✍️ العبيد أحمد مروح *
يستعصي فهم التحولات التي يشهدها السودان منذ أواخر العام 2018 على كثير من المحللين والمهتمين بالشأن السوداني، ويذهب الكثير منهم إلى اختصار المشهد في صورة “ثورة شعبية أطاحت بنظام شمولي، وشعب ينشد الحرية في مقابل طغمة عسكرية مدعومة إقليمياً تحاول وأد أحلام الشعب و الشباب الثائر”؛ والحقيقة أن هذا التصوير للمشهد السوداني لا يعدو أن يكون تعميماً مخلاً أسهم في تسطيح الفهم لما يجري في البلاد وتعقيد أوضاعها.
لقد شكل النظام السابق، بسلوكه الظاهر والمخفي، ومنذ سنيه الأولى ، مصدر إزعاج لقوى دولية وأخرى إقليمية رأت فيه تهديداً مباشراً لمصالحها في المنطقة ومساساً بأمنها القومي، فقد أسهم نظام الإنقاذ – بقدر وافر – منذ بواكير وصوله للسلطة في تغيير أنظمة حكم في ثلاث من دول الجوار إذ كان له الفضل الأكبر في إسقاط نظام الرئيس حسين حبري في تشاد وتسلم الرئيس الراحل إدريس ديبي الحكم في انجمينا في 1990، وكان له القدح المعلى في إسقاط نظام الرئيس منغستو هايلي ماريام في أثيوبيا في مايو 1991 ووصول كل من رئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي والرئيس أسياس أفورقي للحكم في كل من أديس أبابا وأسمرا، وكان لنظام الإنقاذ أيضاً مساهمة مقدرة في دعم ثوار ليبيا، خاصة ثوار طرابلس، وإسقاط نظام القذافي عقب بداية الربيع العربي.
ولم يعد سراً القول أن نظام الإنقاذ استضاف في مطلع التسعينيات مجموعات من المجاهدين العرب الذي قدموا من أفغانستان وعلى رأسهم أسامة بن لادن، وتأسس على أرضه “المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي” الذي جمع طيفاً واسعاً من الإسلاميين والقوميين العرب، كان الكثيرون منهم معارضين لأنظمة الحكم في بلدانهم، كما أنه لم يعد سراً أن النظام السابق قدم أشكالاً مختلفة من الدعم للحركات الإسلامية في فلسطين المحتلة وعلى رأسها حركة حماس، واجتمع على أرضه قادة من حركتي فتح وحماس على رأسهم الرئيس الراحل ياسر عرفات في إطار مسعى سوداني لتقريب وجهات النظر بين الحركتين !
كان هذا وحده كافياً لكي يجعل الولايات المتحدة الأمريكية تصنف نظام الإنقاذ في السودان ضمن الأنظمة الداعمة للإرهاب وتعتبره خطراً على مصالحها وأمنها القومي، وترتب على ذلك جملة من السياسات والمواقف أبرزها فرض حصار سياسي واقتصادي عليه، ودعم معارضيه بهدف إسقاطه، وتحريض جواره الجغرافي – بمن في ذلك الأنظمة التي أسهم في وصولها للسلطة – لدرجة مشاركة بعضهم في غزو أراضيه كما حدث في 1997، دعك عن “الخطر” الذي أصبح يشكله النظام بإقامة شراكة إقتصاديه مع الخصم السياسي الدولي للولايات المتحدة، إذ أصبحت الصين الشريك الأساسي في صناعة النفط في السودان، وهو الثروة التي كانت قد اكتشفتها واستخرجتها شركة شيفرون الأمريكية في أوائل الثمانينيات !!
كانت هذه الخلفية ضرورية، لأنها شديدة الارتباط بما جرى في أواخر 2018 وانتهى بإسقاط نظام الإنقاذ في أبريل من العام التالي، إذ كان ذلك – بغض النظر عن تراكم أخطاء النظام ومشكلاته الداخلية – تتويجاً لالتقاء مصالح عدة أطراف داخلية وإقليمية ودولية، اتفقت كلها على ضرورة ذهاب النظام الحاكم، وإعادة صياغة النظام السياسي والإقتصادي والاجتماعي في السودان بحيث يتم استبعاد أي تأثير لما أسموه “الإسلام السياسي” من مستقبل البلاد، ومسخ هويتها الثقافية من خلال منظومة من القوانين الجديدة و التعديلات على التشريعات القائمة والمناهج الدراسية. لكن مشكلة الأطراف الداخلية التي تصدرت “المشهد الثوري” اعتباراً من الحادي عشر من أبريل 2019 هي أنها تصرفت وكأنها تملك تفويضاً مطلقاً لترتيب أمر البلاد كله، في حين أن أسهمها من الشراكة في إسقاط النظام كانت هي الأقل.
