✍️ عثمان جلال
(1)
ادخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأساله هل تؤول الخلافة من بعده إلينا ويقصد (بني هاشم)، فإني اعرف الموت في وجوه بني عبد مناف؟ واستدرك علي والله لا أسأله ولو قال(لا) لمنعنا لها العرب ابد الدهر، هكذا دار الحوار بين العباس وعلي ابن أبي طالب، والنبي صلى الله عليه وسلم في الرمق الأخير من حياته، ومضى النبي (ص) إلى الرفيق الأعلى، ولم يحدد خليفته، ولم يحدد آلية الاختيار للخلافة، ولم يحدد سقفا زمنيا للولاية، ولم يحدد المسمى الوظيفي لخليفته. بل ترك تجربة في الحكم والدولة أدارها بعقله المتقد، وفكره ووعيه الفذ وروح الجماعة، ومحصنة بسياج من القيم والأخلاق وهذه التجربة تؤكد أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص قطعي الدلالة، وتعزز أن السياسة وفقه الحكم وإدارة الدولة في الإسلام شأنا دنيويا محضا، فكرا وسلوكا وممارسة، وتدخل في دائرة الأثر النبوي (انتم ادرى بأمور دنياكم)، وهذا يتماثل مع المفهوم المعاصر للسياسة وجوهره إدارة الموارد البشرية والاقتصادية والطبيعية لتحقيق المصلحة العامة.
(2)
هكذا كان يتعاطى النبي (ص)، مع قضايا الحكم وفقه الدولة، في التشريع (وثيقة المدينة كعهد بين العصبة المؤمنة والتيارات الدينية الأخرى في المدينة) في الشأن السياسي (تسوية صلح الحديبية، والتحالف مع قبيلة خزاعة دون إلزامها بالاسلام) في الفقه الاقتصادي (انتم ادرى بأمور دنياكم في قصة توبير النخل الشهيرة)،في الشأن العسكري (بل هي الرأي والحرب والمكيدة، وإعماله للشورى الملزمة داخل الصف المسلم في كل الغزوات الحربية التي خاضها) وفي القضاء والقانون (إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم ولعل بعضكم يكون أبلغ من بعض ومن قضيت له بحق احد إنما هي قطعة من نار فلياخذها أو يتركها).
(3)
دنيوية الفكر السياسي في التجربة الاسلامية الأولى تجلت في تداعي الأنصار والمهاجرين الى سقيفة بني ساعدة لاختيار القائد الجديد بعد وفاة النبي (ص) حيث قدم الخزرج منطقا سياسيا بحتا يعزز أولويتهم في الإمامة ورشحوا زعيمهم سعد ابن عبادة، وقدم الاوس منطقا سياسيا اكدوا فيه سبقهم في النصرة والمجاهدة ودفعوا بالصحابي (أسيد ابن حضير)، بل واحتاطوا تكتيكا بان يكون أعلى سقف تنازل يقدموه للانصار (منا إمام، ومنكم إمام)، وأيضا تداعى المهاجرون وفي طليعتهم أبوبكر وعمر وابوعبيدة، وانبرى أبوبكر رضي الله عنه ودفع بمنطق فكري وسياسي غاية في الرصانة والنصاعة وجوهره أن العرب لا تدين الا لقريش فهم أوسط العرب، وأهل البيت، وهم الطليعة المؤمنة الأولى، وكل القبائل العربية تلتصق بمصاهرات اجتماعية وتفاعلات اقتصادية وتجارية وهذا الجدال الرصين يؤكد ان المجتمع المكي القرشي كان أكثر مدنية وتنوعا وانفتاحا، وكثافة سكانية من مجتمع المدينة، ورغم نصاعة منطق أبوبكر اشتد الجدال السياسي بين الفريقين حتى كادت أن تتكسر النصال على النصال ولكن أفضت الممارسة الشورية الكثيفة إلى اقتناع الأغلبية العظمى بمنطق ابوبكر، وتواثقوا على مبايعته باستثناء قلة في طليعتهم سعد ابن عبادة وعلي ابن أبي طالب، ولم يرغموا على البيعة مما يؤكد أن القضية دنيوية محضة وليست إلهية أو مقدسة.
(4)
هذه العملية السياسية والتنظيمية لم تكن معهودة عند العرب ولذلك تقرأ في سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي باعتبارها عملية تجديدية كسرت معادلة السلطات الروحية والسياسية والعسكرية في مكة منذ وفاة الأب المؤسس قصي ابن كلاب والتي كانت محتكرة في بني عبد مناف وبني عبد الدار، وانتجت المعادلة الجديدة فكرا جديدا، وممارسة سياسية جديدة، وقيادة جديدة متمثلة في الخليفة الأول والثاني أبوبكر وعمر رضي الله عنهما، حيث كانا في مرتبة ادنى في تراتبية الهرمية الاجتماعية القرشية، ولذلك اندهش ابن ابي قحافة والد أبوبكر رضي الله عنه عندما علم بتسنم ابنه للخلافة وقال: (هل رضي بنو عبد مناف، وبنو عبد الدار، وبنو المغيرة، ما وضع من رفعوه، وما رفع من وضعوه) .
