الرتبة، ويعود من يعود وهو شامخ الرأس بل صار يتم تفضيله على الكادر الوطني.
تطور الأمر لحالة إزدواج الجنسية والولاء والوظائف ومع أن لوائح الخارجية تمنع زواج الدبلوماسي من أجنبية إلا بموافقة رأس الدولة، ولكنها تسمح بسفير أجنبي الجنسية أن يمثل السودان، وهو قد أقسم الولاء لدولة أخرى وبات خاضعا لقوانينها وضغوطها السياسية تماما.
حتى “الوثيقة” التي منعت الإزدواج لمتقلدي المواقع، أجازت الإستثناء، ومورس في دائرة ضيقة وغرف تفاوض مظلمة، لا يعرف متى تم تقديم طلبات الاستثناء، وماذا كانت جنسية المزدوجين ومن هم؟ ولا يزال الحبل على الجرار.
ولا تزال الساحة التي يجب أن تكون مأمونة على مصالح السودان وأمنه القومي “سوق ملجة” دار فيه شجار فدخله اللصوص والسراق.
نستمر في الشرح والتوضيح ولكن دعونا قبل الإسهاب أن نؤكد وجود بارقة أمل، أو ضوء في نهاية النفق إن لم يكن هذا التعبير قد بات محبطا.
استطاع السودان اتخاذ قرارات إقتصادية صعبة و “لئيمة” ولكنها ضرورية ولا علاج بدونها، لقد كان تحدي رفع الدعم مثل الفطام أو بالأحرى إيقاف جرعة الإدمان، ولكنه تم بنجاح، وأثبت أن الإقتصاد السوداني وان كانت فيه عيوب إلا أن يتمتع بميزة Recoverability
طالما امتلك السودان هذه الميزة في الإقتصاد، ربما تكون موجودة في السياسة الخارجية لو كانت هنالك عزيمة.
(نواصل)

اترك رد

error: Content is protected !!