ثقافة ومنوعات

الرزنامة- يكتبها المحبوب عبد السلام : مولاي من أين الطريق إلى نوافذ قرطبة؟

 

المحبوب عبدالسلام المحبوب

الإثنين

نيروبي من فوق، المدينة كما تحبها أن تكون صغيرة وجميلة وخضراء. صحيح أن الطريق إلى المطار يأخذك إلى أحياء ما تزال تعانى لتخرج من الظلمات إلى النور، ولكن مساحات أكواخ البلاستيك والقصدير تضيق لصالح منازل تليق بالإنسان. وجيوب الغيتو تتلاشى لتقوم جوارها دور أنيقة مزودة بالكهرباء والماء النظيف، ساخناً وبارداً. والخنقة المرورية التي أُشتهرت عنها تنفرج لتمتد الشوارع الفسيحة ذات النطاق مثنى وثلاث ورباع وأكثر. الجسور تمتد فوقاً وتحت وبين بين، والشوارع العرضية التي كانت نادرة تزيد، تشق الغابات لتصل المدينة بعضها ببعض، تختصر المسافة وتقرب الوقت. ورغم أنها مدينة في غابة استوائية تقوم على جبل يكاد لا ينقطع عنه الغيث المهطال أسبوعاً طوال العام، فإنها منذ حين عَلّمت بعوضها وما فوقه أن يسكن إلا من طنين قليل! فالقاعدة في صحة البيئة أن يجتهد الإنسان في مقاومة الآفات، والطبيعة تتجاوب وتستجيب. الاقتصاد يقوى ويزدهر، والشركات تغيض وتزداد، فما الذى ينقصها لتُحجِم؟ وما الذى يخيف رأس المال المحلي والأجنبي أن يستثمر؟ الديمقراطية تترسخ، وتمتد، والسياسة تستقر، ومن ثمَّ يطمئنُ الاقتصاد، الأسواق تمتد على المحجة البيضاء، والمقاصف الضخمة تقوم، المولات، إن شئت، تتنافس في الأناقة والجمال وتعدد الاختيار، وتفوز العاصمة الكينية بالمول الأكبر مساحةً بعد الأكبر على الاطلاق في جوهانسبرج، وهي، بعد، لم تهجر ثراء تراثها ومصنوعاتها اليدوية المبدعة. فأسواق الماساي تقوم كل سبتٍ وأحدٍ، تعرض مصورات المهوقنى والزان والأبنوس والتيك وتبدع في الأشكال، الأسد والنمر بالحجم الطبيعي، والأفيال والغيلان بكل الأحجام، والزراف، كما هم الرجال والنساء في مختلف أحوالهم، وكلها تكاد تنطق من جمال، بل إن معرض الأعمال اليدوية المستمر في كينيا منذ قرون هو مسرح أخاذ، ورواية حَيّة يحكي عبرها الجماد كم هو نابض بالحياة، وملهم لها. كما تقوم، إلى جانب ذلك التراث، الأسماء التي ما يزال السودانيون يستدعونها في حنين، (شل) ما تزال محارتها تتلألأ، و(موبل) تلمع حروفها، و(باتا) تفهم في الأحذية. لم تجنح الغابة لفوضى التغيير كما هم السارحون في الصحراء! لا تصلح العرب في بلاد لا تصلح فيها الابل، أو كما قال ابن الخطاب عليه تمام الرضوان.

