د.ابراهيم الصديق
(1)
عادت الإذاعة وعاد التلفزيون وعاد المسرح القومي ، إلى الوطن ، لم يكن ذلك الحوش مجرد قطعة أرض ومبان ومعدات ، انه رمزية وتاريخ أمة ، وكانت عودته بذات ملامح الوطن ، ضاجة بالبسالة والشجاعة والإقدام و (البصارة).. ذلك الفضل من الله.. فى أمسياتنا الهادئة كان أثير الإذاعة رفيقنا ، نأخذ ركن فى الدار ، نمضى بدايات الليل فى إلتقاط الموجات الطويلة ونستمع لهيئة الاذاعة البريطانية BBC ثم مونت كارلو ، قلة هم الذين يستمعون لها ، وصوت أمريكا ، حتى إذا أرخى الليل سدوله دلفنا إلى امدرمان الودودة ، والأنس والثقافة والحكايات والناس والمجتمع .. وحين أمتلأت المساحات والفضاءات وتعددت المصادر ، كانت امدرمان هناك ، صوت الناس ، قضاياهم وهمومهم ، أوديتهم ومزارعهم ، أمدرمان قصة تواصل حميم.. وحين اصبحت جزءا من ذلك (الحوش) بتعريفاته الثلاث (الإذاعة والتلفزيون والمسرح القومي) وجدت لوحة متنوعة ذات هدف واحد ، الثراء المعرفي ، نعم تلك أسمى غايات الإعلام ، حين تكون للرسالة (هدف) ، و كل يسعى من مدخل ، الترفيه ، التثقيف ، التوجيه ، التزكية ، ولكل رسالة توصيف.. ما ابدعهم.. هنا تتعرف ليس على الرسائل فحسب ، وإنما على وجوه ذات أثر قد كنت تسمع بها أو تراها من خلال الاثير ، وقد لا تنتبه.. قوم هم جزء من رهبان ذلك المكان..
(2)
تعرفت هنا فى التلفزيون على أناس خلف الكواليس ، قد لا تراهم ، (يسين خليل ، موسى محمد على ،عباس عبدالله ، الصادق ، بابكر الصادق ، هاشم على مالك ، عوض الفكى ، حسن عبدالرحمن ، وابشر ، عوض وراق ، عبدالسلام كامل ،وكمال نورالدائم وم. عبدالقادر ورجاء وبختان وعوض نعيم وعوض الكريم احمد المصطفى والفحام والحاج فرح وعثمان محمد صالح، زينب محمد احمد ، آمال مرجان ، عبدالقادر مهران وآخرين) تقبل الله الذين رحلوا منهم ، وبالتأكيد تعرفون بقية الأسماء من النجوم اللوامع من مذيعين ومقدمين ومدراء ، هذه بدور ساطعة.. وعرفت الاذاعة عن قرب ، والاذاعة ، معتصم فضل ، صلاح الدين الفاضل ، عبدالعظيم عوض ، السر السيد ، طارق البحر ، الشاذلي عبدالقادر ، البزعي ، الكتبي وعبلة محمود بخات ومحمد عبدالكريم وآخرين هم غرس هذه الارض ، فيهم نخوة سودانية خالصة ، وارتباط عجيب بالإذاعة ، كانما عروقهم اسلاك الأثير.. وهذا إرث قديم منذ متولى عيد ،و محمد متولى فهمى ، والخانجى ، و صالحين ، أبو العزائم ، وعلي شمو وصلاح أحمد محمد صالح ، وحمدى بدرالدين والتاج حمد ، و حمدى بولاد ، وآخرين لا تسعفنا الذاكرة ولكنهم فى الوجدان.. عرفتنا الاذاعة على الطيب صالح وعبدالله الطيب وصديق أحمد حمدون وفراج الطيب والطيب محمد الطيب وصلاح محى الدين والفحل ، هذا مجال واسع.. الاذاعة والتلفزيون ليست رقعة فى حي الملازمين إنها (نقطة) فى وجدان الوطن.. فيها تاريخ إنساني عظيم ، احاديث وتقارير ومشاهد وشهادات وتلاوة وتفسير واغنيات ومدائح وجد وفرح ، فيها وطن بتاريخه وبثقافته وتجاربه وحكاياته ، ولذلك تعلق بها الجميع..
