الرواية الأولى

نروي لتعرف

فيما أرى / عادل الباز

الرئيس البرهان وإفراغ الدائرة (3-3)

عادل الباز

1

في بداية هذه الحلقة لابد من تعريف ماهية تحالف الكرامة حتى لا يُساء فهم هذا
التحالف العريض، تحالف الكرامة ، فهو ليس تنظيمًا سياسيًا أو ائتلافًا حزبيًا بالمعنى التقليدي، بل هو جبهة وطنية عريضة، تنوعت فيها الرايات وتوحدت بوصلته تحت راية القوات المسلحة واتجه نحو هدف واحد : هو تحرير الوطن وصونه من السقوط. هذا التنوع هو مصدر قوتها ، لكنه أيضًا موضع اختبار دائم لوحدة صفها واستحقاقاتها الوطنية.
2

توقفت في الحلقة الماضية عند الدائرة الثانية والتي تضم الحركات المسلحة وتشمل تحالف الإسلاميين الذين يقاتلون تحت راية الجيش (البراءون) وغيرهم من الذين هبّوا يقاتلون في صفوف الجيش دفاعًا عن وطنهم.
دائرة الإسلاميين داخل تحالف الكرامة، وهذه العزف عليها مستمر، وتُهمها جاهزة… تبدأ من أن هؤلاء الفرسان الذين ترجّلوا إلى ساحات الفداء بقلوب من نور وحديد والذين يقدمون يوميًا أنضر شبابهم للشهادة في ساحات المعارك، إنما يودون أن يشتروا بأرواحهم الطاهرة تلك ليست الجنة ، إنما كراسي سلطة زائلة..!!، والغريب أن طفابيع المعارضة يروجون باستمرار لتلك الفرية، والله يعلم والشعب يعرف أنهم كاذبون، ومع ذلك يجدون سماعون لهم!! وكذبهم هذا ليس في الداخل فحسب، بل على المستوى الإقليمي والدولي، وبعض الدول التي تعلن الحرب عليهم تسعى لترويجه واستثماره سياسيًا.

الهدف هو أن تدفع تلك الضغوط قيادة الجيش للاستجابة لها، بل يحرضونها لإبعاد الإسلاميين من ساحات القتال، أو أن يزهد الإسلاميون في القتال تحت راية القوات المسلحة وفي المعركة كلها، فينأون بأنفسهم جانبًا. وهكذا يتم إفراغ دائرة أخرى في تحالف الكرامة بخروج آلاف المقاتلين من المعركة!! وهناك جهات تسعى لذلك، ويسرها أن تتخذ قيادة الجيش ذلك القرار. بل وبعضهم يدفعها إلى ذلك، وفي الجانب الآخر، هناك من يدفع الإسلاميين للخروج من المعركة، ومن داخل صفوفهم… ويحاصرون القيادة بالأسئلة الغبية على شاكلة: لماذا نقاتل وليس لدينا أي ضمانات من أن يتم بيعنا في أي منعطف أو مائدة مساومة سياسية، ويعود الدعم السريع وطفابيع قحت إلى سدة السلطة، فندفع الثمن وحدنا؟!! الحقيقة أن الإسلاميين يقاتلون من أجل وطنهم، ومن أجل وجودهم نفسه. فإذا انتصر الدعم السريع في الحرب، وجاءت الإمارات بأجندتها… الله وحده يعلم ما سيؤول إليه حالهم وحال الوطن بأكمله.

3

أما الدائرة الثالثة، وهي دائرة القوى السياسية والمستنفرين التي
اصطفت خلف الجيش منذ اللحظة الأولى للحرب، وظلت سندًا قويًا للقوات المسلحة. لأول مرة، يشاهد العالم كل أطياف الشعب السوداني تقريبًا، متحدين، يهتفون: (شعب واحد، جيش واحد). تجمرت هذه الوحدة بنيران الحرب، لم تهزها كل الظروف التي مرت على البلاد والعباد، من قتل وتشريد واحتلال مدن وحتى الإبادة. يا لها من وحدة عظيمة لمتشهدها البلاد قريبًا. الشعب، كل طوائفه وأحزابه ومكوناته – إلا قليلًا – متوحد في شاشة الوطن خلف قواته المسلحة: (نحن في الشدة بأس يتجلى). وهذه قصة جديرة بالتأمل والاحتفاء.
هذه الدائرة الموحدة وجدانيًا ينبغي إفراغها… كيف؟ بالصراعات والمطامع، وتجاهل الدولة للقوى السياسية والمستنفرين، ومنحهم إحساسًا أنهم بلا قيمة، ولا وزن، وصوتهم غير مرغوب فيه، أو غير مسموع، ولا يستحقون المشاركة حتى في القرارات التي تهمهم. فيدبّ اليأس بينهم بسبب الوسواس الخناس الداخلي والخارجي، فيسهم ذلك في تشرذمهم وتقسيمهم، وقد يسيل لعاب البعض لذهب المعز الكفيل… فيبيع مع البائعين الرخيصين، وما أكثرهم في هذا الزمان.!!

