
▪️هي لحظة فارقة من تاريخ السودان، يتجلّى فيها التلاقي البنيوي بين معادلة تأسيس الدولة المدنية وواجب حماية الأمن القومي. فالسودان اليوم لا يسير في طريق مدنية الحكم من فراغ، بل من واقع إدراك استراتيجي عميق من قواته المسلحة التي وعت، منذ نشأتها، أنّ قيام الدول لا يكتمل إلا بجناحين:
جناح سياسي مدني يقود التنمية والنهضة، وجناح عسكري قومي يحمي الحدود ويصون السيادة ويذود عن المصالح العليا للوطن.
▪️لقد جسّد الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة، هذا الإدراك في خطوات عملية وحاسمة. فحين دفع نحو تشكيل حكومة مدنية مستقلة برئاسة د. كامل إدريس واختيار وزراء من الكفاءات الوطنية، وحين اتخذ قرارًا استراتيجيًا بـ رفع إشراف أعضاء مجلس السيادة – خاصة العسكريين – عن الوزارات، فإنه لم يكن يقدّم تنازلًا سياسيًا بل كان يرسخ قاعدة طبيعية لقيام دولة مؤسسات ، استندت علي رؤية وخارطة طريق تمت إجازتها واعتمادها بعد عكوف مضني ودراسة استوعبت وعالجت عثرات مرحلة الانتقال بعد التغيير في أبريل 2019 .
▪️هذا النهج لم يأتِ بمعزل عن الواقع الماثل، وإنما تأسّس على مبدأ أصيل سبق أن أعلنه البرهان حتي في فترة الاحتدام السياسي قبل الحرب، حين أكد أن القوات المسلحة ستخرج من العملية السياسية مكتفيةً بدورها الدستوري في حماية الفترة الانتقالية وحراسة أمن السودان القومي. واليوم، وبرغم أنّ البلاد تخوض معركة كبرى ضد عدوان خارجي مموّل إماراتيًا عبر مليشيا الدعم السريع الإرهابية وحلفائها السياسيين تحت لافتات زائفة مثل (تقدم وصمود وتأسيس)، فإن هذا النهج ظل ثابتًا وراسخًا ، لأنه أصيلاً .
▪️تتجلّى أهمية هذا الإدراك أكثر في حرب الكرامة، حيث تتقدّم القوات المسلحة الصفوف دفاعًا عن وحدة الأراضي السودانية في مواجهة أطماع إماراتية مكشوفة تستهدف إخضاع السودان وسلب قراره السياسي والاقتصادي. وفي هذا السياق، برهنت القوات المسلحة على أنّها ليست فقط جيشًا مقاتلًا، بل مؤسسة استراتيجية تعي دورها التاريخي في حماية الدولة والدفع بها نحو المدنية، من موقع القوة لا الضعف ، بل بإستحقاق حتمي مدرك من قبلها قبل غيرها .
▪️والقوات المسلحة السودانية التي تحتفل هذه الأيام بمرور مائة عام على تأسيسها وواحد وسبعين عامًا على سودنتها، ليست مجرد جيش وطني ( ديكوري ) إنها مؤسسة ذات إرث فريد، خاضت كل أشكال الحروب : حروب الغابات والصحاري، وها هي تثبت احترافيتها في حرب المدن، حيث أخرجت المليشيا المتمردة من البيوت والأزقة والبنايات والأسطح المائية بقدرات تكتيكية أثبتت تفوّقها على كثير من الجيوش النظامية في العالم.
وعليه، فإننا نتطلع اليوم إلى قادة القوات المسلحة ومؤسساتها وأكاديمياتها ومنظومة الصناعات الدفاعية لقيادة خطة طموحة تتجاوز حدود المعركة الراهنة إلى بناء المستقبل. خطة تتضمن تطوير البنى التحتية للقوات المسلحة، وامتلاك القدرات الرادعة التي تحفظ هيبة السودان وأمنه – فالعالم اصبح لا يعترف إلا بالقوي – إلى جانب إجراء دراسات معمقة لتجربتها المئوية، بما يتيح استنباط العبر وصياغة تراكم معرفي وعملي في إدارة الحرب وتكتيكاتها، لتظل القوات المسلحة دائمًا على مستوى التحديات، وقادرة على حماية الدولة وصون كرامتها.
▪️غير أنّ استكمال معادلة تأسيس الدولة لا يتوقف على تناغم المدني والعسكري ( الحقيقي )،فحسب، بل يتطلب من الأحزاب والقوى السياسية الوطنية أن ترتقي إلى مستوى هذه اللحظة التاريخية. فبإصلاح هياكلها، وتقنين أوضاعها، وتطوير برامجها، تصبح قادرة على الانخراط في مشروع الدولة المدنية الحديثة، بما يضمن التناغم مع المؤسسة العسكرية في إطار وطني جامع. وبهذا فقط يمكن للسودان أن يتحوّل إلى دولة قوية، تملك مقومات النهوض في ميادين التنمية والنماء.
▪️إنّ السودان، وهو يخوض معركة بقاء ضد الطامعين، يثبت في الوقت نفسه وفاءه بمشروع المدنية كمسار لا رجعة عنه. هذا الوفاء لم يكن رفاهية سياسية بل واجبًا وطنيًا يعكس قوة السودان في جناحيه الطبيعيين : قوته المدنية وقوته العسكرية. وبجناحين متكاملين سيحلق السودان نحو آفاق الاستقرار والتنمية والرفاه، ويصبح رسول سلام وخير بالتعاون مع جيرانه ودول الإقليم والعالم، ما دام التعاون يقوم على التكافؤ ومبدأ الكل رابح، لا على شهوة الاستعمار والنهب التي تحاول الإمارات فرضها بواجهات مستعارة، لكنها سرعان ما تتكسر أمام إرادة شعبٍ وجيشٍ أثبت أنه أكبر وأقدر من كل المؤامرات.