في أغسطس المقبل تواصل كينيا عملها الديمقراطي المنتظم منذ ١٩٩١م، فتخوض انتخابات رئاسية وولائية ونيابية يتنافس فيها عدد كبير من المرشحين في المستويات كافة. عرف جومو كنياتا، وهو من الآباء المؤسسين، أن الزمان قد تبدل، وأنه آن أوان التغيير، وها هو ابنه أوهورو قد أكمل عهدته الثانية يتأهب ليغادر، يفسح المجال لرايلا أودينقا، ووليم روتو، وميسوكا، يتنافسون على مقعد الرئاسة. تذكرون، بلا ريب،  كلونزو مسيوكا، لقد صعد اليوم ولم يعد بينه وبين المقعد الأسمى إلا خطوة، الأرجح أنها لن تكتمل هذه الدورة، ولكن تتجدد له الفرصة في بضع سنين، يجرجرونه اليوم إلى المحكمة العليا، ولا ضير، فقد ذهب رئيسه من قبل إلى محكمة الجنايات الدولية بلاهاي وبرأ ساحة نفسه بنفسه. والحق أنه، منذ أن انفجر العنف القبلي بعد انتخابات ٢٠٠٧م، وفرح الأنبياء الكذبة، وطفقوا يرددون مقولتهم النافقة بأن الديمقراطية لا تصلح لأفريقيا، خاب فألهم، وها هي كينيا في كل مرة تصلح من أمر ديمقراطيتها، وتمضي خطوة إلى الإمام. ففي ٢٠١٧م ألغت المحكمة العليا نتيجة الانتخابات، ورضخ الرئيس عن طيب خاطر، فأُعيدت الانتخابات وفاز. الديمقراطية هي أسوأ نظام بين أخريات أشد سوءاً بكثير، وما ذلك إلا لأن الانسان كان ظلوماً جهولاً.

الثُّلاثاء

مطار جوبا كما هو منذ أن وقفتُ فيه عام ٢٠٠٨م. عقد ونيف من الزمان خلى. فرح للشمال، فرح للجنوب، فرح للتقدم والتنمية، خجلاً لتلك الحروب التي تجعل الدم جغرافيا، قصيدة محمد المكي ابراهيم التي كنت أمسك بها إمساك يحي الكتاب، أبدعها بين يديّ اتفاقية أديس أبابا ١٩٧٢م، وكان، كحالي اليوم، يندب حظ السودان، لكنه يأمل في مستقبل مشرق قريب. على حين راح العراق يؤمم بتروله، والجزائر تجمع قبضتها الدامية، وتهوي بها في رؤوس العساكر والمستوطنين، تجري ويمشون للخلف، لم يكن ود المكي، ولا أيٌّ من نخب ذلك الزمان، يتصورون أن النميري سينقض غزله بيديه، ويضيف فصلاً في كتاب التمادي في نقض العهود لا ينتهي إلا بفصلٍ آخر ومقاتل كثيرة، واتفاقية سلام أشد إحكاماً وتفصيلاً من الأولى، ولكن يتواطأ على نقضها ليس الرئيس وحده، بل نظام بأكمله تتنافس رؤوسه على إفشال بعضهم البعض، تعينهم قوات صديقة. سمعت قبل أيام أحد رموز نيفاشا من الشماليين يقول إن الاتفاقية لم يصنعها الخارج، ولكنها كانت من عمل عقولهم وأيديهم، ورغم أن ذلك لا يقول كل الحقيقة فقد كان عملهم الدؤوب هو الاختلاف على الوثائق التي يقدمها الوسطاء قبل أن يعود هؤلاء مرة أخرى بمقترحات جديدة لفض الخلاف بين الدين والدولة، بين حق تقرير المصير والمشورة الشعبية، بين تمويل الجيش الشعبي من المركز وتبرع الوسطاء أنفسهم بالتعهد بتمويله وتدريبه، بين قسمة البترول مناصفة أو بالعدل بين ولايات السودان. عجبٌ كثير وأعجب منه أن يتآمر نظامٌ ضد دولته، وينقض اتفاقية قضى أعواماً في جدالها قبل أن يوقعها، وقد أسماها رئيسه “الاستقلال الثاني للسودان”.

