(1)
“هذا ليس كافياً”.. كان ذلك تعليق الرئيس الأوكراني زيلينسكي على العقوبات الأمريكية والغربية على روسيا، وهو يرقب سماء عاصمة بلاده كييف ملبدة بدخان المعارك وأصوات القصف والآلاف من مواطنيه بدأوا رحلة اللجوء القاسية.. وتلك نتائج الحروب والمعارك غير المدروسة والحسابات الراهنة، فلم يكن الأمر مجرد مواجهات جيوش، بل هو صراع دولي كبير..
فقد كشفت الحرب بين روسيا وأوكرانيا عن حادثات مستجدة في سجالات الصراعات الدولية، ويمكن أن نشير لبعضها بالآتي:
- قوة “اعتمادية” المجتمع الدولي بعد الحرب الباردة، وتوثق العلاقات المالية والتجارية، وأصبحت الشعوب أكثر ترابطاً مع بعضها البعض، ولذلك تتحرك الأسواق العالمية مع أي حدث صعوداً وهبوطاً، ويتعذر اتخاذ قرارات خشية انعكاسها على جوانب أخرى. فهناك الغاز الروسي الذي يوفر حاجة ٤٠ في المائة من أوروبا، والتبادلات المالية (سويفت)(SWIFT) ، ولذلك تأتي المواقف أقل من التوقع وبالتركيز على الأشخاص وليس المؤسسات، فلم تفرض العقوبات على البنوك أو الصادرات أو الواردات أو حركة النقل..
- قوة الاتصال البشري، والفضاءات المفتوحة والنقل الحي للأحداث والشواهد، ولم يكن ذلك ممكناً في الحروب الباردة (ما قبل ١٩٩١م، تاريخ تفكك الاتحاد السوفييتي)، وهذا أتاح فرصة للتأثير على الرأي العام وخفف الضغط على المنابر والمنصات العقائدية، ولم يعد ضرورياً أن يصدر الحزب الشيوعي السوداني بياناً عن “الإمبريالية الدولية”.. والحصول على البيانات متاح مع خيارات متعددة..
- فعالية أجهزة الاستخبارات والتجسس المفتوح، فمن السهل معرفة حركة القوات الروسية وأسلحتها واتصالاتها. وقد كشفت منذ وقت مبكر نوايا الروس، وذلك من خلال الأقمار الصناعية وشبكات الاتصال، لا حاجة للجواسيس والرسائل المشفرة، كل شيء على شاشات العرض..
- هشاشة الراهن الدولي، بعد أزمة اقتصادية في عام ٢٠٠٨م، وقبل أن يتعافى الاقتصاد العالمي، ثم تداعيات كورونا، فإن أي حرب أو هجرة بشرية تشكل تهديداً ومأزقاً كبيراً.. وهذا بعد آخر للترابط الدولي..
(2)
دخول القوات الروسية الي العاصمة الأوكرانية كييف بداية فصل جديد في السياسة الدولية، فقد كشفت الحرب عن وقائع مهمة:
أولا: سيادة مبدأ المصلحة في العلاقات الدولية متجاوزاً مبدأ السيادة الوطنية والقانون الدولي، فمثلما دخلت روسيا إلى أوكرانيا لأغراض أمنها القومي، فقد فعلت ذلك أمريكا في العراق وسوريا وأفغانستان، بل إن قواتها اختطفت رئيس حكومة بنما من بلاده (دانييل نوريغا عام ١٩٨٩م )..
ثانيا: غياب القيادة ذات القدرات (الكارزمية)، لم يعد هناك جيمي كارتر ولا مارغريت تاتشر ولا فرانسو ميتران ولا أنجيلا ميركل، مجرد شخصيات أشباح، أمثال جونسون وماكرون وحتى بايدن في ظهوره الباهت وشخصيته المهزوزة المتلعثمة. لا تتوفر قيادة مركزية ذات إجماع دولي للوقوف أمام سطوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتحشد الدعم الدولي..
ثالثاً: بروز قوة المحاور والتجمعات الإقليمية على حساب مفهوم الأمم المتحدة، فالمفوضية الأوروبية، (حلفاء أمريكا وبريطانيا) تقود توجهاً وخيارات، بينما روسيا والصين تشكل تحالفات أخرى. وهكذا يبدو أن قوة هذه المؤسسات ستحدد مستقبل المجتمعات البشرية، فلم يعد مجلس الأمن منبر للمساومات السياسية، وهذه نقطة مهمة لتعزيز خيارات الأمم وخاصة أفريقيا والدول العربية..
ورابعاً: ازدواجية المعايير دون حياء، فقد لاحظت أن بعض المعلقين الغربيين يشير إلى أن لدى الرئيس الروسي مطامع، كما حدث في سوريا. إذن كيف تعامل المجتمع الدولي مع أحداث سوريا؟ هل دعم المقاومة؟ هل فرض عقوبات على روسيا وقادتها؟
إن كل هذه المؤشرات تؤكد ان هناك مرحلة جديدة في الصراع الدولي..
(3)
في حزيران/ يونيو ١٩٨٧م وفي الجلسة العامة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، قدم الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف رؤيته للإصلاح السياسي والاقتصادي (بيروستاريكا)، وأحدثت تلك الإصلاحات اختلالات كبرى في بنية الدولة السوفييتة وأدت لتفتيتها (١٥ دولة تبدأ بـ”جمهورية” وتنتهي بـ”السوفييتية الاشتراكية”، وهي: أرمينيا وأذربيجان ومولدوفا وليتوانيا وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوكرانيا وأوزباكستان وإستوينا ولاتفيا وبيلاروسيا وجورجيا)، بشكل كامل في ٢٥ كانون الأول/ ديسمبر ١٩٩١م. أصبحت روسيا دولة ذات سيادة، وتولى بورس يلتسن رئاسة الاتحاد الروسي واستقال في كانون الأول/ ديسمبر 1999 في ظل ضغوط داخلية كبيرة ومواجهة مع البرلمان وتصاعد الغضب الشعبي وتدهور الوضع الاقتصادي، وتولى المهام رئيس الوزراء آنذاك فلاديمير بوتين. وخلال عقدين من الزمن أعاد بوتين ترميم الدولة الروسية وبناء الاقتصاد، دون أن ينسى تمدد حلف الناتو في حديقته الخلفية (دول الاتحاد السوفييتي السابق).
إنه واقع جديد، وخلاصات جديدة تبرز في:
أولاً: بروز قوة دولية جديدة، تضم جمهورية روسيا الباحثة عن الأمن القومي وجوارها وبحر البلطيق ومصالحها، والصين الباحثة عن نموها الاقتصادي.. وهناك كثير من الدول يمكن أن تساند هذا الحلف..
وثانياً: خيبة وخذلان الاعتماد على الخارج في الحسابات الداخليةو علاقات الجوار. لقد اكتفى الاتحاد الأوروبي وأمريكا بعقوبات اقتصادية وحفنة أسئلة والكثير من القلق، بينما ضاع استقرار وأمن أوكرانيا ومواطنيها، ودُمرت بنيتها التحتية.. وعلى الأمم والشعوب النظر في مصالحها بمعزل عن حسابات الخارج المعقدة..