
تفوق السفير والزميل عادل ابراهيم مصطفي على شيخه وأستاذه محمود محمد طه، الذي اكتفى بسلطة تأويل النص ومنزلة التنزيل من حيث التحقيب الزماني والتخصيص المكانى بين ما هو مكي وما هو مدنى، وما يترتب على هذا التصنيف من مقتضيات وأحكام بين آيات السيف والإسماح حتى بلغ مقام ما زعم أنه الرسالة الثانية حيث لم تعد تصلح الرسالة الأولى لإنسان القرن والعشرين، ثم الترقى الروحاني المستمر حتى يبلغ مرحلة الأصالة حسب زعمه ليتلقى من الله كفاحا، وتنتفى منه مرحلة التقليد وتسقط عنه الصلاة ذات الحركات.
لكن السفير عادل الذى يلتقى أيضا وحيه كفاحا تجاوز سلطة تأويل النص لدى شيخه وأستاذه و أصبح خبيرا في تأويل الإبتسامة وما تختزنه من معانى فى مملكة الإشارات، كما جاء فى مقاله المتهافت بعنوان: (سفير الانقلاب في كيغالي.. حين يتحدث الدبلوماسي بلسان التحريض)، وتلك شنشنة أعرفها من لحن القول، إذ عصمتُ قلمى وهو جموحٌ رموح عن قالة السوء، و روّضته على طول الجمام ، إحتراما للحظة التأريخية الراهنة التى تقتضى رباطة الجأش واستجماع الفكر، وتحريز الحِكمة وتحشيد الرأى، وترجيح كفة الوطن و كفكفة دموع أهله، دون الولوغ فى حجاج عقيم يُعنى بتشقق الحُجج و بلوغ غاية اللجج ، يتشفّى بالغبائن ولا يشفى الجراح، و لا يواسى الثاكلات واليتامى والأرامل..
كان شيخ الجمهوريين وأستاذهم يقول: “الشخص مكان حبنا والفكر مكان حربنا”، ذلك كان أول إعلان فكرى وسياسى لمحاربة خطاب الكراهية، لكن السفير عادل لم يأخذ من ذلك التراث إلا ما يغذى ضغينته على نهج ما يسميه الإفرنج ( إصطياد البط الساكن) ، أى أختلاق معركة لا تتطلب تفكيرا أو عصفا ذهنيا، بل تحتاج الى مهارات في التمثيل لمحاكاة رقصة المحارب و تزييف صرخة النصر لحصد التصفيق و الإعجاب، كأنه إذ خلا بأرض طلب المبارزة والنزالا.
ويخالف السفير عادل مبدأً خالداً دعا له أستاذه وشيخه وهو ( الإستقامة) ، اذ ان التمحيص والإبتلاء هو فى قوله تعالى (فاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير) وهو معنى كثير ما أعجبنى ترداده فى أدبيات الجمهوريين، وهو بلا شك معنى يتجاوز الصدق المعنوى و الحِسى الى إتساق القلب والجوارح وخضوعها التام لصاحب الأمر بالإستقامة. يقول السفير عادل في مقاله: “وفي هذا المشهد الذي لا يمت بصلة إلى الأعراف والتقاليد الدبلوماسية، أطلق رئيس الجالية من على منبر السفارة رسالة تضمنت تهديدًا علنيًا للفريق عبد الفتاح البرهان بقطع رأسه إن هو أقدم على توقيع اتفاق مع قوات الدعم السريع، اللافت في الفيديو لم يكن فقط مضمون التهديد العنيف، بل ابتسامة السفير وارتياحه الواضح وهو يشهد هذا الخطاب العدواني يخرج من منبر رسمي يفترض أنه يمثل السلطة التي منحته التفويض لتمثيلها في دولة رواندا.”