عندما حطت الطائرة في مطار جوبا كان الكتاب الذى أقرأه هو “السياسة العرقية” للباحث الأميركي فيليب روسلر، والذي للمفارقة، يبدأه بمدخل يسرد بالتفصيل قصة الخلاف بين الرئيس ونائبه عام ٢٠١٦م، والذى أفضي لأحداث مروعة في جوبا ومدن أخرى في الجنوب. لكنه، بعد ذلك، يخصص نحو ٤٥% من صفحات الكتاب البالغة (٣٨٩) لقصة دارفور، يستهلها بسؤال نبيه: لماذا لم ينجح تمرد المهندس داؤود يحي بولاد عام ١٩٩٢م، فيما أفلح الطبيب خليل ابراهيم في صك آذان العالم عام ٢٠٠٣م؟! وإذ يناقش المؤلف، وفق منهج جديد تخلى فيه علم الاجتماع السياسي عن تبنى تفسير الأزمات الكبيرة وفق الجدليات الكبيرة: صراع الهامش والمركز، وتناقض المزارعين والرعاة، وقسمة السلطة والثروة، كما تجاوز ذات العلم بهذا المنهج الجديد السرديات المفصلة، فإن الكثير من الباحثين ينال الماجستير والدكتوراة لأنه أعان جامعته، ومَن وراءها، بتفاصيل نشأة الصراع، وتطوره، وأسماء قادته، وتاريخ معاركه، ومفاوضاته، فهو ببساطة يحكي الحكاية. المنهج الجديد الذي انتهى اليه ذلك العلم المهم هو المزاوجة بين الماكرو والميكرو. وفيما يشير المؤلف الى عشرين بلداً افريقياً تجنب الحرب الأهلية، فإن هنالك تسعة عشر أخرى قد تورطت فيها بالكامل. ففي افريقيا عادة ما تخوض حرب التحرير قبيلتان، الكبرى والأصغر، ومع الاستقلال يتولى زعيم الأولى منصب الرئيس، فيما يصبح زعيم الثانية نائب الرئيس، ليبدأ الصراع الأزلي. فالرئيس يظل مهجوساً موسوساً بأن نائبه يفكر بالانقلاب عليه، فيجفف موارده كافة، ثم يقصيه، فلا يجد النائب بداً من اشتراع الحرب الأهلية الشاملة، أو “مأزق الانقلاب والحرب الاهلية” كما أسماها المؤلف. الحكمة ألا تقصى مواطنيك أو تقتلهم فتضطرهم للحرب، وألا تجفف منابعهم فتلجئهم الى شرب الدماء. يعجز الكثيرون عن إبداع الفكرة العبقرية للحل الوحيد، وهو الاستيعاب، لا لأنهم أغبياء، ولكن بسبب شح الأنفس، فالشح والطمع هما موئل الغباء الذى يحجب البصر، فيغدو الانسان عدو نفسه، ويروح يطلق النار على قدميه. آفة الحرب الأهلية، وإن ضمنت انتصار فصيل لأنه الأوفر قوة مادية، إلا أنها تورث الفتن المتناسلة التي تحبس البلاد عن الاستقرار والتقدم، بل وعن السياسة، دعك عن الديمقراطية.

الأربعاء

يوم طلعت القمرا

 أخير يا عشاي تودينا لي أهلنا

 بسألوك مننا

عبرت البارحة ذكرى وفاة الشاعر الكبير صلاح أحمد ابراهيم (١٧ مايو ١٩٩٣م). كان آخر لقاء له مع الطيب صالح قبل ذلك ببضعة أشهر، عندما جاء صلاح الى لندن ليشهد المحاضرة التي سيقدمها الطيب عن المتنبئ في المركز الثقافي العربي. كان صلاح يُكتِّمُ داءً قد برى جسده، فارتاع الروائي للهزال الذى ذوى بجسد الشاعر، لكن اختار أن يبادره بما ينعش الروح مرحباً:

ــ يوم طلعت القمرا.

ضحك الشاعر، وفيما بعد استعاد المداعبة المرحبة والحزن يعتصره، مستذكراً بقية الأغنية الجميلة «بسألوك مننا»، فقال:

ــ فعلاً سنُسأل جميعاً عن السودان.

كان الشاعر شاحباً للحد الذي لا يمكن أن تخطئه العين، أو يصطبر اللسان على السؤال عنه، فعبرت حيرة الروائي عن نفسها:

ــ «يا زول مالك»؟! ضحك الشاعر ضحكته المجلجلة لكنها تلك المرة كانت على حافة القبر، قائلاً:

ــ والله أنا اموت ليكم جنس موتة.