4

إنه من دواعي السرور والاطمئنان أن الرئيس البرهان منتبه
تمامًا لمؤامرة إفراغ الدائرة هذه، وقد أحبط، وظل يحبط في كل مرة مخططات قوى الشر لإفراغها، وآخرها ما جرى الأسبوع الماضي، حين عالج بحكمة موضوع الصراع حولالوزارات التي تخص الحركات المشتركة، فأغلق باب الفتنة والإفراغ.وقبلها ، أحبط مخطط عزل الإسلاميين حين قال”إن الشعب كله يقاتل معنا”، وإن الحديث عن الإسلاميين مجرد فزاعة. وهنا تجدر الإضافة أن وصف البرهان لورقة الإسلاميين بـ”الفزاعة” لم يكن مجرد جملة عابرة، بل كان تعبيرًا دقيقًا عن إدراكه لمحاولة بعض الأطراف الإقليمية والدولية تصوير وجود الإسلاميين كتهديد، لا بهدف تحجيمهم فحسب، بل بهدف تحريض الجيش وتغبيش رؤية الأطراف الخارجية والتعمية حول حقيقة المعركة. فالفزاعة هنا ليست حقيقة تمثل تهديدًا فعليًا، بل أداة ضغط إعلامي وسياسي، تستهدف ضرب وحدة الصف الوطني وخلق شرخ داخل معسكر تحالف الكرامة. وفي تصريح آخر، أكد الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي والقائد العام للجيش السوداني، خلال تفقده منطقة أم درمان العسكرية يوم 13 فبراير 2025: “إن القوات المسلحة لن تتخلى عن كل من حمل السلاح وقاتل إلى جانبها في حرب الكرامة، وسيكونون شركاء في أي مشروع سياسي، ولن نستثني أحدًا.” وضاف “لن نتخلى عن الذين حملوا السلاح وقاتلوا معنا من مختلف التوجهات، وسنظل ثابتين حتى تطهير البلاد.”
5

أما القوى السياسية، فقد التقاهم الرئيس البرهان في أكثر من مؤتمر، واستمع إليهم بطول بال ورغم بلاويهم وصراعاتهم، ولكنهم في النهاية اتفقوا وقدموا مشروعًا موحدًا، ثماره الآن الشروع في تكوين حكومة مدنية. احترم الرئيس للقوى السياسية حقًا وجد في مشاورتهم. والآن، إذ تتقدم الخطوات في بناء مؤسسات الحكومة الجديدة، لا بد من أن يُقنّن سماع صوتهم عبر برلمان يساهمون فيه بشكل أكبر عبر مؤسسة رسمية تساهم في إدارة شؤون البلاد. أما المستنفرون، فكانت أغلب خطابات الرئيس البرهان تتضمن الإشادة بهم بجهودهم، ثم وفّر لهم السلاح حتى فاضت مخازنهم، ثم هو دائم الطواف على معسكراتهم حتى الأمس القريب في دنقلا.
6

إذا كان الرئيس البرهان واعيًا لفخ إفراغ الدائرة، وحريصًا على تماسكها وتماسك تحالف الكرامة، فإن على الآخرين أن يكونوا في مستوى هذا الحرص، بحيث لا
يشعر الرئيس بأن الذين في دائرته مجرد “خميرة عكننة”، كثيرو “النقة”، ومطامعهم بلا سقف. وعوضًا عن أن يكونوا عونًا له، أصبحوا عبئًا
ثقيلًا على الدولة، دون إحساس بعظم المسؤولية التي يتحملها، والمهام الجسام التي تنتظره، في وطن هو على حافة التشظي، وتتكالب عليه قوى الشر الإقليمية والدولية، لا لهدف إسقاط الرئيس البرهان أو حكومته، إنما لإسقاط الوطن نفسه، وهو في خضم زعازع تحيط به من جوانبه الستة. إن صمود الدولة السودانية في وسط هذه المخاطر لا يعتمد على وعي الرئيس وحده، بل على يقظة دائرته، وقدرتهم على تجاوز النزاعات والأقاويل والصراعات الصغيرة التي تدور في فلك حظوظ النفس، وتغليب المصالح الوطنية على المصالح الشخصية والفئوية الضيقة، وأن نتحلى جميعًا بالصبر والقدرة على تجاوز الصغائر، فالمخاطر أكبر والمتربصين كثر.
7

يظل الرئيس البرهان هو من يمسك بدفة الأمور في البلاد، ولذا مسؤولياته
أعظم، فلا بد أن يتسع صدره في هذه اللحظات الحرجة من عمر الوطن، ويمدّ حبال الصبر بامتداد يليق بعظم اللحظة، محتملاً الصراعات الكبيرة والصغيرة، ويسعى لاحتوائها والحرص على عدم السماح بـ”إفراغ الدائرة”. ولا شك عندي أن كثيرًا من المشّائين بالنميمة وزارعي الفتن، لأجندتهم الخاصة أو لأجندة أسيادهم بالخارج، سيسعون بلا توقف ولا ممل بالإعلام وبالهمس في أذن الرئيس وبالتحريض العلني وإثارة الزوابع هنا وهناك لدفع الرئيس البرهان لاتخاذ قرارات تعصف بـ”تحالف الكرامة” فتفرغ الدائرة ومن ثم تعصف بالوطن نفسه لا البرهان ولا حكومته. لا بد أن يتمسك الرئيس البرهان بالصبر الاستراتيجي الذي عُرف به.
8

إن أي انزلاق في اتجاه إفراغ هذه الدوائر من محتواها الوطني وتسفيه مواقفها وتضحياتها ، سيعيد إنتاج هشاشة الدولة، ويُعيد عقارب الساعة إلى لحظة الانهيار.
ما بعد الحرب لا يقل خطرًا عن الحرب نفسها، بل هو الامتحان الأصعب: هل نملك الإرادة للبقاء موحدين بعد انتصارنا ؟ ما يحتاجه السودان اليوم هو عقد وطني جديد، يتجاوز المحاور والمغانم، ويعيد تأسيس وحدة السودانيين على أسس من الشراكة الصادقة والتضحية المتبادلة. فهل نفعلها قبل أن يُفرغ الوطن نفسه من كل شيء؟

تعليق واحد

اترك رد

error: Content is protected !!