و لعل تهافت منطق السفير عادل أكثر وضوحا وإبانة فى الإقتباس أعلاه، إذ يتأول إبتسامة السفير، ويدخل فى قلبه ويمحص دواخه و لفتاته وخواطره ليخرج بعريضة إتهام جنائى لتهديد سلطة الدولة وهو الذى يمثلها. و لأن السفير والغ في سوء الظن من مفرق شعره حتى أخمص قدميه غلّب منهج ( لا تقربوا الصلاة) إذ طار بما حسبه غنيمة يطوف بها الآفاق والفضاءات وهو يصرخ وجدتها وجدتها… وإذا كلّف نفسه هنيهات قليلة بغرض التدقيق وتحري المصداقية لما وقع فى أُحبولة الكذب، بل أكتفى بما يُحّبر به عريضه إتهامه، وفاته أنه بعد ثانية واحدة من تصريح رئيس الجالية نوه السفير من ذات المنبر إنابة عن كل الجالية عن كامل ثقتهم فى القيادة السياسية والعسكرية للبلاد وأن الشعب السودانى يقدم كامل دعمه لقيادة الدولة حتى تحقيق النصر أو السلام العادل. وما كان ليكلف بهرجه وتهافته رجل ثمانينى أخذته جموح العاطفة الوطنية وهو رئيس للجالية منذ أربعة عقودأان يوضح موقفه فى تسجيل لاحق لينفى عن نفسه تهمة تهديد رأس الدولة إذ إختار أسلوبه الخاص بهدف حث سلطة الدولة للمضى قدما لحسم المعركة المصيرية، وهو إبن الهلالية حيث شهد أهله القتل والاغتصاب والتشريد من مليشيا الدعم السريع.
وقفت كثيرا في عبارة السفير عادل إبراهيم وهو يقول ( السلطة التي منحته التفويض لتمثيلها فى دولة رواندا) و أتساءل مجددا ماذا فعل تجاه ذات السلطة الذي منحته التفويص ليمثلها فى دولة تركيا من قبل؟. ألم يتآمر عليها جهارًا نهارًا وهو يدّعى تمثيلها؟ وأين كان إحترامه للأعراف الدبلوماسية التى كان حريصا عليها وهو يحول مقر إقامته الرسمية في أنقرة الى دار لإجتماعات المعارضة للتآمر على الدولة وشعبها؟. كان السفير عادل طيلة فترة عمله المهنية يمشى فى الظلال حتى ملّته الحيطان، وهربت منه أوراق الشجر وعاف خطوه خجيج الريح لخصلة التذاؤب وهو أضطراب الموقف. وهو يتمتع كذلك بعبقرية التقيّة إذ يتماهى مع المشهد حتى يغدو جزءً أصيلاً من تفاصيل الإضاءة الخافتة على خشبة المسرح، إذ واطأ مشيه السلطة التى منحته التفويض وهو يمثلها خاضعاً في دولة جنوب السودان من قبل؟ حتى إذا إنفضّ السامر خرج يشهر سيفه متنمرا على الجميع.
إن مزاعمه حول إدّعاء الفضيلة والإنضباط المهنى ومراعاة سيادة الدولة وحرمة التعدى على السلطة التى منحته التفويض لم تكن سوى ورقة توت سقطت مع أول اختبار حقيقى لتكشف عن صورة الملك العارى الذى يتجول مختالاً فخورًا في أروقة التاريخ.
ويفضحه الإدّعاء الكذوب بالحرص على مراعاة الأعراف الدبلوماسية وهو من سلخ مهنيته وخلع قميصها في قارعة الطريق عندما وقّع على مذكرة تتمرد على سلطة الدولة، ثم عاد معتذرًا منكسرًا حتى يفوز بأوراق التفويض من ذات السلطة التى تمرد عليها الى عاصمة أتاتورك، وعندما قضى منها وطرًا تمّثل صورة البطل فى الميثلوجيا اليونانية ليكتب عن مزاعم القصر السودانى بكثير من المزاعم والأكاذيب مع مراعاة فرق التوقيت بين التحسر.