مات صلاح أحمد ابراهيم موتاً جميلاً كما يقول الفرنسيون لمن رتب أمره قبل أن يمضى الى الرحلة الأخيرة. قاد سيارته بنفسه إلى مبنى السفارة، وجلس إلى السفير د. نورالدين ساتي، وأودعه وصيته التي وزع فيها ميراثه القليل، لا يدع سانحة تلوح فيها طرفة دون أن يشفعها بطرفة، دعا ابنة أخته من لندن الى باريس، وأهداها سيارته الصغيرة، محتفظاً بالأخرى التي منحتها له السفارة القطرية، ثمَّ نظر إلى ساعته قائلاً وهو يودعها:

ــ بعد ثلاث ساعات ستكونين بالقرب من الحدود، عندئذٍ سأبلغ الشرطة الفرنسية أن سيارتي قد سرقتها.

كان أكثر ما أرَّق الشاعر شبح التجزئة الذى بات يهدد السودان، ويلوح من وراء المعارك التي كان يشنها الجيش الشعبي، وانتصاراته وهو يجتاح مدن الجنوب! وكان ساخطاً لا يرى في مشروع الحركة الشعبية إلا مؤامرةً لتقسيم السودان، يردد مرةً بعد مرة:

ــ أنا إن شاء الله أموت قبل ما أشوف السودان بتقسم.

ثم يستدعى النكتة في غمرة حزنه المقيم:

ــ الجنوبي اذا رفدوه من وظيفته يدخل الغابة، وإذا فطوه في الترقية يدخل الغابة، أما الشمالي فكل الذى يفعله اذا اصابه ذلك، يأبى غداءه، ويدمدم وجهه، ويقبل على الحيطة، الشـمـالي الوحـيـد الذى هـدد بدخـول الغابـة كنـت انا، وكنـت قاصـد غابة الخــرطـوم.

الغريب أن الشاعر مات بعد يوم واحد من ذكرى تأسيس الحركة الشعبية في ١٦ مايو، وتزامن إيداعه المستشفى الأمريكي بباريس مع ذروة المفاوضات في أبوجا الثانية، حيث لاحت فرصة حقيقية لسلام حقيقي. كان الفريق سلفاكير رئيس الجنوب الحالي هو رئيس وفد المفاوضات يومئذٍ، عن الحركة، وإلى جانبه يوسف كوة. وكانت الانقاذ قد انتدبت يومها د. على الحاج الى فرانكفورت، حيث وقع اتفاقية تشير بوضوح الى اعتماد حق تقرير المصير. كانت الحركة راضية، لأول مرة، بحكم ذاتي موسع يقارب الكونفدرالية ولا يبلغها، حتى لا يثير مخاوف الحكومة، ولكن الأخيرة بدأت مؤامرتها على نفسها، ولم ترد مطلقاً لعلي الحاج أن يعود بطلاً للسلام، فوضعت شرطاً لتوقيع الاتفاقية عبور الجسر إلى نمولي وقد بلغت انتصاراتها عندئذٍ حدوده، وما يزال سلفا كير يسأل: (لماذا أعطيتم كل ذلك في اتفاقية الخرطوم للسلام، بينما كانت الحركة الأم تطلب أقل منه).

يكره الكثيرون استعادة الحقيقة، ولو للاعتبار، خوف الطغاة من الأغنيات خوف الغزاة من الذكريات، قل موتوا بغيظكم!

الخميس

كتبت مقالاً في بساطةٍ شديدةٍ وظننت لأول وهلة أن أهل مشورتي سيشيرون علي بعدم نشره، فيطويه النسيان مع غيره لكنهم لم يفعلوا بل تحمسوا لنشره. يسعد الكاتب كثيراً لو أثار مقاله ضجة، وانهالت عليه الردود من ذوي الحس. لحسن حظ مقالي، وربما لسوئه، استدعى  ردوداً من ذوي الحس ومن غيرهم، غيرهم لا أقف عندهم، ولا يسترعون انتباهي، بل ذكروني بزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لرومانيا في أغسطس ١٩٦٩م. كان نيكسون حفياً بالرئيس الروماني شاوسيسكو، لأنه الوحيد الذى استقبله بعد خسارته الانتخابات أمام جون كيندي، بينما ازوَرّت عنه موسكو وأخواتها أوان الحرب الباردة. لكن فاز نيكسون، وزار رومانيا، واستقبله شاوسيسكو، بينما نزل لشوارع بوخارست مليون روماني يحملون الزهور، مما أثار حيرة نيكسون، فتساءل: (لم أكن اتصور أنهم يحبون أميركا الى هذا الحد)! فبادره شاوسيسكو بحيرة مقابلة: (وأنا لم أكن أتصور أنهم يكرهون الاتحاد السوفيتي الى هذا الحد).