ما إن آلت السلطة إلى الائتلاف الذي كان يقود المعارضة (الحرية والتغيير) حتى بدأ الخلاف يدب بين بعض أطراف الداخل وبين شركاء الخارج حول الكيفية التي ينبغي أن تسير عليها الأمور، فاليسار السوداني ، وعلى رأسه الحزب الشيوعي – والذي عمل بتنسيق وثيق مع “القوى الإمبريالية” لإسقاط النظام – يستعجل تصفية حسابات قديمة مع الإسلاميين ويريد أن يضمن عدم عودتهم للسلطة في مدى منظور، ولهذا حرص على تضمين العزل السياسي في ما سمي بالوثيقة الدستورية، وسن بناء على ذلك “قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو”، باعتبار أن ذلك هو المدخل السريع والصحيح للتحكم في مستقبل البلاد ضمن تدابير أخرى على رأسها تطويل فترة الانتقال لعشر سنوات يتم خلالها إعادة هيكلة الخدمة المدنية والعسكرية والقضائية بحيث يطرد منها كل من يشتبه أن له صلة بالنظام القديم.
ومع إن شركاء الخارج كانوا يشاركون اليسار في الهدف الكلي لكنهم كانوا يريدون الوصول إليه بطريقة تكون أقل حدة في استثارة الرأي العام عبر النظام القديم، الذي يعرفون قدرته على ذلك. فالخارج، وفي قيادته دول الترويكا المعنية بملف السودان (الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج)، أتى محملاً بخيباته في خذلان ثورات الربيع العربي، فلا هو دعم التحول الديمقراطي في تلك البلدان ولا هو دعم التنمية، بل أخذته مخاوفه من صعود التيارات الإسلامية هناك فقدم ما يعتبره أمنه القومي على تعزيز قيم الحرية والديمقراطية، ولهذا أراد أن يُحسن صورته ويعيد تقديم نفسه باعتباره أكبر مشجع للديمقراطية ومدافع عن قيمها، ويرسم مستقبل السودان باعتباره أحد نماذج النجاح في التحول الديمقراطي.
وكان كذلك يريد أن يبسط سيطرته على موارد البلاد الهائلة ويقطع الطريق أمام التمدد الصيني والروسي، فكان جانباً من وصفته لذلك هو إلحاق اقتصاد البلاد بمنظومة الإقتصاد العالمي وتطبيع علاقتها مع صندوق النقد والبنك الدوليين بعد رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، والشروع في إلغاء ديون السودان التي تراكمت منذ سبعينيات القرن الماضي بفعل فوائد تلك الديون.
أما بالنسبة للأمم المتحدة ومنظماتها الدولية، وكذلك للمنظمات الدولية غير الحكومية – حيث تدور هذه كلها في الفلك الغربي وتشكل أذرعاً لبعض القوى الكبرى – فقد شكل السودان أيضاً أحد نماذج “الدول الخارجة من حالة النزاعات والحرب الأهلية” وقد أرادت هذه المنظمات أن تجعل من السودان “نموذج نجاح” لتنفيذ أجندة المانحين من خلال تجريب زرع كل نفايات العولمة على أرض السودان ووسط مجتمعاته، خاصة وللأمم المتحدة تجربتين لأضخم بعثتين لحفظ السلام في كل من جنوب السودان ودارفور !!
هكذا تبدو المعركة الصامتة، بين خارج دولي (غربي بالأساس) وشريكه الإقليمي وهما يطمحان لصياغة مستقبل البلاد وفق رؤاهما ومصالحهما، وبين شريك داخلي غلبت عليه شِوقته اليسارية وأراد أن يغير في معادلة السلطة بحيث يخدم الخارجُ أجندته بدلاً مما كان عليه الحال إبان معارضة النظام السابق حيث كان هو في خدمة أجندة الخارج. وتحت غبار هذه المعركة تعطلت بنود الإصلاح وعجز شركاء الانتقال – ولأكثر من عامين – في تنفيذ ما اتفقوا عليه في وثيقتهم الدستورية؛ فلا الحرية اتسع مداها ولا السلام عم أرجاء البلاد، أما العدالة فقد تم شلها تماماً وبقيت البلاد بلا مجلس قضاء أعلى وبلا مجلس نيابة أعلى وبلا محكمة دستورية لأكثر من عامين، أما معاش الناس وخدماتهم الأساسية من صحة وتعليم وخدمات كهرباء ومياه فقد انحدرت لمستوى لم يكن يتخيله أكثر المتشائمين، ولحق بهذا التردي المعيشي تردٍ أمني فأصبح السلب والنهب في عاصمة البلاد في وضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد.
وبين شركاء الداخل والخارج المتصارعين تقف غالبية الشعب السوداني راغبة في التغيير وآملة في أن تجد الشعارات التي رفعتها (حرية – سلام – عدالة) طريقها للتنفيذ بحيث يتحول السودان إلى وطن ناهض وآمن يسع جميع أبنائه ويكون السبيل الوحيد للوصول إلى كرسي السلطة فيه هو صندوق الانتخابات لا صندوق الذخيرة.
كاتب صحفي وسفير سابق *