ويبكى السفير عادل على منهج السفارات وهى تذود عن الوطن وحرمته وسيادته ووحدة ترابه ، وهى التي إنتفضت لتقود رسالة السودان عبر العمل الدبلوماسي الدؤوب والمؤتمرات الصحفية، وتحشيد إرادة السودانيين فى الخارج ليقودوا الإحتجاجات والمسيرات أمام البرلمانات ومقار الحكومات و سفارات الدول الوالغة في العدوان. ولأن حشود السودانيين فى الخارج وهى تردد شعار ( شعبٌ واحد جيشٌ واحد) تجرح خاطره الكسير لأنها تهدد تحالفه مع ما يسمى حكومة تأسيس و يختبئ وراء فوهة بندقية الدعم السريع ويدافع عن إنتهاكاتها وجرائمها التى أرتكبتها بحق المدنيين، بل يستنكر أن تنظم السفارات وقفات تضامنية مع ضحايا الإبادة فى الفاشر، يقول السفير عادل فى مقاله مستنكرا وقفة السودانيين تضامنا مع ضحايا الإبادة:”كيف تحولت سفارات البلاد إلى منابر حزبية تخدم أجندة سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، وتعيد إنتاج خطاب الكراهية والإنقسام حتى بين السودانيين في المهجر”. إن سلطة الأمر الواقع فى بورتسودان هى من حملت أوراق تفويضها من قبل جذلًا طائعًا مختارًا. وهذه الدموع الذريفة على السيادة والحرص على قيادة الدولة ومراعاة الأعراف الدبلوماسية ما هى إلا تبرير خجول للهجوم
وسار على درب السفير عادل قطيع التصفيق المعتاد ممن ينتظرون الجنازة على ضفة النهر ليشبعوا فيها لطما، فى إطار البحث عن إنتصار معنوى صغير بعد أن لفظهم الشعب السودانى فإنبرى أستاذ الإعلام فى جامعة الخرطوم الدكتور مرتضى الغالى الذى يكتب مقالاته بعد أن ينتصف القمر فى كبد السماء أو بتوقيت ليالي العتمة فى القاهرة، ليسير في ذات الجوقة، وهو من يُعّلم طلابه منهج التحقق والإستقصاء فى التحرير الإعلامى وصياغة الأخبار. وأكتمل المشهد ببروز الأستاذ عصمت يحى المبشر الذى أكن له خاطراً فسيحاً من آصرة التساكن الجميل والصبا الباكر فمسكت عنه لسانى وقلمى وأعتبرتها نيران صديقة، إذ تتراءى أمامى تصريحاته السابقة التى جرحت مصداقيته كسياسى وأضاعت كسبه النقابى لأنه سار على طريق النشطاء، وضرب دفوف السوقة من الرجرجة والدهماء وهو من أراد أن يترسم طريق الزعيم الأزهرى وله فيه شامة ودم وعرق من لدن والدنا الرحل يحى المبشر. وندائى للدكتور مرتضى الغالى أن يستخدم منهج التحرى والإستقصاء الذى نسيه وكان يعلمه لطلابه أن يستمع الى كامل المشهد، دون بتر أو تحريف وأنا أقبل شهادته كأستاذ جامعى وليس ناشط سياسى على أن يكون ذلك قبل أن يبلغ القمر المحاق.
تحولت جاليات السودان فى الخارج الى موج هادر، يقضُّ مضجع المتآمرين ومن يستصرخون المجتمع الدولى لغزو بلادهم تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. و إلتحمت فى الخارج جموع السودانيين بالسفارات من أجل قضية السودان العادلة لهزيمة العدوان الخارجى.
قسّمت الحرب أهل السودان الى فسطاطين ، و اختارت الدبلوماسية السودانية أن تقف الموقف التاريخى الوطني الشامخ الذي يليق بها وهو مواجهة هذا العدوان الخارجي، وفضح تحالفاته السياسية والدولية، وأن تقف مع جيشها الوطنى في خندق واحد، و أن تستفرغ الوسع فى الدفاع سيادة السودان وأرضه ووحدته الوطنية، أما وقد رأي بعض الزملاء والسفير عادل ابراهيم على رأسهم أن يقفوا ضد إرادة الشعب و قواته المسلحة وأن يساندوا هذا العدوان الخارجى على بلادهم و يوالوا مليشيا الدعم السريع في قتلها وسحلها وإنتهاكاتها البشعة ضد السودانيين، وأن يغزلوا التحالفات السياسية والدولية للتآمر على البلاد والتحريض عليها، فهذا شأنهم و سيقفون يوماً أمام محكمة التاريخ وضمير الشعب، أما أهل الثغور والدثور والمهنية الحقة فى الدبلوماسية فلن تلين لهم قناة أو يخضعون الى لين القول ومخاتلة الموقف فى الدفاع عن الوطن وشعبه وكبريائه ومقدراته وسيادته وتاريخه وحضارته وتراثه، حتى النصر أو حتى تضع الحرب أوزارها بسلام عادل يرتضيه الشعب وقيادة الدولة.
بلغت من العمر والتجربة ما يجعلني أغزل من فضاء الإنسانية ثوبا قشيبا من الفكر والتسامى فوق الجراحات، و أن أنبذ التعصب القبلى والمهنى والتخندق الأيدلوجى، وان أذبح كل الإنتماءات الصغيرة قربانا على رجاءات الإنتماء الأكبر، من أجل وطن ستشرق شمسه رغم أنف الكارهين.