النخبة القيادية التي نظمت الحملة ضد مقالي، وحملت أعوانها حملاً على الرد، هي كما وصفها «الشيخ»، بين يدى «المفاصلة»، ولا تزال:  «الشريحة القيادية التي وليناها المناصب العليا فارتكبت جنايات خطيرة، خانت قسم الدستور، العهد الأعلى للبلاد، ونكثت بقسم الولاء للحركة، وخربت نظام الحكم الاتحادي لتجور على ولايات السودان»! ثم لما خاطبه د. غازي، وبادله «الشيخ» الرسائل، كان كمن استدعى آيةً بعد انقطاع الوحى: «القيادة التي تسببت في الفتنة تبقى في القاعدة حتى الممات»! كان صديقنا صلاح المليح في ريدنج حفيا بتلك الكلمة، فاتخذها تعويذة منهم، وتسبيحةً يرددها في كل حين، لقى أحد أولئك في مطار هيثرو، فبادره بالسلام، لكن، لم يشأ لسان صلاح أن يرد التحية، جاوبه: (في القاعدة حتى الممات!).

مشكلة أولئك الصحاب أنهم ما زالوا يتبعون الرجال ويظنون أننا نفعل، ورغم أنهم أبلغوني عبر الردود أنهم لا يقبلون النصيحة إلا من داخل حوش الطائفة، فإني مضطر أن أذكرهم بوصية الكاتب الكبير: «ها هي الحياة تمنحكم فرصةً أخرى، والحياة عادةً ليست سخيةً في منح الفرص، الأوفق لدنياكم وآخرتكم وللسودان أن تعكفوا على أنفسكم، تتعهدونها بالطهارة من شهوات السلطة، وهوى العودة إليها، وأن تعضوا على العمل الخالص لله، فكل مزاعمكم عن التصوف هي مما وصفه ابن عربي بأنه لا طائل منه ولا جدوى فيه، كل استقامة لا تُرى في الاعوجاج لا يُعوَّل عليها، كل بداية لا يجر عليها صاحب النهاية لا يعول عليها، كل اسلام لا يصحبه ايمان لا يعول عليه»، أو كما قال (ابن عربي؛ الرسائل، صفحة ٣٣٩).

ومما لا يعول عليه أيضاً، المراجعات المدعاة بغير رؤية وبغير إخلاص. فبعد مقالي «راشد الغنوشي إنجاز المؤجل» دعاني كبيرٌ في المؤتمر الوطني وناقشني فيما فصلته في كلمتي تلك، وعن المخاطر والتحديات التي تجابه حركة الإسلام السياسي من النهضة إلى حماس، وكان واعياً لمأزق ثالوث «الحكومة ــ الحزب ـ الحركة»، أو «الحاءات الثلاث» في قولهم، بعد أن كان ظاهراً وباطناً ضمن حركةٍ واحدةٍ. أما كبيرهم فقد استدعاني بدوره وطمأنني على مستقبل الدولة وثباتها أشهراً قبل طوفان ديسمبر، ولكن عليهم فقط أن يواجهوا أسئلة الحركة، ثم ذهب يُعرِّض بي في إفطارٍ رمضاني.

