الرواية الأولى

نروي لتعرف

آفاق رقمية / د. محمد عبدالرحيم يسن

الرقمنة عبر الزمن (1)

د. محمد عبدالرحيم يسن


من كولومبس إلى وادي السيليكون… كيف تولد العوالم الجديدة؟

قبل نحو خمسة قرون، شد الرحالة كولومبس أشرعته باحثا عن طريق جديد للهند، لا يعلم أين ستحمله الرياح ولا أين سترسو سفينته، ظن أنه يقترب من الشرق -الهند-، فإذا به يدخل عالما لم يكن مرسوما على خرائط البشر حينها. وصل بالصدفة، وفتح بابا لتاريخ جديد. تلك الصدفة لم تكن بريئة، كانت ثمرة عقل تجرأ على أن يسأل: وماذا لو؟.. ومات كولمبوس وهو يعتقد انه وصل الي الهند.
تمر القرون، وتتبدل البحار، وتتحول الرياح إلى أسلاك وكابلات وأقمار صناعية. ويصبح الاكتشاف الأكبر ليس أرضا جديدة… بل شبكة جديدة تعيد تعريف كل شيء حولنا.
فالإنسان الذي كان يخشى الظلام في البحر، أصبح اليوم يخشى شيئا أخطر، انعزاله عن الشبكات التي تصنع الحياة.
لقد تغير العالم فقد تجرأ العلماء المغامرين على إعادة رسم الخرائط. ومثلما ألقى كولومبس بوصلة عصره جانبا، ألقى مهندسوا التكنلوجيا خرائط الماضي وراء ظهورهم. لم يبحثوا عن قارة جديدة… بل عن أسلوب جديد للحياة.
حياة تتحرك فيها الصور والأصوات والقرارات بسرعة الضوء، وتتحكم فيها الخوارزميات أكثر مما يتحكم فيها البشر.
لم تعد الحدود الجغرافية هي الفاصل الحقيقي بين البشر.
الفاصل اليوم هو “سرعة الإنترنت، حجم البيانات، وذكاء الخوارزميات“.
أصبح العالم قطعة واحدة تمزقها أصابع التكنولوجيا، تسقط دولا وتبني أخرى، وتعيد تشكيل الهويات كما أعادت الجغرافيا تشكيل الخرائط قبل خمسة قرون.
العالم الذي نعيشه لا يدار من قاعات البرلمانات، ومجالس الحكومات. بل تدار فصوله من غرف صغيرة في بنغالور وشنزن وسياتل، حيث يجلس شاب خلف شاشة ، يكتب برنامجا، ليصنع قرارا يتردد صداه على قارات الأرض الست. تلك الغرف الصغيرة هي الأراضي الجديدة التي يكتشفها الإنسان المعاصر… أرض بلا حدود، بلا بحر، بلا جغرافيا، لكنها تملك السلطة الأخطر “سلطة المعرفة”.
إننا نقف اليوم أمام اكتشاف يشبه اكتشاف كولومبس،بل أعظم وأعمق.
لم نعد نبحث عن قارة… بل عن شكل جديد للإنسان في عالم تحكمه الرقمنة -الشبكات والبرمجيات، والذكاء الاصطناعي-.
هل سيأتي المستقبل وفقد الإنسان دوره لصالح الروبوت؟
أم سيبقى سيد هذا الكوكب؟
هذا هو السؤال الذي تبدأ منه سلسلة آفاق رقمية…
وهذه هي الرحلة التي تقودنا إلى المستقبل الذي يعاد تشكيله أمام أعيننا الآن.
بهذه الرؤية ، تبدأ رحلتنا نحو فهم العالم القادم ، وفي الحلقة المقبلة نمضي معا في رحلة الحاسوب … كيف بدأ كمحاولة لفهم الأرقام، وكيف أصبح عقلا يشاركنا التفكير.

13 ديسمبر 2025م.

اترك رد

error: Content is protected !!