(3)
وفى غفلة من الزمان ، حام حول ذلك الحوش الأوباش منذ عام 2019م ، وطنوا انفسهم حوله ، وقد تباعدت عنه منذ ذلك الوقت لم يرق لى أن أراه مكبلا ومحاصرا ومخنوقا.. لكن الفاجعة اطلت يوم 15 ابريل 2023م ، حين وضع الجنجا (الكلابيش) حول الحوش وأجبروه صوته على الجهر بإسمهم وأطفأوا بهاء الصورة.. سكن الصمت تلك المؤسسة الصاخبة.. كانت تلك مؤامرات ومحاولات مستمرة.. فى يوم الجمعة 24 مارس 1984م ، كنت ضمن المصلين بمسجد فيصل بأم درمان شارع العرضة حين أهتزت الأرض وسمعنا دويا ، لم تكن وسائل التواصل متاحة ، وحين عدنا إلى مهجعنا علمنا أن طائرة ليبية قصفت اذاعة أمدرمان ، قطعوا آلاف الكيلومترات لإسكات صوت الاذاعة ولكنهم أخطأوا ، كانت الإذاعة دوما فى مرمى الإستهداف.. وخرجت من كل معاركها منتصرة ولإنتصارها طعم.. وفى صباح 15 ابريل 2023م ، كانت قوات المليشيا تخنق الإذاعة مع تفتيش الداخلين اليها بغلظة وشدة ، حتى إذا اقتربت الساعة من التاسعة صباحا ، تم الطلب من جميع العاملين غير الضروريين مغادرة الحوش ، وتحول البث إلى مجرد تكرار إلى برامج ومقتطفات بعد توقف الاستديوهات ، ثم انقطع البث بعد تعطل الارسال ، وتم حبس عدد من الاذاعيين والفنيين بالتلفزيون لأكثر من شهر ، وبعد ذلك تحول الحوش إلى سجن كبير ، وتحولت المباني إلى منصات لاطلاق الصواريخ والدانات ومضادات الطائرات ، حولوا منارة المعرفة إلى مركز للاعتقال ولإرسال ادوات القتل ، وهكذا هم فى كل السودان.. كأن لهذه الرقعة سحر ، عاد البث الاذاعي والتلفازي من محطات ومناطق أخري ، ولكن الناس ظلوا يتساءلون عن الاذاعة ، كأنما ذلك المقر قد ارتوى من عرق السابقين فأصبح للبث فيه طعم ومذاق وارتباط ، أو كأنما غشيته من النيل نفحة ذات لمسة سحرية..
(4)
عادت أمدرمان حفية بكل بقاعها ومناطقها ، وزواياها ، وسقط دون ذلك شهداء وجراح ورهق وتعب.. تقبل الله الشهداء وشفا الجرحى.. عادت ولعودتها وقع فى ظرفه وزمانه وكيفيته ، فهذا مكان تتميز فيه بالبصمة ، والبصمة كانت (السحق بلا هوادة).. لقطات جوية تكشف التفاصيل ، كوم من الآليات المحترقة ، الدخان والنيران ، فى كل زاوية ، جوار مستشفى الدايات ، وبوابة عبدالقيوم وحوش الخليفة ، والصمت والموت.. الحوش الذي أتخذوه منصة للدعاية والاستعراض والضجيج هو اليوم غارق فى (الصمت) .. هدير الاليات المدرعة والعربات المصفحة والرشاشات فى صباح اليوم الثلاثاء 12 مارس 2024م تحول مع انبلاج الفجر إلى (حطام).. حتى فضيلة الهروب سقطوا فيها.. وعندما أراد قائد المليشيا بث أكاذيبه عن عمليته الناجحة ، لم يجد من يستحق التهنئة سوى جنود تمت ترقيتهم الى ضباط ، وهم الآن ما بين سؤال القبر أو سؤال الأسر!! فقد ترك القادة وخاصة أبناء دقلو الميدان لآخرين أغلبهم من عد الفرسان.. إنها العزة والكرامة.. عادت الإذاعة والتلفزيون وعاد صوت الوطن وصورته وعصافير الخريف.. هنيئا بالنصر فى شهر الانتصارات.. 12 مارس 2024م