سأل أحد طلاب الجامعات «الشيخ» في لقاء مفتوح: «بعد أن نقرأ مساهمتك في المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع، ماذا نقرأ في أدب الحركة؟! هل نجد غير مؤلفك في موضوع المرأة؟ هل نستطيع الكف عن قراءة فاطمة المرنيسى ونوال السعداوي وألفة يوسف، بل وسيمون دي بفوار وميشيل فوكو، وهل نستطيع الهروب من أسئلة العصر التي يطرحونها»؟ أما «الشاحنات العباسية»، في مقولة قديمة لصديقنا عبد المحمود الكرنكى، والتي تملأ حمولتها من العصر العباسي، وتفرغها في القرن الحادي والعشرين، فأيضاً لا تعنينا في شيء، لا سيما إذا كانت طبعة ثانية غير أصيلة جُمعت على عجل في شط العرب أو بحر القلزم، ولما تبلغ بعد السؤال عن شواطئ الأندلس، ونوافذ قرطبة، أو حتى تلقى ابن رشد وابن عربي. مقولة واحدة استوقفتني لصديقٍ قديم في تسجيل مطول يرد فيه على من دافع ودفع عن المقال، هو مثال آخر لحالة التكديس والشيئية التي تستعرض بغير ضابط ولا ناظم، أفكار ومقولات فلاسفة ومفكري الألسنية الغربية الحديثة، دون أدنى شعور بالفصام المحزن بين التمترس في الطائفية والعقل النقدي الذي أبدع تلك الأفكار وفتح آفاق الحداثة. ربما لو عاد صديقنا من غربته الطويلة واغترابه المتطاول، يجد في أجيال أبنائه وأبناء أبنائه من يعينه على عبور الجسر، ويوقظه من حلمه الجميل.

الجمعة 

الخرطوم من فوق. منذ مايو ١٩٩١م، وهي تتمدد على جانبي النيل صفراء يرتد اليك عنها البصر. منذ ذلك التاريخ، وذات عودة من القاهرة، كان الى جانبي في الطائرة الفنان التشكيلي د. أحمد عبد العال، على روحه غيوث الرحمة، فما يزال دعاؤه الملحف أسمع صداه: اللهم بدِّل هذا الحال .. اللهم بدِّل هذا الحال. بعد نحو ثلاثة عقود، لقيت، بغير تدبير، الفنان التشكيلي الآخر د. راشد دياب في مناسبة زفاف، ودار حوار طريف بينه وبين صديقنا صديق الأحمر، حينما قدمته إليه بأنه أحد أعمدة الحوار الوطني الدائر يومئذٍ في قاعة الصداقة، فلم يفوِّت راشد الفرصة بغير سؤال صديق: «لكن هل هناك حوار بغير حرية»؟! أجاب صديق: «الحرية متوفرة .. ألا يقيم مركزك نشاطه كل يوم»؟! أجاب راشد: «نعم، ولكن، لكى أفتتح معرضاً لفنان تشكيلي شعبي يبلغ من العمر سبعين عاماً أضطر للانتظار في مكاتب الأمن حتى الثامنة لكي أحصل على الاذن، بينما الافتتاح في التاسعة»! قال صديق: «جيد أن تناضل من أجل الفن والأمور تتحسن»! عقَّب راشد قائلاً: «أنا لست مناضلاً سياسياً، إنما فنان لا أعرف كيف أخدم بلدي الا بالفن، لكن هل الأمور تتحسن فعلاً؟! أراهنك، نذهب بالسيارة الآن حتى الكدرو، فلو وجدت شيئاً واحداً تحسن، أو موجوداً في مكانه، دلني عليه وتكسب الرهان»!

كان مكان المناسبة ناحية امتداد الدرجة الثالثة نحو ٤٠ كيلومتر من نهاية الرهان.

أنقل عن منصور خالد: «كانت مطالب الأقربين، دوماً، وما زالت، أقل كثيراً من اصلاح الكون، هي باختصار: الماء الصالح للشرب لكل مواطن، التعليم لكل تلميذ، المعاهد الفنية لكل راغب من الكوادر الوسيطة، المشافي والدواء للمرضى، الطرق التي ينقل عبرها المنتج إنتاجه الى الأسواق، الطاقة التي تضئ المنازل والمكاتب وتدار بها المصانع، القوانين التي تحمى حقوق الزارع والعامل وصاحب العمل، الادارة الجيدة لكل هذا لأن نجاح الأنظمة يعتمد على كفاءتها الداخلية في أداء ما نذرت نفسها لأدائه. إن أفلحنا في هذا أرضينا الله والوطن» (تكاثر الزعازع، صفحة ٧٣١).