(5)
ثم اطرد التجديد في الفكر السياسي الإسلامي، وعندما دنا أجل سيدنا أبوبكر دفع بعمر ابن الخطاب مرشحا للخلافة وحاز على إجماع أهل الحل والعقد موئل الشورى في ذلك العهد ، وقبل مفارقة عمر رضي الله عنه للحياة قال: (لو كان ابوعبيدة ابن الجراح حيا لرشحته لكم لأنني سمعت ان النبي (ص) قال عنه انه (امين هذه الامة)، ولو كان سالم مولى اباحذيفة حيا (وكان من الموالي) لرشحته لكم لأنني سمعت الرسول (ص) يقول عنه (انه يحب الله ورسوله)، ولكن توسع عمر في البدائل وقدم ستة مرشحين انتهت عملية الجرح والتعديل السياسي باستبعاد اربعة، وقدم المرشحان (عثمان وعلي رضي الله عنهما) برنامجهما الانتخابي، وفاز برنامج عثمان ابن عفان بعد أن تم إجراء الشورى عليه في كل مجتمع المدينة والذي كان بمثابة الممثل المنتدب للمجتمع الإسلامي المتداعي في اصقاع جزيرة العرب، حيث كان يتعذر الاجتماع لصعوبة وبدائية أدوات الاتصال،وقد جاء صعود علي للخلافة بعد مقتل عثمان رضي الله عنهما باجتماع السواد الأعظم للصحابة وممانعة مجموعات كبيرة لتقديرات سياسية تقدر في سياقها التاريخي والسياسي وانتهت الى الصدامات المؤسفة في الجمل وصفين، وهذا المنحنى الحاد في التعاطي مع قضية الحكم يعزز دنيوية وعدم إلهية وقدسية الشأن السياسي، وقد انتهى الصراع بصلح استتب به شأن الخلافة لعلي رضي الله عنه وبعد مقتله انعقدت البيعة لابنه الحسن الذي أدار الخلاف مع معاوية بعقلانية أفضت لاتفاق تنازل بموجبه عن الخلافة لمعاوية مقابل ترك الأمر شورى بين المسلمين بعد وفاته، ولكن معاوية نقض العهد وارتدت الخلافة منذ ذلك التاريخ إلى هرقلية كسروية ونتج عن ذلك القطيعة التاريخية في الفكر السياسي الإسلامي.
(6)
هذه التفاعلات في الفكر السياسي الإسلامي تعزز انه فكر بشري ولكنه قيمي واخلاقي يجمع بين واقعية العهد القديم ومثالية العهد الجديد،وأنه نتاج ثمرة تفاعل بين عقل المسلمين وأحكام الدين المثالية وهذا العقل يتكيف بنوعية وكمية المعارف والتجارب والمهارات جيلا بعد جيل، ولذلك انعقدت عملية تجديد الفكر السياسي بادي ذي بدء للانبياء ثم الفقهاء والعلماء ثم لتشمل كل الاجتماع السياسي الوطني في الدولة المعاصرة بكل تنوعه الديني والاثني والهوياتي، وينم كذلك على أنه فكر يسعى للتوحيد بين المثال والواقع المتحول وبينهما إرهاق خلاق من الانتهاض والتجديد والتقادم لكن يجب أن يكون التدافع الفكري والسياسي متصلا للوصول للمثال الديمقراطي والشوري (دولة العدالة والقانون والمؤسسات والتي تسع الجميع ) ولكن وما هم ببالغيه، وهذا يؤكد نسبية وبشرية اي تجربة تنهض في الحكم باسم الدين، ويدلل بأن أي فشل أو إخفاق مرده لسلوك الجماعة السياسية الذي تصدت للتجربة وليس لمثالات الدين المطلق فالعلاقة بين الدين والدولة وفقه الحكم ازلية ومستمرة والتجارب بشرية ونسبية، مما يؤكد الا كهنوتية أو ثيوقراطية في فقه الحكم وإدارة الدولة في الفكر الإسلامي
(7)
نلاحظ أن الفكر السياسي الإسلامي في اطراد تشكله وتطوره في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كان دوما ينزع إلى استعادة قيمة الإنسان والمجتمع كمرجعية في قوامة الحكم بعد أن كان ذلك مختزلا في صفوة ارستقراطية فوقية، فالاسلام دين شعبي وجماهيري، الممارسة السياسية لاختيار الحكام تأتي من قاعدة المجتمع، ومصدر الفقه والعلم من صلب المجتمع، وتكوين وتجهيز الجيش من عمق المجتمع، والنظام الاقتصادي يتبلور حرا من المجتمع، وتجليات الحركة الأدبية والفنية والثقافية تداعى من عبقرية المجتمع، وصناعة التنمية والنهضة عصبها المجتمع، وبهذا التوازن في العلاقات الرأسية والافقية كانت الخلافة الاسلامية قوية والمجتمع قويا. ولكن عندما ارتدت هرقلية وكسروية تم اختزال الحركة السياسية والاقتصادية والثقافية مركزيا في قصر الخلفاء وضعفت الخلافة وجمد المجتمع.
(8).
ان اطراد وتطور الفكر السياسي الإسلامي المعاصر يضع التيار الإسلامي الوطني العريض في السودان أمام تحدي ضرورة اجتراح فكر وممارسة سياسية جديدة، تكون الأولوية فيه مركزة على قضايا وقف الحرب وبناء ثقافة السلام وسط المجتمع، وتعزيز قيم التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية، والتراضي والتوافق مع كل القوى السياسية الوطنية لبناء دولة العدالة والقانون والديمقراطية والتي تسع الجميع بتنوعهم الديني والايديولوجي، والاثني والهوياتي، تكريسا لقيمة التداول السلمي في الحكم وتحقيقا لمشروع النهضة الوطنية السودانية المستدامة وهذه قيم ازلية وثابتة في كل الديانات والشرائع السماوية والوضعية.