السبت

خاضت ارتيريا حرب تحرير مريرة، لكنها الآن تشق طريقها نحو الاستقرار، وتتهيأ لاختبار الاختيار بين كفاحها النبيل والقيم الانسانية العالمية. هذا الاسبوع تحل ذكرى استقلالها (٢٥ مايو ١٩٩٣م). ويتفاجأ زوار عاصمتها أسمرا بانتظامها، وبمناخها المعتدل، وبطقسها الاجتماعي البهيج. ومن أجواء احتفالات العام الماضي كتبت محررة بي بي سي ماري هاربر، عن نظافة المدينة، واصطفاف النخيل في شوارعها، حيث يُحتسى الإسبريسو تحت المظلات الواسعة. سينما العاصمة المشيَّدة عام ١٩٢٠م بمثابة دار للأوبرا ذات طراز معماري فريد تعلوه ستائر مخملية، حيث عزفت أوركسترا لايبزج فلهرمونيك النشيد الوطني الإريتري، إلى جانب السيمفونية الخامسة لبيتهوفن.

الأحد

تستحق ذكرى الشاعر العظيم أن نقف عندها مرةً ثانية في آخر الاسبوع. ففي ذلك الأحد، عندما قررنا أن نأتي غداءنا بمطعم المدينة الجامعية، قبل أن ندلف الى لقائنا الأسبوعي معه في مقهى جورج الخامس بجادة الشانزليزيه، انتبهنا الى وجود طالب جزائري إلى جانبنا. كنا قد استغرقنا في نقاش عن القرآن وعلم النفس مواصلة لحوار مستمر مع صديقنا الدكتور صادق عبد السلام الإزيرق، ثالثنا في الجلسة الراتبة، وقد أكمل لتوه غالب بحثه الميداني، ويتأهب لتقديم أطروحته للدكتوراة في جامعة باريس الثامنة حول أنماط الطب النفسي التقليدي. ربما غاظ الطالب الجزائري أن يتفاصح هؤلاء السود بكل هذه العربية عن القرآن. فحتى ذلك الحين (أواخر عقد الثمانين من القرن الماضي) كانت طائفة مقدرة من الطلاب الجزائريين، لا سيما المنحدرين من أصول أمازيغية، لا تتحدث بالعربية، خاصة الذين انتظموا منهم، منذ التعليم قبل المدرسي المنهج الفرنسي، فباغتنا قائلاً بالفرنسية:

ــ «هل تعرفون أن نبيكم كان يأتي بالأفارقة بقيادة الصحابي بلال ليسلوا زوجته عائشة بالرقص»؟!

وصلت الرسالة كاملة، ولا مناص من المواجهة، فرددت عليه ببرود:

ــ «وأنت هل تعلم أن كاتباً جزائرياً عظيماً اسمه مالك بن نبي لاحظ أن الفرنسيين ينادون الجزائريين من جبال الأوراس ذوي البشرة الأشد بياضاً منهم، والشعر الأشقر مثلك بالضبط، ينادونهم بالزنوج»؟!

لم يكمل دهشته قبل أن يسدد إليه د. صادق الطعنة النجلاء الثانية:

ــ «أنا أعلم لماذا تقول ذلك، لأن نمساوي يهودي اسمه سيغموند فرويد قال إن كل الدين والفن يأتي من اللاشعور الجنسي»!

ترك طعامه وخرج، وتركنا طعامنا وخرجنا. وعندما بلغنا المقهى كان الشاعر يحمل غليونه، ويرسل بصره بعيداً، وعندما سردنا له الواقعة، أراد أن يهدئ من روعنا، فبادرنا بالقول:

ــ «وأنتم هل تدرون من الذى لقيني قبل مجيئكم؟! شاب سوداني سلم علي، وعرفني بنفسه، قال إنه مبعوث من منظمة الفاو لبحث دكتوراة في جامعة روما، عن حشرة تأكل التفاح»!

صمت الشاعر هنيهةً ثم واصل حديثه:

ــ «أتدرون ما الذى حدث بعد عودة هذا الشاب الى شقته؟! الحشرة فتحت الباب، ودخلت عليه، قائلة له: عامل فيني دكتوراه مالك .. جيتكم .. أكلت تفاحكم»؟!

جدير بالذكر أن قصتنا ألهمت صلاح أحمد إبراهيم لكتابة واحدة من أجمل مقالاته بعنوان «بلال»، وقد نشرتها «مجلة المعلم» التي كان يصدرها اتحاد المعلمين مطلع تسعينات القرن الماضي.

اترك رد

error: Content is protected !!